انتصفَ الليل,, وأُعلنت السَّاعةُ الثانيةَ عشرة تماماً ,,فانفجرت الدّنيا,, ولمْ تكنْ قد انفجرت بعد.
امتلأ الفضاءُ بالألوان الوامضة التي تخطفُ الأبصار.
إنّها ليلةُ رأس السَّنة ,وكلُّ شيءٍ يبدو مبهرجاً مزيناً .
هذة المفرقعات الجميلة المزركشةِ بعناية,,كم تعجبني !! ,إنّها ساحرةٌ صارخة وهي تنفجرُ في الهواء راسمةً أشكالاً هندسيَّةً صاعقةَ الجمال . لكنِّني أستغربُ!! كيفَ يدفعُ الناسُ ثمنَها الباهظ من أجلِ ومضةٍ ستختفي بعد حين ؟,وكأنََّ شيئاً لم يكن؟ .
ومع ذلك,, فأنا مجبرةً على شراء بعضها ,فالأولاد لا بدَّ أن يعيشوا طفولتَهم ,هذا حقّهم. والمفرقعات,, تمنحُهم سعادةً نادرة ,خاصةً عندما يفجّرونَها بأيديهم الصَّغيرة ,ملاحقينَ وميضَها, مرفرفينَ معها ,وكأنَّهم يرتفعون بها للفضاء, لفرطِ السعادةِ والحُبور.
أن ينظروا ويتمتّعوا بما يفرقعُه الآخرون مثلي,, لا يكفيهم!!!
كنتُ هناك,, في السّاحةِ العامَّة ,جارتي وأنا,, نشاركُ باحتفالٍ يُفرضُ علينا.
كي نضعُ عيناً على أولادِنا اليافعين لرعايتِهم, يجب أن نكون هناك.
ولا ننكر,, أو أنا لا أنكرُ أنَّني أسعدُ أيضاً,, لأنَّ عينيَّ تنبهرُ فعلاً بالوميض , فيأخذني حسُّ طفولةٍ بريئة ,لفرحةٍ عارمة, أنسى بها بعض إحساسي بالغربة .
شيءٌ ما قد لفتَ نظري وأدهشني ,,!
كيف تكتفي النساء, وخاصةً الفتيات, بملابسٍ خفيفةٍ قليلةٍ مكشوفة في هذا البرد القارس ؟؟,في الحقيقة استغربتُ ذلك كثيراً في البداية ,إلى أن أدركتُ أنَّ الخمرةَ التي يشربنَها بشراهةٍ في مثلِ هذة المناسبات, تُفقدهنّ الشُّعور بالبرد تماماً .!
/
علينا العودة الآن, قلت لجارتي : فقد همدَ الإحتفال ,وتلاشت المفرْقَعَات إلا القليل ,والبردُ شديد.
أودُّ لو نتمشَّى قليلاً في طريق البيت ما رأيك ؟؟,فالشوارعُ مؤنسة ,والأضواءُ ملعْلعَة, وأنا لم أحظَ بالهواء منذ يومين, أكملت.
قالت : موافقة,, شرط أن نتناول العشاءَ عندي ,ولا ترفضي أرجوكِ, سيفرحُ الأولاد ببعضِهم ,ونسهرُ معاً, فالليلةُ عيد ,,وعلينا أن نقوم بشيءٍ مختلف.
أجبتُ والحيرةُ تغلبني : ولكن هذا يعني أنَّنا لن ننامَ قبلَ الفجر!
ولماذا ننام ؟؟ ردَّت جارتي :غداً عطلةٌ رسميَّة, والناسُ كلهم نيام .في الغدٍ نهاراً سننام ما نشاء.
هل تعلمين ؟؟, أردَفت: رغمَ العيد,, والبهجة, والبهرجة, أحسُّ بوحدةٍ قاتلة!.
يا عزيزتي , لست وحيدة ,,عندك أولادك ,,قلت.
