دعــوة إلى تبني مصطلح...:"النّــقــد الأدبــي الثّقافـــــي".
يعتقد عامة الأدباء وليس خاصّتهم..أنّ كلّ النّقد المعاصر مستورد من الغرب..فيصدرون انطباعات ذاتية خاطئة ،تفسد البحوث المؤسّسة ،وتوهم القارئ البسيط بجدواها ،وتشكّكه في التّخصصات المختلفة..
نترك المثقّف الحصيف/مبدعا ،وقارئا/..
مع هذا المنجز المتواضع ،ويحكم من خلاله..
لقد روّج بعض الدارسين لرأي ينبئ بجهل الغاية من ضبط المنهج الإسلامي للعقل وللمشاعر.إن المشاعر ما لم يضبطها العقل ،ترجمتِ الأهواء النفسية ومالت إلى تحيُّّن فرص المتعة التي تمثلها نشوة ولذة.فالمتعة من التّرف ،والتّرف مدعاة إلى ضياع الحضارات بفساد الخلق والميوعة، وغياب تدريجي للعقل .
فالأدب في صدر الإسلام ـ كما سنرىـ وُجِّه كوسيلة لخدمة المنهج والتبعية له والتوافق معه،يخدم الأهداف الرسالية الكبرى ،فهو مضامين حاملة للحكمة ،والرأي الصائب المنضبط بالعقل.فهو مبعث قيم الجدّ من :صرامة ،وانضباط،واعتدال،ونزاهة،و وجاهة في الحقِّ بالحقّ.
ولمّا قلّ مفعول الأهواء بفعل اضمحلال عناصر الإثارة النفسية ،وما يحدثه من انفعال ،اتّهم الأدب بالضعف،بل الصواب أنه كان سيّدا في الجاهلية ،فصار بعد الإسلام خادما ،تابعا للمنهج الجديد.:"عصر الفتوحات الإسلامية لم يكن عصرا شعريا ،وإنما هو عصر الإنجاز مما يشير إلى أن الشعر والإنجاز شيئان متغايران ،وحينما ركن العرب إلى الراحة والسكون عادوا إلى الشعر ـ حسب شهادة ابن سلام الجمحي ـ /../،وابتدأت العودة إلى ثقافة الجاهلية وأنساقها الشعرية المتجذّرة في الوُجدان ،والتي شبّت ونمت مع بني أمية ثم مع بني العباس،حيث نشأت المؤسسة الثقافية محتكمة إلى أنماطها الجاهلية وجرى تدوين الأنساق وترسيخها منذ ذلك العهد."/../
بل الصواب الذي أراه أن القوم تشبعوا بثقافة الجّدّ ،حيث فجّر المنهج الرّباني الحداثي المتجدّد مع الإنسان في بيئته وزمانه ينبوعه في ذات المتلقي ،وانصهر الكلّ في سلوك ثقافي واحد موحد هو الالتفاف حول تحديد مصير الأمّة ودعمه وتوجيهه ،وصار التعبير عن الذّاتية الفردية ومشاعرها الخاصّة عيبا من عيوب اللّهو والعبث الذي يعيق المصار الحضاري للأمّة،وتزكية النّفس من مثبّطات القيّم.فاتّجه شعراء الدّعوة إلى الدّفاع عن المنهج ،وبعدهم شعراء الفتوحات الإسلامية .
وهنا نسجل القوّة الفكرية الصّحيحة التي حُظِي بها الأدب الإسلامي،وبما تحمله من مشاعر وعواطف مُعبّر عنها مستقيمة مع المنهج.إنه بديل اللهو ولواحقه.
معارضو الفكر الإسلامي يتّهمون الأدب الإسلامي في صدر الإسلام بالاضمحلال والضّحالة .والأسباب موضوعية ومقنِعة ،حيث أنّه لمّا نزل القرآن الكريم ،انبهر العرب في بيانه ،ومضامينه الجديدة عليهم ،ووجدوا فيه الزّاد المعين ،فضلا عن تكليفهم بفهمه وتنفيذه ميدانا في عالم السّلوك.من هنا طغا دوره على "ديوان العرب".وكذلك وضعه لشروط وضوابط فكرية قلّصت مساحته المطلقة حينما صارت المضامين تدور في فلك القرآن ولاتخرج عن تصوّراته للكون وللإنسان وللحياة.
ثمّ هم يتّهمون أيضا الخيال العربي بالجمود والضّيق ،والجواب نفسه ،هو انضباط هذا الخيال بضوابط حدود الشريعة الإسلامية.فحينما يتقلّص دور الخرافة ،والكذب ،والتّهويل ـ وهي مرتع الخيال ـ ينسجم الخيال مع الضوابط العربية الجديدة.
إن السّلوك الفردي والجماعي الظّاهر والباطن انسجم مع المنهج الرّسالي الذي نعتبره الينبوع الصافي الحقيقي الذي لاينضب له معين إلى يوم الدين.انضبط بضوابط الشريعة الإسلامية.
