ما انفك الاغتراب في مقابل الهوية عنوان إشكالية لا تقف عند حدود الذات فحسب بل تتعداها إلى تشكيل ملامح المجتمعات ، ولا تتناول الدلالات الزمكانية فقط بل ترسم صورة المشهد الثقافي بألوانه وظلاله كحالة ذات بعد فكري وأدبي واجتماعي واقتصادي وسياسي.
ولعلّني رأيت في كثير من المثقفين والكتاب الميل لاعتبار الغربة والتغرب والاغتراب مترادفات لمكنون واحد أو لنقل مصطلحات لمعنى متشابه مما أراه يسهم في رسم صورة مشوشة بألوان متداخلة وظلال غير ممتدة؛ فالأصل أن لكل مفردة مما سبق معناها الدال على وصف دقيق ينتج عنه تحديد الملامح وتأطير الصورة إذ أن لطبيعة الأشياء دور في تحديد النتائج بما يعين على تسويغ التدبير على التنظير واستدراك ما كان على ما يمكن أن يكون.

الغربة إذًا غير التغرب وغير الاغتراب ليس فقط على مستوى الدافعية والظرفية، بل وأيضا على مستوى الانفعال والافتعال، وما يمكن أن يفرزا من أثر ونتيجة. ولأن التناول المسهب لهذا التباين ليس محل نقاشنا هنا ، ولأن الرؤية المستهدفة هي في شمولية التناول للحالة الدالة سواء أكانت على مستوى الانفعال أو الافتعال فإني سأكتفي هنا بهذا التناول الشمولي وصولا لما يمكن أن يبنى عليه من انزياحات على مستوى الاغتراب في مقابل الهوية ومسار ذلك على مستوى القضية.
إن فلسفة الغربة عندي تنبثق من مستويات ثلاث؛ غربة المكان وغربة الزمان وغربة الإنسان في الإنسان. أما غربة المكان كمفارقة البيت أو الوطن فتكون غالبا نتاج ظروف اقتصادية أو أمنية أو سياسية، وفيها منافع للناس وإثم اللهفة والحنين لمن قسر عليها، لكنها تظل أخف الغربات وطأة على النفس والمجتمع. وأما غربة الزمان فهي تلك التي تنفصم فيها عرى العلاقة بين المرء ومحيطه حدا يجعله نسج ذاته ومختلفا في صفاته وسماته؛ فيشعر بالاغتراب لا يجد جيله ولا ينسجم في فكره وخلقه ومنهجه مع من حوله، بما يشكل لديه عزلة نفسية وغربة ذات، يتدافع فيها وزمانه أو يستسلم له. وأما غربة الإنسان في الإنسان فهي الأشد والأنكى بما تمثل من حالة انفصام تام انعزالا أو اعتزالا، واستغراقا في الذات واغترابا عنها، بما يؤدي لإحدى حالين فإما مريض نفسي ينطوي على ذاته ويقوقع في حسراته، وإما فيلسوف أو عبقري يجتهد في تصحيح المسار ووضع أسس المدينة الفاضلة.

