الفرق بين القصيدة الرمزية.. وقصيدة فوزية!
كررت في كثير المواضع من قبل –دون ملل- استيائي من أنّ تآكلَ الطبقة المتوسطة اقتصاديا يوازيه تآكل للطبقة المتوسطة أدبيا وثقافيا.. فصار الشاعر الذي يملك لغة وسيطة وجوًّا متوازنا في مأزق كبير.. لأن المتلقي العصري سيساوي دون شك بينه وبين المغرقين في الغموض.. المتلقي العصري في حوزة مصاصي الدماغ ولا ألومه لحظة.. فالمسألة ليست قاصرة على الشعر والشعراء فقط وإنما في مجالاتٍ أخرى كثيرة مُزقت الجماهير -على شرف سعيها وراء الاستمتاع بما يقدّم- بين البحث عن هذا الاستمتاع وبين رغبتها في الحصول على قيمة جمالية حقيقية في العمل وهذا عندما صَعُبَ على صاحب المأدبة أن يجمع بين الاثنين..
والحديث عن الشعر والأدب تحديدا يحتّم علينا التوضيح..
ضروري لنا ألا نساوي بين كلِّ مَن توجد مسافة بينهم وبين المتلقي.. فليس كل من كتب قصيدة تعسّر فهمها صار ينتمي إلى الرمزيين لمجرد أنه اضطر المتلقي حين سمع نَصّه أن يقول: أنت تقول كلاما ممتازا ولكني أنا الحمار !
وهذا الفرق الذي هو بين القصيدة الرمزية والقصيدة التي تتمسّح في الرمز لا يظهر للبسطاء ولذا كان الخلط.. الرمز يا عزيزي هو الذي إذا قُرئَ على المتلقين رآه كل متلقٍّ بصورة مختلفة عمّا رآه غيره.. أي أنه حين تقرؤه يفرز لك معنى.. ولفلان معنى.. ولغيره معنى.. وهكذا
أما أن تقرأ النص وأنت تملك من اللغة والحس ما تملكه ومع ذلك لا ترى له وجهًا واحدا تؤوله عليه وكأن صاحبه افترض أن قارئه بالضرورة مصاب بالصرع الروحي أو حُمى التمييز.. فهذه هي قصيدة فوزية!.. حيث التقليد الأعمى غير المتقن الذي يدفع صاحبه إلى التوَهُّم واعتقاد أنه حاكَى كما قرأ..
تستطيع أن تتبين الفرق بين الاثنين حين تشبّه النوع السليم بالنهر.. النهر يمر عليه الجميع ويغترفون منه باختلاف استيعابهم واحتياجهم بل وهناك من يغتسل فيه ومِن ثم فكله منافع.. أما النوع الثاني فهو يشبه بحر الرمال.. الذي يخدع الجميع باستوائه ولا يجني الناس من الاحتكاك به سوى الغوص والغرق
ولكن كيف لنا أن نبرز هذا للمستمع ونفهمه حقيقة أن الغموض المفتعل والمتعمد لا يصنع إبداعا؟
أو متى يكون العيب في الشاعر ومتى يكون العيب فيه؟
إننا الآن في مرحلة انتشال الجمهور أولا من حمام البخار الذي كَتّفَ عينيه وشوّه الرؤية أمامه مضطرا إياه إلى الأسهل أو الاعتماد على حواس أخرى غير الإبصار والرؤية.. وليس من الحلول أبدا أن نرميه بالجهل والتخلف مكتفين بأن نقول الكلمة الشائعة التي خربت الساحة بالكامل وهي "أنا أكتب لنفسي"! .. إذا كنت تكتب لنفسك وتعتبر نفسك مدينة من المتلقين مستغنيا عمّن يقرأ لك فأنصحك ألا تجهر بما تكتب.. واجعله حبيس الأدراج حتى لا تظهر أمام نفسك بمظهر المتناقض
ولتقتنع تمام الاقتناع أن أجلَى المناطق التي لا يصلح فيها العناد هي الإبداع.. ولا أظنك تجهل قول القائل إن الشعر الذي لا يحرّك القلب ليس شعرا.. فإذا رأيت من برْمَجَ الذوق العام على التحرك إلى لُقيماتٍ لا تقِمن صُلبَ الروح فلا تستغنِ أنت عن كل بواعث التحريك مكتفيا بتنقيح النص وسلامته الفنية فقط.. بل نقّب في ذاتك عن أجمل ما يمكن أن تعطيه كي تحسم الأمر بأنك موهوبٌ تمتلك قريحتك التربة الخصبة لزراعة الأفكار وتوالدها أو غير موهوب.. واعلم كيف تجد المدخل الذي تدخل القلوب من خلاله وتُحَركها.. ذلك أفضل ألف مرة من أن تكتفي بالمهاجمة أو الهروب
محمود موسى