أزمة التعبير ..
في مقال سابق كتبت عن ( قصيدة النثر ) وما يكتنفها من إغماض متعمد يُخرج النص من حيز إبداع المعنى إلى اللامعنى .. وكيف أنها تضع المتلقي في تيه لا مخرج منه وضياع لا انتهاء له ، وقد استشهدت فيه بآراء ثلة من المختصين والمهتمين ..
واليوم وأنا اقرأ كتاب ( في النقد الإسلامي المعاصر ) لأستاذنا الدكتور عمادالدين خليل ، فإذا بي أصطدم بفصل كامل يتحدث فيه عن إشكالية هذا النوع من التعبير ، فصل بعنوان ( أزمة التعبير في العراق ) (1) ..
حيث يلقي هذا الفصل الضوء على تلك ( الساحة الوجودية الممسوخة ) أو ( الرمزية الجديدة ) على حدّ تعبير الدكتور ، مشيراً إلى ما تشهده الساحة من تطرف الحداثيين بخروجهم على كل قاعدة وسخريتهم بكل أسلوب ، ونفورهم من كل الأعراف الأدبية التي تبلورت في عالم الآداب والفنون ..
ينطلق الدكتور في الكشف عن قصدية هؤلاء في إغماض نتاجاتهم ، ويرفض أن يكون هذا الإغماض انبثاقاً عن اللاوعي كما يبدو ، أو مجرد تداعٍ حر للأفكار والمشاعر .. يقول :
( ففي هذه الساحة ـ أي الساحة الوجودية الممسوخة أو الرمزية الجديدة ـ يقدم هؤلاء أعمالهم الأدبية ، غير منبثقة عن ( اللاوعي ) كما يبدو للوهلة الأولى ، أو كما يتوهمون هم ويوهمون غيرهم ، ولكنها تنبثق عن سبق إصرار ! في جعل العمل الأدبي لغزاً محيراً غامضاً يعجز عن حل رموزه أي مفكر أو فيلسوف .. فضلاً عن الفنان والأديب ! ) .
وبعد أن يعرض مجموعة من أعمال هؤلاء ، يتأسف على سخف ما يقدمونه من أعمال تغطي مساحات واسعة من الصفحات الأدبية للمجلات والصحف ، ويعتبر ذلك تضييعاً للشعر وسخرية بأداء اللغة العربية ، وأعمالاً خاوية لا تنتمي إلى أي عالم ، ورمزية متكلفة مصطنعة .. يقول :
( ولا داعي للاستمرار ـ بعد ـ مع هذا السخف الذي غطى ـ للأسف ـ مساحات واسعة من الصفحات الأديبة لمجلاتنا وصحفنا ، والذي يذكرنا بسخافات ( ادونيس ) وجماعة مجلة " شعر " اللبنانية التي كرست جهودها لتقويض أدبنا ولغتنا بدافع عرقي أسطوري ... أي تتضييع للشعر هذا ، وأية سخرية بأداء العربية اللغوي ) .
( مقاطع خاوية ، افتقدت حتى المفهوم النقدي لمحتواها ، فلا هي بالرومانتكية ولا بالواقعية ، كما أن الاتجاه الرمزي فيها مصطنع إلى حدّ كبير ، أما المعاناة الباطنية فإنها تضيع في حنايا رصف ميت للعبارات لا يدل على أية معاناة ، ولا يستثير وجدان الذي يقرؤون ) .
ثم يعرج إلى أهم الملابسات والنتائج التي رافقت معطيات أدباء هذه الموجة الحداثية :
1 ـ إن التعقيد اللغوي والذهني يُفقد العمل الأدبي مؤثراته الوجدانية .
2 ـ يفتح المجال أمام الجدد للوقوف بمستوى المتمكنين وذوي الكفاءات .
3 ـ يضع العوائق والقيود في طريق الأعمال الأدبية والفنية، لأنه يصرف الكثيرين عن الرغبة في قراءة وتتبع تلك الأعمال حتى النهاية .
4 ـ يؤدي إلى اضطرابٍ في "التكنيك" الفني للعمل الأدبي .
5 ـ يضيع وحدة المعنى وهدفية العطاء .
6 ـ يؤدي إلى تشابه آلي في الأساليب وعدم تميزها وتفردها .
