جِئتُ أَبْحَثُ عَنْكِ " قراءة في نص الأمير الدكتور سمير العمري"
http://rabitat-alwaha.net/moltaqa/sh...ad.php?t=24340

بوحُ ذاتٍ بلُغةٍ رقيقةٍ حساسةٍ فاض النص بالرقة والروعة و رهافة المشاعر و صدقها ، وقدم صورةً لعاشقٍ تمكن منه العشق فأصبح لا يرى لنفسه كياناً أو وجوداً إلا في وجود هذه المحبوبة "اشْتَقْتُ إِلَي نَفْسِي فَجِئْتُ أَبْحَثُ عَنْكِ".غيابها يُمثل غيابه و ضياع روحه و تشتتها . هي تُمثل الربيع لروحه وذاكرته " الذِكْرَى القَاحِلَةِ إِلا مِنْكِ".
حالةٌ من الحزن و الأسى تسكنه لغيابها عنه "وَأَنَا بِالحُزْنِ السَّادِرِ فِي ذُهُولِ الغِيَابِ لا زِلْتُ أُهَاجِرَ إِلَيكِ فِي مَوَاسِمِ المَشَاعِرِ عَبرَ الخَوَاطِرِ أَبْتَنِي بِالوَهْمِ فَنَارَاتِ أَمَلٍ فِي دَيْجُورِ البَينِ المُقْلِقِ" هو لا يرى غيرها موطناً و ملجأً يُداوي بها جراح غربته و حزنه وهي من عرفت كيف تصل إلى عمقه و تستقر فيه "عَرِفَتْ كَيفَ تَسْلكُ دَرْبَهَا سَرَبًا إِلَى حَيثُ مَوْطِن الوَجَعِ الدَّفِينِ".هي تسكنه و تستوطن روحه و قلبه , تجري منه مجرى الدم في العروق وهو ما يعكس شدة التعلق و القرب. روحه كانت غريبةً في جسده لغيابها عنه " ابْحَثُ عَنْ نَفْسِي فِي نَفْسِي فَأَجِدُهَا فِي الجَسَدِ غَرِيبَةً وَقَدْ أُسْكِنْتِ مَسَامَاتِهَا وَجَرَيتِ فِي خَلايَاهَا دَمًا زَكِيًّا وَأَقَمْتِ فِي المَآقِي صَرْحَ طَيفِكِ شَامِخًا وَسَكَبْتِ رَحِيقَ عِطْرِكِ حَائِمًا فِي القَلْبِ وَالرُّوحِ. وَأَجِدُنِي بِدُونِكِ أَلُوكُ مِنْ نَبَاتِ الشُّجُونِ صَابًا وَأَجْرَعُ مِنْ بَنَاتِ العُيُونِ صَبَابَةً مَسَافِرًا بِهَا إِلَيكِ فِي دُرُوبِ التِّيهِ وَبِيدِ الغُرْبَةِ لا رَاحِلَةً تُقِلُّ وَلا قَدَمًا تَكِلُّ وَلا نَجْمًا يَدِلُّ وَلا أَمَلًا يَملُّ وَلا يَأْسًا يَشُلُّ وَلا مَاءً يَعلُّ وَلا فَيْئًا يُقِيلُ. يتماهى المُحب في محبوبه فيُصبحان كياناً واحداً "كُنْتُ خَاصَمْتُ نَفْسِي يَومَ خَاصَمْتُكِ" لم يُخاصمها و إنما خاصم نفسه و هذا يصور شدة تعلقه و حبه لها .


