قراءةٌ في بيتين من قصيدة " ابن قلبك " للشاعر المتألق د.سمير العمري

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه..وبعد :

يقولُ الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : " يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ "(1) ، وفي الحديثِ أنّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ من الشعر حكمة "(2).

إنّ القارئ في نصوص الدكتور سمير العمري يقعُ على شعر مليءٍ بـ" الحكمة " ، حتى لتحسبُ – لوفرة الحكمة في شعره – أنّ صاحبنا قد بلغ من الكبر عتيّا!

والدكتور سمير نعرفه من خلال شعره شاعرا ومفكرا وحكيما ، فكما نلاحظ في شعره جزالة اللغة وبراعة التصوير ودقة التعبير…فإننا نلاحظ أيضا رجاحة العقل واتزان الفكر ونضوج الحكمة ، ولا نبالغ أبدا إذا خلعنا على الدكتور لقب الشاعر المفكر والشاعر الحكيم ، ومن اطّلع على أشعاره يدركُ أننا لا نرسلُ القولَ على عواهنه.

يقول شاعرنا في قصيدته التي يرثي بها والد الدكتور جمال مرسي – رحمه الله – :

فيابْنَ هَدْي رسول الله محتسبا أحسن عزاك فخير الصبر في الجزع
والموتُ خير لسانٍ قال موعظة مهما أذاقك من صابٍ ومن سلع


"
فيابْنَ هَدْي رسول الله محتسبا
"
يخاطبُ شاعرنا في هذا البيت مَنِ ابتلاه الله - سبحانه وتعالى - بفقد حبيبٍ أو فراقِ عزيز... فينادي المُنادَى بــ " ابن هدي رسول " ، ولنا أن نتأمّل وقعَ هذه العبارة على الأذن والقلب...ذروة الرقة والملاطفة والمؤانسة ، فكأنّ الشاعر أراد البدءَ بها لتسلية المُخاطَبِ وتهيئته نفسيا قبل وعظه وإرشاده...

كان بوسع شاعرنا أن يقول : " يا من فقدتَ حبيبا ، اصبر واحتسب..." لكنّه هنا يراعي الحالة النفسية للمتلقي... فيذكّره أولا بأنه ابنُ هدي رسول الله تهدئة لنفسه وبعثا للطمأنينة في قلبه...فهي إذًا – إن صحّ التعبير – جُرْعَةٌ مُسَكّنَةٌ للآلام...وشرابٌ مهدئٌ للأعصاب...
ثم بعد ذلك نجده لم يقل : " إن كنتَ ابن هدي رسول الله فاحتسب " بل نراه يُوفّق في إيصال ما يريدُ بأسلوبٍ يذوبُ رقة وجمالا...يقولُ :
" فيابْنَ هدي رسول الله محتسبا " أي : حال كونك محتسبًا...
فبعد أن هدأتِ النفسُ واطمأنّتْ – ولو قليلا – بــ : " ابن هدي رسول الله "...يستيقظ المُخاطَبُ من ذهوله على صوتِ " محتسبا "!
تلميحٌ ذكيّ...وموعظةٌ رقيقة بأسلوبٍ غير مباشر ، مراعاة لحال المخاطَب من ذهول وغفلة وشَجَنْ...

" أحسن عزاك فخير الصّبْرِ في الجزع "
أيها المُبْتلَى إذا أردتَ أن تعزّي نفسكَ بما يخففُ عنها آلامها وأشجانها...فعزّها بالصبر....فإنّ الخيرَ كلّ الخير في الصّبرعند حلول المصيبة...
ولعل سائلا يسألُ هنا : لكنْ لماذا لم يُصَرّح الشّاعر بذكر " المصيبة " بل نجده قد ذكر أثرها ، أو ما يمكن أن يكونَ ناتجا عنها...فما السّر يا ترى في لفظة " الجَزَع "؟!
نقول : الجزعُ هو : نقيض الصبر كما يقول صاحب لسان العرب(3) ، والجَزَعُ عادةً ما يكونُ عند الصّدمةِ الأولى!
فكأنّ شاعرنا أراد - بإيراده هذه اللفظة - أن يُذَكّر المُمْتَحَن بأنّ صدمة المصيبة قد تدكّ أسوار صبره...وتُزَعْزِعُ حصونَ إيمانه...فيتحول حزنُه الممضّ في هذه اللحظات العصيبة إلى جزع...ولذا رأى شاعِرُنا أن يُذكّر المُصَابَ بأنّ الصبرَ الذي يُحْمَدُ عليه صاحبه...ويثابُ عليه فاعله بجزيل الأجر هو ما كان عند الصّدمة الأولى.
وهذا مصداق ما جاء في الحديث الصحيح أنّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم
قال : " الصّبْرُ عندَ الصّدمةِ الأولى "(4).
ولا يخطرنّ على بالكَ – أيها القارئ الكريم - أنّ القافية ألجأتْ شاعرنا لاستخدام لفظة " الجزع " دون سواها! فهذا الاحتمال بعيدٌ جدا...بل لا أراهُ صحيحا البتة ، ونحن نعلمُ علم اليقين أنّ شاعرنا القدير يمتلك معجما واسعا من المفردات...ولذا فإنّ القافية طوعُ بنانه في قصائده.