ولكي نصل لمفهوم الاغتراب من جميع جوانبه الدلالية والاصطلاحية والفلسفية، علينا أولا أن نرتكز على مفهوم الهوية باعتباره الأنا التي أعرف ، ومعرفة الأنا مرتبطةٌ بمعرفة الآخر كما يُقال، فالآخر بصورةٍ أو بأخرى جزءٌ من الأنا، أو بمعنى أدقّ هو جزءٌ من فهمها؛ لأنّ معرفة الآخر هي معرفةُ ما لستُ عليه، وبمعرفة ما لستُ عليه يتجذّرُ لديَّ معرفةُ ما أنا عليه.
الآخر هو انعكاسُ التضادّ، والأمورُ بالأضدادِ تُعرَف، من هذا الجزءِ من معرفة الآخر، والذي هو "أنا" التي لا تكون "كذا" ولا تنتمي إلى "هناك"، لأنّها تكون "هكذا" وتنتمي إلى "هنا".
فكيف هو "هنا"؟
"هنا" في الاغترابِ يكونُ على هَدْيِ كيف لا يكونُ "هناك". كيفَ أمتدُّ "هناك" وجذوري راسخةٌ "هنا"
إنّها فلسفة بنيان التضاد في التجذّر والانعتاق، أليست الأشجارُ تنشر أغصانها في السماء على شاكلة ما تمدّ جذورها في الأرض؟! هي ذات الفلسفة في الكون والإنسان، فنحن كثيرا ما لا نرانا إلّا على ضوء رؤيتنا للآخر، ورؤية اختلاف ما نحن عليه عمّا هو عليه، ومدى اقترابنا ممّا هو بعيد عنه، ومن هنا لا يعرف نفسه من لا يعرف الآخر، لأنّ المفارقة بينهما (أنا، هو) هي الكفيلة بتعميق الوعي بما يجب أن أكون عليه.
الاغترابُ هو "الآخرُ" اللامنتمي إليّ والذي لا أنتمي إليه، من هنا يكون إحساسُ الاغترابِ هو إحساسٌ بذلك الواقع الآخر الذي يشكّل نفياً ونقيضاً للوطن، والوطن هو تلك "الأنا" التي أنتمي إليها وتنتمي إليّ، وعبر هذا الانتماء ندرك النقيض الاغترابيّ الآخر، والذي بدوره وعبر لا انتمائنا إليه يتعمّقُ فينا الانتماء للوطن.
من هنا يتضّح لماذا كان الاغتراب -عن الأرضِ لا فيها- عاملا يزيدنا فيها تجذّراً، وإليها انتماءً، لأنّه يجعلنا نبصرُنا أكثر أو أوضح. ولعلّه كان الدافعَ لنرفعَ في سماء الآخر أغصانَنَا على شاكلة جذورنا في أوطاننا حتّى وإن بدا للراغبين في اقتلاعِنا أنّنا بلا جذور! يدفعُنا الاغترابُ لنشكّلَ ذواتَنا بملامح واضحة، ملامح التضادّ، وملامح الأنا التي تريدُ أن يُرى تمايزُها. لذا يعلو صوتُ الوطنِ في أرضِ الغربةِ، وتتشكّل ملامح الهويّة الوطنيّة هناك بشكلٍ لا يُفطَنُ إليه في الوطن، لأنّ معرفة التمايز، مع شعور اللاإنتماء للآخر تدفَعُنا باتجاه إثبات "نحن" مقابل "هم" ويرتفع صوتها في رفض الذوبان في "الآخر"/ النّفي/ الضدّ، واستحضار "الأنا"/ الوطن/ الهويّة.

لماذا يلبس الحرفُ عباءة الوطن ؟
في اللاانتماء لِـ "هناك" يصبح الانتماء لِـ "هنا" ماء الحياة، إذ أنّ الفرد بطبيعته لا يستطيع الانفلات من قوّة جذبٍ ترسّخ قدميه فوق سطحٍ صلب؛ ليستطيعَ إطلاق حواسّه للتفاعل مع الكون من حوله، ولأنّ الثقافة هي المعلَمُ الأبرزُ في هوية أيّ شعب سنجدُ أنّ الحرفَ الذي يعكسُ هويّة الوطن، ويلبسُ وجه أهلِها، ويحملُ ملامح الأرض التي أنجبَته يغدو أعلى صوتاً، وأعمق أثرا وأكثر قدرةً على البقاء والاستمرار، والخلق والابتكار. بل إن في الغربة ما يذكي الشعور بالانتماء وينهض بالهمة حدا يكون فيه العطاء أعلى يدا والوفاء أعمق ندى والارتباط أصدق وأنقى ، ولعلني كنت أشرت إلى هذا المعنى في قصيدة قديمة قلت فيها:
مَــا كُــلُّ مَــنْ فَــارَقَ الأَحْـبَـابَ مُـفْـتَـرِقٌ
بَــعْــضُ الــفِـــرَاقِ يَــزِيْـــدُ الــحُـــبَّ تَـمْـكِـيْـنَـا

إنّه كذلك لأنّه يخلق حالة اللهفة والحنين والرغبة في إثبات أكبر للولاء وللوفاء ، ثم لأنّه يعرف ذاته، ويستمدّ وجوده وحياته من تربته الطبيعيّة التي ليس من شأن غيره أن ينمو فيها، ولا من شأنه هو أن ينمو في غيرها.

