( هذا التعري قبل قدوم البحر ) مجموعة شعرية للشاعر كرم الاعرجي تكتنف بين صفحاتها مقطعات حافلة بالصورة الشعرية والدلالات الرمزية التي ترسم بوضوح ملامح النص الشعري الحديث . واظنه قد حاول فيها خلق واقع جديد من خلال تعامله مع الواقع اليومي عبر الصورة الحسية لتجسيد ماهو مرئي فغدا شعره تصويراً ناطقا للواقع وهو إذ يفعل ذلك يتحرك من رقعة الوعي التلقائي ملتزماً بالكثير من قيم المنطق التقليدي انه ينتقل بين التخييل والمتخيل في العديد من نصوصه باسلوب راقي وسلس يجعل المتلقي هائماً في حروفه متفاعلا مع مفرداته وصوره المرسومه بشكل جميل وهذا لأنه استطاع أن يجد منفذاً لمحاكاة العواطف عبر بوابات مختلفة كما انه يقف موقفا ملتزما وواعيا من قضايا أمته ووطنه ويطمح الى تحقيق تواصل صحي مع الاخرين فهو يرسم لوحة جميلة بأنامل جريحة ليُخرِج لنا في النهاية عملاً متقناً يصب في أنهار ألامل والتمرد على الواقع ألمرير ألذي يعيشه الانسان العربي عموماًمن تهميش للعقلية العربية ومبدعيها وحاول ان يحرك ألاحاسيس المكبوتة القابعة بين جدران الخوف , في مقطّعه ألذي هو مدخلاً لــ ( جحيم المعمورة) حيث يقول الشاعر (ولأني أحقن في الريح
ضوءَ الحضاره …
يضيق الكون بي ..
تتسع العباره ..؟!!)
وهكذا ينسل بهدوء نحو الفعل الدرامي الذي يحتويه النص ليقول:
(.. أشجار بكاء الناموس
يَنخرُ فيها شبق النار ..
وأنا
يقطرُ من عينيّ حليب الخوف
أمتهن الخوف
منذ صراخي الأوّل
في شك اللحظات الفجرية
اولد من أشَنات نهارِ مستاء
تعلكه الأفواه الذئبية
وبعينيَّ المالحتين
أركب موج الروح
وخلف
" قطا " الطوفان
أصرخ
يانوح نبيّ الطرق السرية
أرجعنا
فبقايانا أوزار) .
إن إستغلال الشاعر كرم الاعرجي الوجع الانساني للعوام إستغلالا رومانسيا هو أكثر من حنين إلى الولوج نحو مسالك للتواصل الأدبي فهل الشاعر في نصوصه الجميلة يحاول الوصول الى طبيعة الحياة من خلال العزف على أوتار العواطف الانسانية ؟ وهل ذلك يمثل كمالاً في الأداء الروحي لديه؟ المتأمل لنصوص الشاعر يتلمس مدى إنقياده الى عوالم القصيدة الحديثة ومدى تأثره بنتاجات الكبار من الشعراء المحدثين ولكنه وجد لنفسه طريقا للتفرد بأداءه الشعري ً إيقاعاً وصورة لانه إستعمل الخيال إستعمالا موفقا للوصول الى ماينبغي أن يكون فيه أي نص حديث يقود اللغة نحو خدمة ألخيال الشعري .ففي نصه (سيزيف ثانية ) يقول :
(أركض في الغابة .
وذئاب تنهش مني الخطو المرعوب .
ومخالب أهل الغابة تجرحني
وأقاوم اركض .
وجراحي تعدو في جسدي
أصرخ باللاصوت
كان الليل بطيئا
والركض مكاني )
أما مقطّعِهِ (تساؤلات ها دئه ) يطوف بنا الى حيث اللامكان واللامعقول في بضعة تساؤلات ميتافيزيقية موازية للواقع الذي يلفّعنا بمكنوناته ومضاداته بتنافر سيرتيه ( البعد الروحي , وبعد الجسد ) ليرسم بعدها صورة ضبابية قابلة للتغيير عبر حسه الشعري ومتخيله الكبير فيقول:
(قانون العالم كالآفة يحبو
انت امامي
هادئة
غاضبة
والقهوة تسري
والشرق حزين
ماذا لو يدنو المقعد مني ؟
او يدنو المقعد منك ؟
ماذا لو نتوحد ؟
ماذا لو حطمنا القانون الخاسر في الاعراف ؟
هل تنكفئ الزرقة عنا ؟
) وهكذا يتنقل الشاعر عبر مواضيعه بنفس الحس الشعري والأسلوب الحديث الذي اتبعه في مجموعته الشعرية وبعد هذا الذي أشرنا اليه هل بوسعنا ان نقول ان إستمتاع الشاعر بالحياة هو نتاج وعي بماهيتها وادراك لكنهها ؟؟ام ان ذلك ينتصب على الجانب الفكري العميق في علاقة الانسان بمصيره الميتافيزيقي المنفلت ابدأ من التحديد ؟
نعم , لقد تشعبت أفكار ألاعرجي في مدار نصه (هذا التعري قبل قدوم البحر ) ليضيف ولو بخجل هالة من التفرد المشبوب بالبياض الذي أسهد لياليه وجرده من الماديات ليحلق كطائر جريح فوق غيوم القلق والحيرة وهنا أعتقد جازماً ان المتخيل الشعري تجلى بمفرداته طواعية فأتت الكلمات تحكي ما يلوح في أفقه الشعري بسلاسة وجمالية أضفت رونقاً للنص ممايجعلنا نتوغل في أعماقه لنستشعر الصدق الذي يستند عليه الشاعر في كل نصوصه .. يقول الاعرجي (.. خذني
يا طير عمائي
من جب الشعر الموحش
خذ أرقي
وابعد عني افعاه
تلدغ أفعاه .. لو تدري
يا طير ..
.. خذني أستجدي
من برق القدرة بيتاً تلمع ،
فيه اللذة والاطياف)
وبرغم كل مايشعر به الشاعر كرم الاعرجي من خوف وقلق ازاء الحياة فانه يتطلع في مجموعته (هذا التعري قبل قدوم البحر) الى الافضل ويقاوم كل مامن شأنه ان يصادر حرية اختياره لها لأن الشاعر محكوم بالحرية
على حد تعبير سارتر.
عبدالكريم الكيلاني

http://www.postgasidas.com/members/kareem/

نشرت هذه القراءة النقدية في صحيفة الصباح التي تصدر في غزة

والعديد من المواقع الالكترونية