لغةُ العاشق و رسوله كانتا عيناه حيثُ فضل الصمت على الكلام " ثُمَّ يَسْتَأْمِرُ العَينَ أَنْ تَكُونَ رَسُولَ شَوقٍ لِلقَمَرِ فِي طُقُوسٍ حَالِمَةٍ مِنْ أَبْجَدِيَّةِ الصَّمْتِ وَالصَّخَبِ. تِلْكَ هِيَ لُغَتِي الأَفْصَحُ وَالأَجْمَلُ فِي عَصْرِ زَخْرَفَةِ الحُرُوفِ وَابْتِذَالِ المَشَاعِرِ. أَجَلْ ، رغْمَ فَصِيحَاتِ الحُرُوفِ عَلَى لِسَانِ يَرَاعَتِي يَظَلُّ تَاَمُّلُ جَمَالَكِ فِي هَدْأَةِ الأَسْحَارِ لُغَتِي الأُولَى ، فَللِصَّمْتِ يَا بَهْجَةَ الرُّوحِ حَدِيثٌ هُوَ أَمْتَعُ مَا فِي الوُجُودِ". يقول ابن حزم الأندلسي في كتابه "طوق الحمامة" :و اعلم أن العين تنوب عن الرُسل و يُدرَك بها المُراد و الحواس الأربع أبوابٌ إلى القلب و منافذ نحو النفس و العين أبلغها و أصحها دلالة و أوعاها عملاً وهي رائد النفس الصادق و دليلها الهادي و مرآتها المجلوة التي بها تقف على الحقائق و تميز الصفات و تفهم المحسوسات . وقد قيل ليس المُخبِرُ كالمُعاين ."


محبوبته من طرازٍ خاص وصفه لها جعلنا نراها ذات طبيعةٍ مُذهلة فهي قد بلغت درجةً من النقاء والصفاء لدرجة انه رأى في مشاعرها انعكاساً لصورة القمر "أَتَأَمَّلُ صَفْحَةَ بَحْرِ مَشَاعِرِكِ تَعْكِسُ عَلَى وَجْهِ القَمَرِ فِي أَعْلَى الأُفُقِ نُورَهُ" و كأنه بحرٌ هادئٌ رقيق ترتسم فوق صفحته صورةٌ رائعةٌ للقمر .لكنه يقف حائراً مُشتتاً بين قلبٍ لا يتحمل بُعدها و بين عقلٍ مُكابر "تَقَلَّبُ فِي الحَيرَةِ الكَأْدَاءِ بَينَ إِقْدَامٍ يُمْلِيهِ قَلْبٌ جَعَلَ الحُنُوَّ أَرَبَهُ ، وَبَينَ إِحْجَامٍ يَكْتُبُهُ عَقْلٌ جَعَلَ الوَقَارَ مَطْلَبَهُ" يخشى انقضاء عمره قبل أن ينال فرحة اللقاء و ينعم بها "وَمَا أَعْسَرَ حَالَتِي بَيْنَهُمَا يَا مُنَى العُمْرِ المُسَافِرِ لِلمَغِيبِ" .

يستطردُ في ذكر صور صفائها و نقاء روحها "نَقِيَّةٌ أَنْتِ كَمَا أَنْتِ ، مَا يَكَادُ يَشُوبُكِ كَدَرُ عَتَبٍ حَتَّى يَجْلُو بِلَورَ قَلْبِكِ الدُّرِّيُّ نُورُ صَفَاءِ وُدِّكِ وَخُيُوطُ نَقَاءِ سَجِيَّتِكِ وَأَخْلاقٌ شَفَّافَةٌ تَنْسجُكِ فَرِيدَةً فَكَأَنَّكِ مِنْ عَجِينَةِ الشَّمْسِ جُبِلْتِ ، وَمِنْ مَاءِ الكَوثَرِ سُكِبْتِ ، وَقَامَتْ فِيكِ الرُّوحُ مقَامَ الأَطْيَافِ النُّورَانِيَّةِ فِي العَوَالِمِ العُلْوِيَّةِ تَسْبَحُ بَينَ طَاعَةٍ وَقَنَاعَةٍ وَبَينَ حُبٍّ وَاجْتِبَاءٍ." وصفهُ لها أحاطها بهالةٍ نورانيةٍ و قداسة و كأنها من نساء الجنة في نقائها و صفائها ,وصفت نساء الجنة في الحديث الشريف " يرى مخ سوقهما من وراء الحلل".
وتتلعثم كلماته لشدة جمالها وهيبتها " أَنَّ مَعَانِي الغَزَلِ عَلَى شُرُفَاتِ أَنَاقَتِكِ تَتَلَعْثَمُ فِي عَوَالِمِ الدَّهْشَةِ بَينَ هَمْهَمَاتٍ تَسْتَنْطِقُ مِنْ كَلِمَاتِ العَينِ وَمَهْمَهَاتٍ تَسْتَغْرِقُ فِي عَينِ الكَلِمَاتِ لاسْتِقرَاءِ كَيْنُونَةِ المَعَانِي المُبْهَمَةِ واسْتِجْلاءِ صَدَى الإِيمَاءَاتِ المُلْهِمَةِ" .