إن أحد أهم أسباب تشكل أزمة الهوية هو في تحديد بوصلة العلاقة والغفلة عن أن الآخر لا ينحصر في اللون أو اللغة أو الموطن بل في المنهج؛ بما يعني أن الآخر قد يكون ابن رحم أنجبتك، بما يدفع للإدراك بأن الأخوة في الدين لا في الطين، وبأن الهوية تتحقق أكثر ما تتحقق بمدى التقارب الثقافي فكرا وخلقا وسلوكا.
وإشكالية الهوية والتبعية بالاغتراب أو الاستغراب شغلت عقول المفكرين والمثقفين وما تزال، وأكثر الخلافات الثقافية تدور في إطار الصراع على فرض الهيمنة بمختلف توجهاتها. والمتتبع لأحداث التاريخ يدرك أن جل الصراعات البشرية والحروب قامت على أسس فرض التبعية والهيمنة على ثقافة الآخر والسيطرة على موارده وطمس هويته ، ولعل هذا يبرز جليا في عصرنا الحالي الذي يسيطر عليه قطب واحد متعدد الرؤوس فيستخدم إمكاناته وطاقاته ومخترعاته في فرض الهيمنة على هوية الآخر من خلال معلمين بارزين؛ أما الأول فهو فرض الهيمنة الثقافية من خلال ما يسمى بالحداثة وما بعد الحداثة ، وأما الثاني فهو فرض الهيمنة السياسية والاقتصادية من خلال ما يسمى بالعولمة. ولئن كان الغرب لا ينفك باحثا عن هويته في الماضي، فإن الأمة العربية لا تزال تبحث عن هويتها في تهاويم المستقبل وبريق خزف العولمة والحداثة والقوة الإعلامية التي تدعو له وتنظر لصوابه، غافلين عن تاريخهم الممتد بشموخ، القائم على درر ذات ألق وحذق، لا تحتاج منهم سوى نفض غبار عنها، تراكم بفعل الإهمال والانشغال ببريق الخزف ذاك.

إن الأمة تعاني أزمة هوية لا ريب، وهي تعاني من أزمة اغتراب يختلط فيها الوعي باللاوعي وتضطرب فيها القيم وتتشوش المفاهيم في صراع الأنا والآخر في ظل هذا الضعف العربي على مستويات عدة خصوصا منها المستوى الإعلامي الذي باتت الأمة فيه ممن يتلقى ويتأثر لا ممن يلقي ويؤثر ، والدور الإعلامي الذي حرص الغرب على سلبه من الأمة يحتاج مراجعة حقيقية من صناع القرار، ومعالجة حكيمة له كي يكون درعا وسيفا في مواجهات الهوية والتبعية.
ويتشكل في ظل أزمة الهوية هذه ضرورة لحالة وعي في تحديد المعضلة ووصف الحلول، والتي أرى أن أساسها يجب أن يرتكز على الوقوف على أسس صلبة من الأصالة، والتوقف عن محاولة الهروب للأمام إمعانا في التنكر لكل منجزات الأمة أو الاكتفاء بالعيش على أطلالها. الأصالة إذًا هي إحدى أهم محددات الانعتاق من هذه الأزمة بالتمسك بالثوابت الفكرية والأخلاقية والثقافية والاتكاء على صلابة المعتقد وصواب اتباعه كمنهج وسطي مرن دينيا ودنيويا ، وكذا التمسك بأصالة اللغة والأدب أمام تيارات الاستغراب والحداثة، فاللغة وطن وهوية والذود عنها وعن فنونها الأصيلة هو ذود عن الذات وعن الهوية.

ومن سياق ما سبق يتضح أن الاغتراب هي حالة عامة في الأمة، سواء أدركت هذه أم لم تدرك وسواء أقرت بذلك أم أنكرت ، وهذا الاغتراب وإن كان ملفتا على مستوى معناه الحسي "البعد عن الأوطان" بما أصاب الأمة من حروب وجور وحرمان واضطهاد وحكم تسلطي جاهل، إلا أنه أكثر عموما وشمولا في مستوى معناه المعنوي بالاغتراب عن الذات وفقدان الهوية والميل للتبعية، سواء أكان ذلك في إطار الاغتراب السلبي والذي يعتمد الاستكانة والاستسلام لمعطيات الواقع أو جلد الذات والتنكر للهوية وسيلة هروب، أو الإيجابي والذي يعتد بالذات وينافح عن الهوية ويسعى في تصويب المسار ويعتمد الأصالة وسيلة مواجهة ، وهؤلاء هم القلة الذين قيل فيهم "فطوبى للغرباء".

