أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 15

الموضوع: يسار .. يمين (قصة قصيرة)

  1. #1
    الصورة الرمزية محمد فتحي المقداد أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 995
    المواضيع : 180
    الردود : 995
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي يسار .. يمين (قصة قصيرة)

    يسار .. يمين


    قصة قصيرة
    بقلم- (محمد فتحي المقداد)*




    لا عليك ..، أغلق أذنيْك، وكأنّك لم تسمع كلامَهُما، يبدو أنهما طُفَيلِيان، يثرثران فقط من أجل الثرثرة، وهي عادة سيئة خاصة في الأماكن العامة، ومزعجة للآخرين، قال ذلك ابراهيم، لمّا رأى احمرار وجهي، وكأن شفق الغروب قرر إقامة مؤقته فيه، ريثما ينجلي هارباً أمام سطوة الظلام.
    ارتباكٌ سيطر على مشاعري المختلطة، فلا طاقة لي ساعتها من التصرف بطريقة سليمة، المقهى يعجّ بزبائنه، و الطاولات كلّها مشغولة، ومن الصعب خاصة بعد العصر خلوّ واحدة، حتى أنها تمددت على مساحة الرصيف رغم مخالفتها لقوانين البلدية.
    قُبالتنا على مسافة أمتار منّا طاولة، يجلس إليها شخصان، أحدهما سمين، ممتلئ الوجه، مندلق الكرش، شارباه يغطيّان شفتيْه، أطرافهما مفتولان إلى الأعلى، كأنه اقتدى بالمطرب طوني حنّا، الذي وضع تأمينٍا على شاربيْه كما أشيع وقتذاك عنه، وكنتُ أعتقدُ أنهما أعظم شاربيْن على مستوى الشرق الأوسط. هذا السمين يقابلني في جلسته، وكان لقاءً عابرًا من خلال الأعين، أزحتُ نظري عنه، لكنه ما زال يركز نظراته الحادّة على ملامحي، بينما صديقه المقابل له، لم أر ملامح وجهه، لأنني لا أرى إلا ظهره، وأعتقد أنه ضئيل الحجم، هزيل الجسم، كأنه مصاب بمجاعة مزمنة كالأفارقة.
    السمين، يتحدث إلى الهزيل:
    - انظر لذاك الشاب، إنه يَساريٌّ.
    الهزيل:
    - كيف عرفتَ ذلك؟.
    السمين:
    - تأكدتُ من أنه يمشط شعره باتجاه اليسار.
    وكان يومئ بإصبعه السبابة مشيراً إليّ، مع غمزة من عينه اليسرى، كي يُحددَ الهزيل في أي اتجاه، وفي أية نقطة ذلك الشاب المقصود.
    ***

    لم أحتمل هذه الغلاظة، وقلة الأدب، فقمتُ من فوري إلى الحمّام، رغبةٌ جارفة بالتبول اجتاحتني، بينما ابراهيم يتأمل ورقة أمامه، لاستكمال قصيدة بدأها منذ أيام، وكانت فرصة لقاءنا؛ للتشاور في بعض ما استشكل عليه من أفكار، قبل خروجي من الحمّام، وقفتُ أمام المرآة المنتصبة فوق المغسلة، تأملتُ وجهي، أخرجت مشطاً صغيرًا من جيبي، وغيّرت اتجاه تسريحة شعري، لأنفّك من تعليق السمين الفَظ، وأُبعِدَ عنّي تهمة اليَسَاريّة، وكان أن اتجهت به هذه المرّة نحو اليمين، وتأكدتُ من استقامة مفرقي بشكل دقيق، ابراهيم لم ينتبه لعودتي ثانية و الجلوس أمامه، سيجارته في فمه، وقد انطفأت حينما وصلت للقطنة، ولم يفطن لها، لكزتُه بطرف كفّه المنبسطة على الطاولة، انتبه:
    - آه.. ها قد عُدتَ، يبدو أنه قد أُغْلِقَ عليّ، ولم أستطع حل المعضلة.
    ما إن اتخذتُ مكاني، حتى خامرني شعور غريب من نظرات ذلك السمين المركزّة عليّ، تسرّب الشكّ إلى نفسي بأنني مُراقب من جهة أمنية ما، انهالت الأفكار على خاطري من كلّ حدبٍ وصوبٍ، عاد الارتباك لي ثانية، خاصة عندما أطلق ضحكته المجنونة التي دوّت في أرجاء الصالة الفسيحة، فاستجلبتْ انتباه الآخرين، وقال لصديقه الهزيل:
    - قبل قليل كان يساريًّا، يا سبحان الله..!!، في غمضة عين صار يمينيًّا، أمثاله قضُوا أعمارهم، وأكلهم الدودُ في السجون، ولم يتحوّل أحدهم عن يساريّته أو يمينيّته، بمثل هذه المفارقة العجيبة.
    لم يصلني ردّ الهزيل، لكنني لاحظتُ بأنه يهزّ رأسه، موافقًا لما سمع من السمين. ابراهيم مستغرقٌ في لُجّة من أفكاره، تَصْدُرُ منه همهمةً غامضة بكلام مغمغم، لم أتبيّن مراده، وكأنه يستشيرني بشيء ما، يا إلهي..!!، أنا في وادٍ آخر، اختلاطات ربما تدفعني لارتكاب حماقة، كبّلتني حبال الخوف المتسرّب إلى قلبي، دوافعه تتجدد باستمرار بحرارة موقف بسيط، ثانية امتلأتْ المثانة، قمتُ كأنني في حالة طوارئ من مرض السُّكريّ، بعد انتهاء مهمتي بإفراغها، عدتُ للمرآة و المشط بيدي، بعد أن بللتُ شعري، و للخروج من الخلاف تهيأ لي بتسريحته للخلف.
    انفجر السمين ثانية بضحكته المجلجلة، بوتيرة أقوى من سابقتها:
    - يا سيدي، صديقنا لم يكتف بأن يكون يساريًّا أو يمينيًّا، فانقلب بسرعة البرق إلى رجعي، عندما أرجع شعره للخلف.
    هزّ الهزيل رأسه، متأكد من تعليقه، لكنني أتشوق لأعرف قوله، يبدو أنه ذو خبرة كبيرة، تفوق ذاك المعتوه السمين، وأنه أرفع منه رتبة في الوظيفة، ساعتها لم يساورني شكّ بأنهما يراقباني بشكل خاص.
    ***

