من "لغة الجرائد" للشيخ إبراهيم اليازجي لمحمد إحسان النص عضو المجمع من سورية.. مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة

الشيخ إبراهيم بن ناصيف بن عبد الله اليازجي من جلَّة العلماء الذين ظهروا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر للميلاد، وهو ينتمي إلى أسرة مسيحية من أصل حمصي. وقد هاجر أحد أجداد المؤلف إلى بيروت واستقر فيها مع أسرته، وفيها ولد الشيخ إبراهيم سنة سبع وأربعين وثماني مئة وألف.
وقد عُرفت أسرته بأمرين: أولهما ميلها إلى دراسة اللغة العربية وعلومها وآدابها، وثانيهما الموهبة الشعرية التي تجلت في أكثر أبنائها. وقد نبغ منها علماء بالعربية صنفوا كتبًا كثيرة في علوم اللغة والنحو والصرف، ونبغ فيها شعراء مجيدون جمعت أشعارهم في دواوين.
وأشهر رجال هذه الأسرة أبو المؤلف وهو الشيخ ناصيف بن عبد الله اليازجي، ولد بقرية كفر شيما بلبنان، ونشأ ببيروت، وقد عرف بإجادة الكتابة، ولذلك اتخذه الأمير بشير الشهابي كاتبًا له. واستمر يعمل لديه طوال اثني عشر عامًا، انصرف بعدها إلى التدريس في مدارس بيروت وإلى تأليف الكتب. ومن مؤلفاته كتاب "مجمع البحرين" وهو يضم مقامات سار فيها على نهج الهمذاني والحريري، ومنها كتاب "فصل الخطاب" في النحو، و"عقد الجمان في علم البيان" و"الجوهر الفرد" في علم الصرف، و"العرف الطيب في
شرح ديوان أبي الطّيب"، وله أرجوزة في النحو سماها "جوف الفَرا" شرحها في كتاب سمّاه "نار القِرى في شرح جوف الفَرا". وله في مجال الشعر دواوين ثلاثة هي: "النبذة الأولى"، و"نَفحة الريحانة"، و"ثالث القمرين".
توفي الشيخ ناصيف في بيروت عام واحد وسبعين وثماني مئة وألف (1871م).
وقد أنجب الشيخ ناصيف أبناء وابنة درسوا على والدهم، وألفوا في مباحث اللغة العربية، ونظموا الشعر. من هؤلاء الشيخ حبيب بن ناصيف، والشيخ خليل له روايات وديوان شعر، ووردة كانت تنظم الشعر كأخواتها وأبيها.
وأبرز أبناء الشيخ ناصيف هو الشيخ إبراهيم، مؤلف كتاب "لغة الجرائد" الذي نتحدث عنه. ولد ببيروت، وبها نشأ، وقد تجلت مواهبه منذ حداثة سنه، أخذ علوم العربية عن أبيه فأحكمها، وتعلّق بآداب اللغة العربية فأكب على مطالعة كتبها، وحفظ القرآن منذ صباه، وقرأ الفقه الحنفي على الشيخ محيي الدين اليافي. وربما يتساءل بعض القوم لِمَ يقدُم مسيحيّ على حفظ القرآن ودراسة الفقه الإسلامي؟
والجواب عن ذلك أن من يعشق اللغة العربية ويود التعمق في دراستها لا مناص له من حفظ القرآن الكريم لتفصح لغته وتستقيم عبارته، ولهذا رأينا نفرًا من المعنيين باللغة العربية من غير المسلمين يقبلون على حفظ القرآن. أما دراسة الفقه الحنفي فهي من قبيل تنمية الثقافة العربية والوقوف على تراث المسلمين للإفادة منه في البحوث والمؤلفات.
كان زاد الشيخ إبراهيم من شتى فنون الثقافة غنيًّا خصبًا، فإلى جانب تعمقه في اللغة العربية أتقن اللغات الفرنسية والإنجليزية، وأخذ بطرف من اللغة الألمانية، وأجاد إلى ذلك اللغتين العبرية والسريانية، وأتاح له إتقان العبرية وضع كتاب في نحوها. وفضلاً عن إجادته هذه اللغات درس علم الفَلَك والفلسفة الطبيعية دراسة متعمقة، وفوق هذا وذلك عرف اليازجي بِحسن الخط، وكان من كبار الخطاطين في زمنه، وبرع في التصوير براعة فائقة، وتعلم من أخيه صناعة النقش والحفر، وهذا ما مكّنه من سكّ حروف للطباعة العربية أخذتها عنه المطابع العربية وشاع استعمالها، بعد أن كانت الحروف المستعملة في الطباعة حروف المغرب والآستانة.