ومع مجيء العصر الأموي بدأ التفسُّخ تدريجيا ،ثم عمّ وغاب زاجره،وانتشر،وتشجّع سياسيا ،وترسّم وأقرّته المؤسسة.إنه السّبيل الوحيد الذي يبقي الحاكم في حكمه،والذي يسمح لمناوئ الرسالة ،أولئك الذين أسلموا تحت قهر وجبروت عموم الرسالة ،بأن يتنفّسوا الصعداء ،مما يصطلح عليه اليوم بـ "سلطة الخفاء"التي تعيث في الأرض فسادا.
ومما ساعد أيضا على عودة انتشار الأنساق هو أنّ العرب اعتمدوا في خطاباتهم على البديهة ،واللفظ على حساب المعنى والتّدبّر والتأمّل ،واكتسحتهم الحالة ،وسادت نسقا ثقافيا مضمرا في التعبير .والحجة أن اللفظ له شرف الأوائل ،وبلاغته قيمة شعرية،لنسجل انبهارا في اللفظ وتغييبا للفكر :"وانتقل النسق الشعري هذا إلى الخطابة وصبغها بالصبغة نفسها ،البديهة واللفظ ،ثم أصيبت الكتابة بالعدوى النسقية ،فاحتل اللفظ مكانه الثقافي الأعلى وصار منهجا تربويا له حضوره الاجتماعي والسياسي والاقتصادي أيضا."/../
وهذا الاهتمام الشعري المتواصل أخضع كل القيم إلى معانيه وأساليبه،فشعرن الشعر الذات ،وشعرن القيم ـ على حدّ تعبير الغذّامي ـ،وصارت ذاتا شاعرية لاقيمة لها إلا فيما يمليه الشعر:"استسلمنا لقاعدة نقدية/بلاغية/ذهبية تمنعنا من النّظر في عيوب الشّعر لأنّها تحرّم علينا مساءلة الشاعر عن أفكاره،وتحدد لنا مجال الرؤية فيما هو جميل وبلاغي،وليس لنا النّظر في العيب والخطل الفكري،والرّخصة الوحيدة في النّظر إلى العيوب الشّكلية في الأوزان والقوافي أو في عيوب التعبير اللفظي."/../.
لقد عاد الشعر إلى سيادته الأولى محمّّلا بأنساق ما كان يعرفها في بدايته،لقد نقل الحياة من الواقع إلى الخيال :"وهي العملية التي تولّت تحويل القيم من معانيها الإنسانية إلى معان شعرية ،مما جعل المنظومة الأخلاقية تندرج في المدرج الشعري وتتحول إلى قيمة بلاغية متينة الصّلة مع الواقع والمنطق."/../
ودلالة حياة الأمة هو الجدل القائم بين مؤيّد ومعارض في بداية عصر التّدوين،كما اشترط ابن سلام سلطة القارئ وعوّل عليه في:"القدرة على التمييز بين أصيل ودخيل."/../.
وإذا به مع غيره من المتخصّصين ،كانوا يدركون خطورة الوافد الثّقافي المنحرف،أو قل كانوا يأخذون النّقد "منظومة أدبية ثقافية شاملة".
لكنّه أمام عودة الأنساق الجاهلية ،لم يقف العلماء متفرِّجين بل حاولوا تصويب ما أمكن ،رغم أن قوّة المؤسّسة الرّسمية غلبتهم بدوافعها السياسية:"كما جسّدت من طرف خفي زمن الحداثة وفرض نتاجها على الأذواق ،وربما كانت مقبولة عند عامة الجمهور ،يستسيغها ويقبل عليها حفظا وتدوينا ،ويرفضها العلماء والرواة من منطق سلطة النموذج الجاهلي."/../.
وهذه دلالة أخرى على مزج العلماء "النقد الثقافي بالأدبي".
لقد خضع في هذه الفترة الحرجة من الاستحواذ على المشروع الرّسالي الأدب للسيّاسة ،ولم يستطع التّحرّر ،وإن تحرّر فهو مضمر غير بارز على السّاحة الجماهيرية:"الأوضاع السياسية أحيت النّعرة الجاهلية ،الملك العضوض ،وأعادت الفخر،والهجاء،والغزل الماجن،والأنساب،والأيام ،والشعوبية،وصف الخمر ومجالس اللهو.وكان الإسلام حدّد الفكر ،وأعلن القطيعة التّامّة مع كل الرّذائل الجاهلية ،وجاءها ببدائلها ،ماعدا اللّغة ومحمولاتها من نصوص في استمراريتها رافد حي لفهم جديد."/../
ومهما اتّصف الأديب بالتّحرّر الوجداني ،ومهما أبدع وأجاد ،فإنّه عضو في المجمتع، كثيرا ما يخضع لرؤيته ،ويتأثّر بثقافته:"إن رؤية الأديب الفكرية ،وفلسفته عن الحياة والكون، إنما تتبلور بتأثير المجتمع والمحيط والتّربية.والأديب يؤثّر في مجتمعه ،فيسهم في تطويره وإصلاحه،وقد تحمل كتاباته بذور الثورة والتغيير،وصياغة مشاعر الناس وأحاسيسهم على نمط معيّن."/../.