7 ـ وقد تكون التجربة ذات أبعاد ومساحات واسعة ، إلا أن أعمالاً من هذا النوع لا تغطيها بتكافؤ تام ، وذلك بتوترها وانكماشها على بقع محدودة في مدى التجربة . وينتج هذا التعقيد والاضطراب عن :
أ ـ فوضى في الأداء اللغوي والتعبيري.
ب ـ عدم التمرس على البيان.
جـ ـ التأثر السلبي بترجمات الأعمال الغربية، وبخاصة تلك التي نقلت إلى العربية على أيدي مترجمين لم يتمكنوا بعدُ من فن الترجمة.
د ـ الرغبة في ملاحقة الاتجاهات الجديدة في الغرب وبخاصة "اللامعقول" دون تفهمها.
هـ ـ حشر الرموز الأسطورية والتاريخية، وخلق مصطلحات فنية مستعجلة لم يصطلح عليها اللغويون.
و ـ إثارة الاختلال والصخب في الموسيقى الداخلية والخارجية للشعر.
ثم يؤكد على أن التأزم النفسي والتاريخي والتطلع الثقافي إلى العالم الجديد لا يعني أن ننتج أدباً مهزوزاً ينبثق عن تجربة مهزوزة متوترة مريضة ، فالأدب من واجبه أيضاً ـ مع كونه صورة صادقة للتجربة الإنسانية كما هي ـ أن يقيم .. ويبشر بالإنسان الجديد .. بعيداً عن كل ما هو مهزوز ومتأرجح ومتناقض ومنشطر إلى ألف إنسان .. وأن يكون حلاً لا مشكلة ..
كما يؤكد على أنه لو أطلق العنان للأديب للتعبير عما في نفسه بعفوية مطلقة ، لما بقي هناك أدب ولتحطمت أطره الفنية ، ولما بقيت هناك لغة .. ذلك لأن مثل هذه التجارب تضع قضايا اللغة والصياغة الفنية في الظل ، ويغدو التناقض والتمويه هو الهدف .. ولذا يقوم أصحاب هذا الاتجاه في كثير من الأحيان بعملية توتر متعمد ، مصطنع غير طبيعي ، توتر في النفس والفكر ، مما يؤدي بلا شك إلى توتر فيما يصدر عن حركة القلم ..
ثم يختم الفصل بالكلام عن البيان ، وترك الإغماض .. يقول :
( البيان كان هدف الأولين ويجب أن يكون هدف الآخرين... أن توضح تجربتك الشعورية ، أن تبعث للنور أحداث عالمك الداخلي ، أن تقوم بتنسيق دقائق انعطافاتك الوجدانية واهتزازاتك النفسية ، ولمحاتك الفكرية لا يقتضي أبدًا أن تغمض وأن تلح في الغموض ، أو أن تلقي ظلالاً سوداء قاتمة على معطياتك لكي يقال إنك غامض وإنك عميق ... معظم الأدباء الكبار في الماضي البعيد والقريب ، ومن هو معاصر منهم ، لم يصلوا القمة بالغموض ... على العكس من ذلك ، كان البيان ركيزة أعمالهم الكبرى ، البيان العميق في الوقت نفسه . وكثير من الشباب الذين لا تشكل أحداثهم الداخلية وحوارهم الوجداني سوى رصيد ضئيل ، تمكنوا بالخروج على قواعد اللغة والبيان وبالرصف الغريب للعبارات ، من أن يرتفعوا ـ أو هكذا يخيل إليهم على الأقل ـ إلى مستوى الأدباء الحقيقيين ... وكثير من الشباب الذين لم يستكملوا بعدُ الأدوات الأساسية للعمل الأدبي والفني ، برزوا فجأة في أجواء العراق الثقافية ليفرضوا أنفسهم فرضًا في مجالات الأدب فيه).
ويقول :
( وستزداد هذه الأزمة تعقيداً على مرّ الزمن إلى أن يأتي اليوم الذي تنهار فيه الجدران ، ويلتقي البيان والفكر والمنطق .. بالبناء الفني المتناسق الدقيق .. وبرصيد كبير من المعرفة والتجربة النفسية والوجدانية ) .
ــــــــــــــ
1 ـ هذا الفصل يبدأ من الصفحة 101 إلى 108 .