    طار صوابي، وأنا أتلظى بضرامٍ داخلي، وقفتُ، و الغضب يتلوّن بعيني بقتامة المشهد، ابراهيم ما زال جالسًا في مكانه، ظننتُ أنه لا يستطيع الوقوف بسبب مادة لاصقة تشدّه إلى كُرسيّه، وراحَ يُرَدّدُ:
    - أما قلتُ لكَ لا تُلقي له بالًا، وكأنك لم تسمعه، هذه السفاهات مزعجة حقيقة، ولكن ليس بأيدينا إعادة تربيتهم بالشكل اللائق، فلا أرى داعيًا للحِدِيّة وانفعالك بكلام فارغ.
    نوبة ضحك سيطرت عليّ ما إن بلغت الرصيف خارج القهوة، و ابراهيم يثعب على سيجارته، وينفثُ دخانها إلى الأعلى، كأنني به وقد اغتاظ من ضحكي المفاجئ، بعكس حالتي قبل دقائق، وهو يهدّئ من غضبي: آه..!!، ما الذي يُضحككَ هل انقلبتِ الموجة معك إلى مزاج آخر بهذه السرعة؟.
    - عَصْفٌ ذهنيٌّ أعادني لأيام الدراسة الإعدادية و الثانوية، ومادة التربية العسكرية، وكان اسمها الفُتُوّة، وقد فرضوا على جميع الطلاب اللباس الأخضر الموحد، وقبعة على الرأس، لزرع الانضباط فينا، وتدريبنا على أشياء كثيرة، وكانت البداية مضحكة في درس النظام المُنْظّم، وإيعازات المدرب، (يمين دُر)، (يسار دُرْ)، الجميل في ذلك أن كثيراً من الطلاب، ينفذون عكس الإيعاز، فيغتاظ المدرب، ويعود لإصراره على التنفيذ السليم.
    - ابراهيم: ما الرابط بين ما حدث معنا قبل قليل، وبين التدريب.
    - تخيّلت أن هذا السمين الأحمق لو رأى ذلك المدرب، سيقول عن المدرب، مهووس باليمين و اليسار، وربما يُحلق به الخيال؛ لنسج الأساطير عن ذلك المدرب المَرهَق.. و المتأفف من غباء تنفيذ التلاميذ، أو أنه سيكون انتقائيًّا في اختيار تصنيفه ما بين يساريّ ويميني.
    ما إن بلغنا نهاية الجادّة المؤدية إلى شارع رئيسي، حتى وجدتني أدخل صالون حلاقة، وللمرة الأولى أتخذُ قراراً سريعًا، بالخروج من حالة التصنيف العقائدي، وأقص شعري على الماكينة بقياس الصفر، لم أكنْ أتوقع شكلي الجديد، فيتوجّب علي الاعتياد على تقاسيم وجهي بهذا الشكل، وما إن وصلنا، مشارف حارتنا حتى بادرتني التهنئة بالسلامة، بخروجي من السجن.
    ابراهيم أصابته نوبة ضحك هستيرية، لم يستطيع أن يقول لي ما كان يجول في ذهنه، وهو يُردد:
    - كنا في مصيبة، فانتقلنا إلى أعظم منها، قلتُ لكَ: (خلّيك على ملعونك، حتى لا يجيئك ألعن منه)، وهذه نتيجة قرارك الارتجالي، عليك احتمال نتائجه غير المعلومة.
    - صديقي، طار صوابي من التصنيفات، خاصة في وصف اليسار بالتطرّف، واليمين بالعفونة، و الرجعية بالتخلف، تخيّل أن يصل تصنيفي هذا إلى آذان حلف الناتو، أو محكمة العدل الدولية.