ومن هذا يتبين لنا أن إبراهيم اليازجي كانت له مواهب متعددة وثقافة واسعة متنوعة، وكان عبقريًّا فَذًّا بين أقرانه في عصره.
وبسبب إتقانه اللغات الأجنبية إلى جانب إجادته اللغة العربية عهد إليه الرهبان الجزويت في لبنان تعريب الأسفار المقدسة، فاشتغل فيها تسع سنوات، وصحح لهم كتبًا أخرى، ومنها معجم " الفرائد الدرية "، وهو معجم عربي فرنسي.
ومنذ عهد مبكر اجتذبته مهنة الصحافة، فتولى عام اثنين وسبعين وثماني مئة وألف تحرير جريدة "النجاح "، وفي عام ثمانية وسبعين وثماني مئة وألف (1872م) أنشأ الدكتور جورج بوست أستاذ الجراحة في الكلية الأمريكية ببيروت مجلة "الطبيب"، وهي أول مجلة عربية عنيت بالشؤون الطبية والصحيّة، ومنذ عام (1884م) أربعة وثمانين وثماني مئة وألف تولى إدارتها والكتابة فيها الشيخ إبراهيم اليازجي ومعه الدكتور بشارة زلزل والدكتور خليل سعادة.
واليازجي هو الذي أشار عليهم بإطلاق لفظ "مجلة " عليها، ومعناها الأصلي هو صحيفة فيها الحكمة. ومنذ ذلك الحين شاع استعمال لفظ المجلة على الدورية التي تصدر تباعًا في أوقات معينة في جميع الأقطار العربية.
وقد تخلى الشيخ إبراهيم عن العمل في هذه المجلة بعد سنة، ولكنه أثناء عمله فيها أوجد العشرات من المصطلحات والمعرّبات، منها مثلاً كلمة " الطلاء" مقابل كلمة الورنيش و"الخرشوف" للأرضي شوكي، واصطلاح "الراجبيات" على البكتريا، و"المقوى" على الكرتون، وعشرات من المعرَّبات والمصطلحات.
قام الشيخ إبراهيم برحلة إلى أوربا عاد بعدها، ونزل بمصر سنة خمس وتسعين وثماني مئة وألف، فطاب له المقام فيها، فاستقر بها. وانصرف إلى العمل في ميدان الصحافة الذي استهواه منذ حداثة سنه، فأنشأ جريدة أسماها "البيان"، ولكنها لم تستمر أكثر من سنة. ثم أنشأ سنة ثمان وتسعين وثماني مئة وألف جريدة أخرى سمّاها "الضياء" استمرت ثمانية أعوام وافاه الأجل بعدها سنة ست وتسعمائة وألف، ونقل رفاته بعد حين إلى بيروت حيث دفن في مقبرة الأسرة، وقد ظل الشيخ إبراهيم عزبًا طوال حياته.
إلى جانب عمله في الصحافة ألف اليازجي عددًا من الكتب، وشرح بعض ما ألفه أبوه. من ذلك أنه أتم عمل أبيه في شرح ديوان المتنبي، فحققه وأضاف إليه حواشي كثيرة، واختصر كتاب "الجمانة في شرح الخزانة" في علم الصرف، واختصر كذلك كتاب أبيه "نار القِرى في جوف الفَرا " والفرا والفرأ حمار الوحش، ومن أمثال العرب: كلّ الصيد في جوف الفرا. وشرح مختصر كتاب أبيه "مطالع السعد لمطالع الجوهر الفرد".
أما مؤلفات الشيخ إبراهيم فمنها كتاب " نجعة الرائد في المترادف والمتوارد"، وهو في ثلاثة أجزاء، طبع منه الجزءان الأول والثاني قبل وفاته بسنتين، ووافاه الأجل فبقي الجزء الثالث مخطوطًا. وعكف على تأليف معجم لغوي ضخم أسماه "معجم الفرائد الحسان من قلائد اللسان"، وقد أنفق في تأليفه سنوات طوالاً، وجمع فيه كل ما وجده في أمّهات اللغة، ولكن الأجل عاجله فلم يطبعه. ونشر في المجلات بحوثًا كثيرة، منها: "النبر في اللفظ العربي"، و"حواشٍ على محيط البستاني"، و"اللغة العامية واللغة الفصحى"، وبحوث في "المجاز والتعريب" و"اللغة والعصر".
ومنها مقالات في لغة الجرائد نشرها تباعًا في مجلة "الضياء" التي أنشأها بمصر، ثم جمعها في كتاب مفرد، ووقف على طبعها سنة 1901م السيد مصطفى توفيق المؤدّي، وهو الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه.
وفضلاً عن هذه المؤلفات، لليازجي ديوان شعر نشره ابن أخيه الشيخ حبيب بن الشيخ خليل اليازجي.