" والموتُ خير لسان قال موعظة ** مهما أذاقك من صاب ومن سلع "
حكمةٌ جليلة صُبَّتْ في قالب شعريّ مبهر...يقول الشاعر مخاطبا المُبْتلى :
كفى بالموتِ واعظا لك!
فالإنسان مهما استمع إلى وعظ الوعّاظ - وإن كانوا أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء -...فإنه لا يجد نفس الأثر الذي يجده عند هذا الواعظ الأصم الأبكم (الموت)!
ولذا يقولُ الرسول صلى الله عليه وسلم : " أكثروا ذكر هاذم اللذات " بالذال المعجمة : أي قاطعها(5).

" مهما أذاقك من صابٍ ومن سلع "
مهما جرّعَكَ الموتُ غُصَصَ الحزنِ والأسى...فلا تُلْهينّكَ أشجانك عن سماع موعظةٍ بليغةٍ تحاسبُ بها نفسك...وتذكّرها بأنّ مصيرَها الفناءُ أيضا!
والشّاعرهنا يشبّه مرارة الأحزان والآلام التي يتجرّعها مَنْ ابتُليَ بفقد حبيبٍ بمرارة شجر الصّاب والسّلع...
ثمّ لعل في ذكر الصّاب والسّلع (المرارة الحسّية) إشارة إلى أنّ الحالة الوجدانيّة
للمفجوع قوية ثائرة...يضطرب لها كلّه جسما ونفسًا...
فاللقمة الشهية قد تصير في فم المحزون علقما...!
ولعل قائلا يقول : لا أرى فائدة في ذكر " السّلع " بعدَ " الصّاب "...فكأنّه حشو!
نقول : يا أخانا الكريم ، وهل كلامُ البلغاء يتكرَّرُ عبثًا ؟!
صحيحٌ أن اللفظين مختلفان والمعنى واحد (المرارة)...لكن ألا ترى معنا بلاغة التأكيد
في كلمة " السّلع " وما تُحْدِثه من زيادةٍ في تقرير المعنى في ذهن السامع وتثبيته ، فشاعرنا يريد مِنْ سامعه أن ينظرَ للموتِ نظرة اتّعاظ واعتبار...مهما أذاقة الموتُ من صنوفِ الغصص والمرارات...
ثمّ إنّ في ذكر ضربَيْنِ من الشّجر المرّ إشارة إلى أنّ درجات الانفعال تختلف من شخصٍ لآخر...
فمرارة الأحزان والآلام قد تكونُ صابا عند البعض...وسلعا عند البعض الآخر...وهكذا بحسب درجة الانفعال.

ولعلنا أيضا في نهاية رحلتنا العُمَرَيِّة هذه نتأمل اختيار شاعرنا لــ "قافية العين" التي جاءت مناسبة لجوّ القصيدة الحزين بتأثيرها الموسيقيّ الفاجع...فنراها قد ألقتْ بظلالها الحزينة على جوّ القصيدةِ المفعم بالشّجن واللوعة.


عمار محمد الخطيب
2007-04-24
________________________________
(1) سورة البقرة ، آية رقم 269
(2) رواه البخاري في كتاب الأدب ، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه.
(3) انظر : ابن منظور : " لسان العرب " - مادة (جزع).
(4) رواه البخاري في كتاب الجنائز ، باب الصبر عند الصّدمة الأولى.
(5) انظر : المباركفوري : " تحفة الأخوذي بشرح جامع الترمذي " (6 / 594)