    من مجموعتي (رؤوس مدببة)

    عمّان \ الأردن
    22 - 7 - 2016

  2. #2
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,009
    المواضيع : 130
    الردود : 7009
    المعدل اليومي : 1.48

    افتراضي

    الأستاذ محمد فتحي المقداد..

    نص جميل وفكرته مائزة ، ويتناول بسخرية حال من يصنفون الناس لأبسط الأمور .
    ضيق الأفق يؤدي للحكم على الآخرين : يساري .. يميني .. حتى المحايد ربما لا يسلم من سخرية التصنيفات ، وربما يريد المخبرون ما يشغلون به فضولهم ..

    دمت أديبنا الفاضل وسلم يراعك .

    محبتي .
    وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن

  3. #3
    الصورة الرمزية محمد فتحي المقداد أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 995
    المواضيع : 180
    الردود : 995
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد السلام دغمش مشاهدة المشاركة
    الأستاذ محمد فتحي المقداد..

    نص جميل وفكرته مائزة ، ويتناول بسخرية حال من يصنفون الناس لأبسط الأمور .
    ضيق الأفق يؤدي للحكم على الآخرين : يساري .. يميني .. حتى المحايد ربما لا يسلم من سخرية التصنيفات ، وربما يريد المخبرون ما يشغلون به فضولهم ..

    دمت أديبنا الفاضل وسلم يراعك .

    محبتي .

    أستاذنا الفاضل عبدالسلام
    أسعد الله أوقاتك
    كما يقال من راقب لناس مات همًّا ..
    والفضوليون طرافتهم بالتعامل مع
    الكثير من القضايا يجعلهم يجكمون
    على المظاعر و القشور..
    تحياتي وتقديري
    دمت بخير نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  4. #4

  5. #5

  6. #6
    الصورة الرمزية محمد مشعل الكَريشي أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 870
    المواضيع : 89
    الردود : 870
    المعدل اليومي : 0.20

    افتراضي

    رائعة أيها القاص الفذ
    دمت بخير صديقي الرائع

  7. #7
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,141
    المواضيع : 318
    الردود : 21141
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    يساري ، يميني، شيوعي، ثوري ، رجعي ،مصطلحات تعتلي المشهد
    الفكري والثقافي لتصنف الناس .. وياويل من ألصقت به تهمة ما
    وقد كان غبيا صاحبنا هذا ليعطي أذنه لأولئك الفضوليين
    وليحمد الله إنهم لم يقولوا عليه أرهابي
    من أهتم لكلام الناس هلك.
    قصة لطيفة ببراعة تصويرية وأداء ملفت
    سلم يراعك. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  8. #8

  9. #9
    الصورة الرمزية محمد فتحي المقداد أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 995
    المواضيع : 180
    الردود : 995
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناديه محمد الجابي مشاهدة المشاركة
    يساري ، يميني، شيوعي، ثوري ، رجعي ،مصطلحات تعتلي المشهد
    الفكري والثقافي لتصنف الناس .. وياويل من ألصقت به تهمة ما
    وقد كان غبيا صاحبنا هذا ليعطي أذنه لأولئك الفضوليين
    وليحمد الله إنهم لم يقولوا عليه أرهابي
    من أهتم لكلام الناس هلك.
    قصة لطيفة ببراعة تصويرية وأداء ملفت
    سلم يراعك. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    أستاذة نادية
    أسعدك الله
    بصراحة كلام الناس لا يتوقف مهما كانت الحالة
    ومن ألقى أذنه لهم سيهلك ..
    إلقاء التهم جاهز..
    سعدت بمرورك الراقي
    دمت بخيرر نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  10. #10

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. شـُلّتْ يمينٌ أثْخنتْك ملاما ...
    بواسطة حيدرة الحاج في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 13-04-2018, 06:15 PM
  2. فلينظر كل منا عمن يأخذ دينه - بقلم الأستاذ يسار الحباشنة
    بواسطة إدريس الشعشوعي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 21-05-2015, 12:43 PM
  3. العالم مشكلته الأساسية أخلاقية - الأستاذ يسار الحباشنة -
    بواسطة إدريس الشعشوعي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 14-03-2015, 12:02 AM
  4. هذه الأمة كانت على وشك النهوض.. ولكن.. (الأستاذ يسار الحباشنة)
    بواسطة إدريس الشعشوعي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 02-03-2015, 01:59 PM
  5. ود الأزرق يسار والأحمر يمين
    بواسطة هنا حسين في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 04-12-2008, 06:39 PM