وقد آن الأوان كي تراجع الأمة تراثها الكلي ،لتطرح الأنساق الثقافية المشوِّهة للسلوكات:"وهو نسق لن تتخلص منه الثقافة إلا بمجهود نقدي شجاع ومتواصل ،وقد آن أوان هذا النقد الثقافي ،الذي أرى أن عمر بن عبد العزيز هو أول رواده"/../.
نعم ،لقد اجتهد عمر بن عبد العزيز في إعادة الثقافة إلى سيرتها الصائبة ،لكن الرائد الأول هو الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أرسى قواعدها الحقيقية مركزا على الفكر الشعري والأدبي الذي يخضع ويتبع ويشرح المنهج الإسلامي ،وقد تبع سيرته الخلفاء الراشدون،باعتبار النقد متابعة دائمة للأدب والتنظير له ،ولقد حدد الإسلام كثيرا من القيم النقدية ،ورسم الجمال في قضية الإبداع ،فالقرآن "كلمة"حددت الطريق ورسمت المنهج العام،وقد أعادت هذه الكلمة رسم الحياة،وصحّحت مفاهيمها ،وأعادت بناءها.وقد التزم الأدب بالخط الفكري للإسلام،وصار الشعر وسيلة لرسم ونشر القيم الإسلامية ،من تهذيب الطباع ،وتصوير الواقع،والتزام الصدق والحق،واعتبر وظيفة اجتماعية.فهو ينبوع رافد للتّصوّر الإسلامي.
ولمّا كان للشّعر مكانة في نفوس العرب،وأثر فعّال ،فقد وظّفه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كقوة إعلامية،يستحث شعراء الدعوة على :"تصوير حقيقة الدعوة الإسلامية."/../.
وقد أعطاه الرّسول مكانة مهمّة في المجتمع:
"إنما الشعر كلام مؤلف،فما وافق الحق فهو حسن،وما لم يوافق الحق منه فلاخير فيه"/../.
وقوله أيضا:"إنما الشعر كلام /فمن الكلام خبيث وطيب"/../.
وقوله أيضا :" إن من الشعر لحكمة."/../.
لتدل الأحاديث أن الأدب سلاح في خدمة المنهج.وغاية هذا الشعر أنه نسج الحماسة في النفوس ،واتُّخذ وسيلة للثقافة الإسلامية ،وقد اتخذه الخلفاء الراشدون وسيلة هامة في التربية الإسلامية.
لقد اختار الرسول ـصلى الله عليه وسلم ـ أبا بكر من بين الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ليرشد الشعراء حينما قال لحسان:"والق أبا بكر يعلمك تلك الهنات. "/../.والمقصود بالهنات مراكز الضعف في حياة قريش النفسية والاجتماعية:
"يذكرون مثلا أن لبيدا أنشد أبا بكر :
/ألا كل شيء ما خلا الله باطل/
فقال أبو بكر :/صدقت/.
ثم قال لبيد:/وكل نعيم لامحالة زائل/.
فقال أبو بكر:/كذبت.عند الله نعيم لايزول/./../
هذه دلالة على النقد الثقافي صريحة في تصويب أبي بكر..لبيد ربط النعمة بالدنيا ،وأبو بكر ربطها بالدنيا والآخرة..
وزن مقدار الشّعر عند أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ بقيمتي الصدق ،والحقيقة:"وكان أبو بكرـ رضي الله عنه ـ يقدم النابغة ويقول:"هو أحسنهم شعرا وأعذبهم بحرا."/../فهو يجمع الشكل بالمضمون في حكمه..
أما عمر بن الخطاب فهو:"يبني نظرية المعرفة عنده على تعلم الشعر كركن من أركان تكوين الشخصية،وتقويم اللسان والحفاظ على المثل العليا"/../.فكان يريد في الشّعر تلك القيم الخلقية التي تبني الذّات المسلمة ،وتنسجم مع المنهج الحداثي الوافد إلى العرب ،ومن ورائهم إلى البشرية جمعاء:"كما روي عنه ـ رضي الله عنه ـ أنه قال:"ارووا من الشعر أعفّه،ومن الحديث أحسنه،ومن النّسب ما تواصلون عليه وتعرفون به،فرب رحم مجهولة قد عرفت فوصلت ،ومحاسن الشعر تدلّ على مكارم الأخلا ق وتنهى عن مساويها"/../.
كل الخلفاء الراشدين كان لهم أخبار نقدية في الشعر ،والأهم عندهم الحفاظ على منهج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تعاطيه والتعامل معه.الحق والصدق ،والانضباط بضوابط الشريعة الإسلامية.
وبهذا يكون الإسلام قد أرسى دعائمالنقد الثقافي الذي يحفظ منهج الأمة،ويصون هُويتها.
هنا تكمن أهمية النقد الثقافي في إعادة تصويب قيم الحياة..