وهنا نسمع عاليا سؤالا ملحا يطرح نفسه؛ من أكثر انتماء ممن؟ فرد يقيم قسرا أو فرد يغترب قسرا؟؟ ثم نسمع سؤالا آخر يطارده؛ من الأقدر على خدمة الوطن؟ مواطن يعيشه جسدا بلا روح أم مواطن يعيشه روحا بلا جسد؟؟ ثم نسمع سؤالا ثالثا يلهث في الأثر يقول بحسرة: فمن الأحق بالرعاية والعناية؟؟ ولماذا يتم تجاهل المغترب الفاعل والتعامل معه في أحسن الأحوال كضيف عابر وليس كجزء أصيل من الوطن والمجتمع؟؟
إن محدد العلاقة بين الوطن والمواطن إنما يقاس بمدى الإدراك بالذات الفردية وبالذات الجمعية وبقدر ما يكون من ولاء وانتماء وحرص على رقي هذا الوطن وتميزه، وإن اغتراب مواطن من أجل خير الوطن خير ألف مرة من إقامة المواطن من أجل شره وضره. ونحن في زمان بات فيه المغترب أقدر على خدمة الوطن من المقيم ، وبات في أدنى مستوياته سفيرا للوطن يجب أن يعكس في أماكن الاغتراب صورة الوطن الناصعة وثقافتها الصادقة ، وهذا أمر يفرض على أصحاب القرار مراجعة الموقف من المغترب ووضع السياسات التي تفسح للمغترب الدور القيادي في توجيه مسار القضية جبنا إلى جنب ، وتشكيل لجنة عليا للتنسيق من أجل ذلك بنزاهة وموضوعية وتجرد فإن الآفاق واسعة لدور بل أدوار كثيرة يمكن أن يقوم بها المغترب بشكل أكثر فاعلية وعمق وتأثير ممن يقيم في حدوده. أفلا ينظرون إلى الأعداء كيف وظفوا مغتربيهم ليكونوا هم قوتها الأولى من خلال قوى الضغط الفاعلة في مواقع القرار العالمي لو كانوا يعلمون.

ختاما فإنني ومن خلال هذا التناول العميق لفكرة الهوية وعلاقتها الجدلية بالاغتراب وبعد أن أشرت دون إسهاب إلى مواطن الألم وبوادر الأمل في تشخيص الحالة ووصف العلاج أجدني ألخص الأمر إلى أن العلاقة بينهما علاقة تلازم طردي من جهة وتلازم عكسي من جهة أخرى. فأما التلازم العكسي فيكون في الاغتراب عن الذات نحو التبعية والاستغراب المنبهر إذ يصبح فقدان الهوية والذوبان في الآخر هو نتيجة الاغتراب الحسي أو المعنوي ، ويصبح ضرر أمثال هؤلاء على الهوية الوطنية كبير. وأما التلازم الطردي فيكون في الاغتراب عن الواقع الراهن والبراء من أزمته الأخلاقية والثقافية والسياسية بحثا عن الهوية في أصالة الحرف والفكر والمعتقد. ولعل هذا يدفعني لأعلن عن حاجة الأمة لثورة اغتراب عن الواقع لا عن الذات وإعادة تشكيل الشخصية العربية على أساس متين منفتح على الآخر ولكن ليس على حساب الموروث القيمي والأخلاقي والثقافي وتجديد الخطاب الديني والفكري بما يتوافق مع معطيات المرحلة. وأشدد ختاما على أن للمغترب دور أساسي في بناء المجتمع والوطن وعلى الحكومات أن تتوقف عن النظر للمغترب تلك النظرة الضيقة بأنه مصدر للعملة الصعبة ورأس المال فأكثر المغتربين هم أثمن من ذلك لو كانوا يعلمون.



نشرت في مجلة مدارات الصادرة عن وزارة الثقافة الفلسطينية