وصفُ المحبوبة يرسمُ أيضاً صورةً للعاشق فمحبوبةٌ بهذه الصفات تستدعي أن يكون عاشقها صاحب قَدرٍ كبير , يقول ابن حزم :و الشكل دأباً يستدعي شكله و المثل للمثل ساكن و , و للمُجانسة عملٌ محسوس و تأثيرٌ مشهود, و التنافر في الأضداد و الموافقة في الأنداد " و يقول أيضاً :(وأنت متى أمسكت الحديد بيدك لم ينجذب إذ لم يبلغ من قوته أيضاً مغالبة الممسك له مما هو أقوى منه. ومتى كثرت أجزاء الحديد اشتغل بعضها ببعض واكتفت بأشكالها عن طلب اليسير من قواها النازحة عنها، فمتى عظم جرم المغناطيس ووازت قواه جميع قوى جرم الحديد عادت إلى طبعها المعهود. وكالنار في الحجر لا تبرز على قوة الحجر في الاتصال والاستدعاء لأجزائها حيث كانت إلا بعد القدح ومجاورة الجرمين بضغطهما واصطكاكهما، وإلا فهي كامنة في حجرها لا تبدو ولا تظهر..

ومن الدليل على هذا أيضاً أنك لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق الصفات الطبيعية لا بد من هذا وإن قل، وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة وتأكدت المودة فانظر هذا تراه عياناً، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكده: "الأرواح جنود مجندة ماتعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " )فقدرُ المُحِب من قدر محبوبه .


يختتم هذا البوح بمُناجاةٍ رقيقة للمحبوبة فيُناديها بأرق الأسماء و الصفات " فَيَا مُنَى القَلْبِ وَالحُبِّ وَالدِّفْءِ وَالحَنِينِ ، يَا مُوسِيقَى القِيثَارَةِ الحَالِمَةِ فِي حُلُمِي الطُفُولِيِّ المُمْتَدِّ مِنْ إِرْهَاصَاتِ عَناقِيدِ رَبِيعِي الفَجِّ حَتَّى بَقَايَا أَعْنَابِ خَرِيفِي النَّاضِجِ " هي تُمثل الربيع لخريف حياته و هو يُمثل لها الظل الذي يقيها وهج الشمس " الحِرْصِ عَلَيكِ أَفْرِدُ أَجْنِحَتِي حَانِيَاتٍ فِي فَضَاءَاتِ عَالَمِكِ المُغْرِقِ فِي دَيْمُومَة الوَجَعِ لا لأَسْرِقَ مِنْكِ ضُوءَ الشَّمْسِ بَلْ لأَمْنَحَكِ ظِلَّ النَّفْسِ" صورةٌ من الإحاطة و الحماية " ، وَأَحْتَوِي بِالابْتِهَالِ لِرُوحِكِ رَجفَاتِ قَلْبِكِ المُرْهَقِ بِعَذًابَاتِ السِّنِين. وَحِينَمَا تَتَقَلَّبُ الرِّيحُ فِي مَسَارَاتِهَا تَنْقَلِبُ لَكِ الرُّوحُ فِي مَدَارَاتِهَا تَحُومُ حَولَكِ قُطْبًا بَلْ مَجَرَّةً لَهَا سَبْعُ شُمُوسٍ مِنْهَا تَسْتَمِدُّ ضِيَاءَهَا وَلَهَا تَمْنَحُ من دِفْئِهَا" .
يتمنى أن ينال لقائها " وَعِنْدَ مَشَارِفِ الفَجْرِ المَاثِلِ شَوْقًا سَيَظَلُّ دَوْمًا لِلعَاشِقِينَ لِقَاءٌ" حدد الفجر وقتاً للقاء لأن قبل الفجر تكون احلكُ ساعات الليل فيُمثل اللقاء إشراق شمس سروره و سعادته التي ستمحو عتمة الغياب ناشرةً الدفئ بعد أن سكن الصقيع ايامه في غيابها .

و استلذُ بلائي فيك يا أملي **** ولستُ عنك مدى الأيامُ انصرفُ
إن قيل لي تتسلى عن مودته**** فما جوابي إلا اللامُ و الألفُ