يوم الأحد .. قبل ستة عشر عامًا .. كان رأسي يتدلى من النافذة المرتفعة باتجاه زقاق ضيق يلعب فيه الأولاد الكرة ويتبادلون السجائر الورقية، انهمكتُ في مراقبتهم قبل أن يصرخ محاولًا أن يكون رجلًا : ادخلي يا بنت .. لعنة الله على رأسك .
لم أفهم ما الذي دفعه آنذاك ليلعن رأسي، لمَ رأسي وليس أي شيء آخر ؟
لم يكن سوى شقيق لصديقتي وجارٌ لا أهتم لأمره ولا أنجذب إليه رغم أنه لم يكن دميم الشكل جدًا، في الحقيقة لم أعلم لماذا لم أهتم لأمره ولم أعلم ما الذي جعلني أتوارى سريعًا وأحبس البكاء، امتزجتْ فيَّ مشاعر متناقضة .. شعورٌ بالمهانة ثم شعور خفيّ لم أفهمه أبدًا، فقط .. جعلني أشعر بالزهو وأقف أمام المرآة طويلًا .
والدتي بدأتْ تتذمر من سلوكي وتطلب مني ألا أرتدي فستاني الجديد في المنزل، وأن أكف عن طلبِ أن تأخذني للاستحمام كل يوم، الساعة الرابعة عصرًا .
الساعة الرابعة عصرًا تعني أن أبدأ في ممارسة سلوكيات مدفوعة بشعورٍ لا أفهمه، كأن أغنّي وقت الاستحمام وأنزلق من يديْ والدتي وهي تحاول أن تُسكتني وأضحك بصوتٍ مرتفع دون أن أخاف نظراتها الصارمة، كأن أطلب منها أن تجعل شعري ضفيرتين هنديّتيْن، وتأذن لي باستخدام عطرها، كأن أطلب منها أن تضمّني بشدة ثم تسمح لي بالنظر من النافذة للأولاد، بعد اللعنةِ لم أجرؤ على إظهار رأسي، اكتفيتُ بالتلصص والمراقبة البعيدة .
لديّ شقيقة واحدة تكبرني بعاميْن، لا يمكنها أن تلعبَ أبدًا ولا يمكنها أن تكون طفلة، منذ خُلِقتُ وأنا أراها امرأة .. تتابع المسلسلات وتسهر حتى ساعات الفجر الأولى وتشرب الشاي بإفراط وترفع شعرها إلى أعلى رأسها وتسخر من ضفيرتيّ، تمنيتُ لو أستيقظ يومًا ليخبرني أي شخصٍ أنها اختفتْ، كان هذا سيجعلني أعيش مرحلتي بشكلها الطبيعيّ، لطالما دفعتِ الجميع – دون أن تتعمد – إلى مقارنتي بها، كان المطلوب أن أكون مثلها .. أكثر ما يهمّ الآخرين ألا نسبب لهم أي إرباك وإزعاج، لا بأس أن نعيش بإعاقاتٍ نفسية .. المهم أن نكون هادئين .
تخيلتُ حياتي ورقة بيضاء ممتدة، رغم أنني أعيش في بيتٍ متهالِك تحيط به البيوت الشعبية القديمة وإشاعاتُ أنه مسكونٌ بالجنّ، ورغم غياب والدي عن مسرح الحياةِ ورغم أنني كنتُ في أيامٍ أشعر بالجوعِ ثم لا أجد أي شيءٍ في الثلاجة القديمة سوى " حلاوة طحينية "، ورغم أن العمّة فاطمة كانت تقول بخبثٍ : إذا ما دفعت أمك الإيجار ح أزوجك ولدي .
كنتُ أرتعد لمجرد رؤية وجهه الذي احترق في حادثٍ وهو ذاهبٌ للعمرة، بعد اللعنة صرتُ أضحك وأقول : زوجيه نادية لأنه إذا ما تزوجها ولدك مش حتتزوج أبدا . ثم أهرب سريعًا قبل أن أسمع شتائمها الممتزجة بضحكةٍ مجلجلة .
كنتُ أعلم أنها تكره نادية لأن أسنانها الأماميّة بارزة جدًا، ولأن لسان والدتها سليط، وكم كنت أحب نادية .. شقيقة ذلك الأرعن الذي لعن رأسي وبقيتُ ممتلئة حقدًا عليه .. حتى رأيته يومًا يترنّح فوق سطحِ منزلٍ قديم وقد اجتمعت أعداد نحلٍ هائلة حوله ولم تبقِ مكانًا في وجهه دون أن تترك آثارها، ثم هوى من السطح المتهالك حتى وسط المنزل وبكى بصوتٍ مرتفع !
كم كنتُ مغتبطة لأجل أنه بكى .. انكسر أمامي، لم يعتريني أي شعور بالرأفة تجاهه، تلك المرة الأولى التي شعرتُ بالإنصاف والعدل، وربما كانت الأخيرة . وقفتُ أنتظر أن أرى وجهه بعد الخروج وكنتُ أضحك، التف الجميع حوله لكنه حين رآني خبأ وجهه بين يديه وهرب .
أخبرتني شقيقته ذات الأسنان البارزة أن أنفه تورّم فاقترحتُ أن نسميه : ( أبو أنف )، والتصقتْ به التسمية .
مع الوقتِ .. ولفرط ما كنتُ سعيدة ولا أكترث للحياة .. بدأتُ أحسّ بالدوار .. أن يكون الطريق أبيض يعني هذا أنني معرضة للتيهِ، لأن أضيّع المكان، لا بد أن يكون هناك نقاط سوداء تحدد معالم الطريق، حينذاك .. بدأتُ أبحث عن النقاط السوداء وبدأتُ ( أفكر ) .....
يتبع