لم تسمعْني وتابعت: وأحسُّ أيضاً بالكآبةِ والفراغ ,وأحسُّ بالمسؤوليةِ ثقيلةً على عاتقي ,,,لو كانَ والدُهم هنا ؟؟
قلت :أفهمكُ عزيزتي , هذة شريعُةُ الحياة !! أتمنى أن يجمعَ اللهُ شملَكم قريباً .
مسكينةٌ جارتي ,إنَّها امرأةٌ عاديَّة, مثلَ كلِّ النِّساء ,جارتي ليست شرِّيرَة .
ولكنِّني لا أدري ماذا أصابَها هذا المساء !! ولا أدري كيفَ جارَيتَها في بدايةِ الأمر.
كان الأولادُ يسبقوننا بعدَّةِ أمتار,, يهرُجون ,ويقفزُون, ويضحكُون .
في الشارع الفرعيّ ,المؤدّي لبيتِها, رأينا امرأةً تقفُ أمامَ بنايةٍ وتنادي اسمَ شخصٍ بأعلى صوتها .
شيءٌ عادي ,,قلتُ لنفسي :المرأةُ لا تحملُ مفتاحَ البيت, أو نسيته, أو أضاعته .والبوابةُ الخارجيَّة مقفلة منذ التاسعةِ مساءً (أبوابُ البنايات عادةً تقفلُ آلياً في مثل هذا الوقت) .
لم نأبهُ للموضوع ,وبقينا نمشي بنفسِ الوتيرة ,,أي نتمشَّى,, وحديثُنا لا ينقطع .
أصبحنا بجانب المرأة ,لاحظنا أنَّها ترتجفُ بشكلٍ غير اعتيادي , وإنَّها على وشك السقوطِ أرضاً ,ولاحظنا أن صوتَها غيرُ طبيعيّ.
اقتربتُ منها مسرعةً بدافعٍ داخليّ وبدون أي تفكير ,رأيتُ عينيها كالجمرِ اشتعالاً.
لمستُ جبينَها فأحسستُ أنَّها محمومةٌ جداً .
شرعتُ أسألها وبحماسٍ كبير , كيف سنساعدها ؟عندما أحسَسْتُ أنَّ جارتِي تسحبُني من يدي بقوةٍ وحسمٍ قائلة:
اتركيها ,,ألا تشاهدين أنَّها امرأةٌ مخمورة, فاسقةٌ كافرة, وشبه عارية ؟ أين كانت لوحدِها في هذة الساعةِ المتأخرةِ من الليل ؟؟
طأطأتُ رأسي, ~لم أفكر بذلك~, قلتُ لها .ومشيتُ معها .
تابعنا طريقََنا لا نلوي على شيء !! لكنَّني متألمةٌ, حزينة, خجولةٌ ,وصامتة, لا أحسُّ بالرّاحةِ أو الرضى !
جارتي ما انفكَّت ترغي وتنفخُ على وجهي كلامًا حاراً ~مجنونةٌ أنتِ ؟هل أنت مسؤولةً عن عبثها؟ ,ألا تعلمُ هيَ أنَّ هذا فعلٌ آثم ؟ لتتحمَّل النتائج بنفسها ,ولترَ نهايتََها على هذا الشارعِ في العراء ,دعيها تتلقَّى عقابَ الله ,هكذا من…لا ~.
بدأتُ أحسُّ بكلماتِ جارتي تنهالُ على رأسي مثلَ مطرقةٍ ثقيلة .
صراخُ هذة المرأةُ الذي بدأ يتهيأ لي أنَّه يخفتُ شيئاً فشيئاً يمزِّقُ طبلةَ أذني .
تسمَّرت عيناي على حذائي, خطوة إثرَ خطوة .
جارتي على حق ,همستُ لنفسي :
ولكنَّني على خطأ!
أنا أرتكبُ خطيئةً لن أسامحَ نفسي عليها أبداً.
المرأةُ ستموتُ في هذا البرد بلا شك ,وأنا قادرة على مساعدتها, لكنَّني لا أفعل !
هل أنا الله,,,؟ وعليَّ معاقبتها ؟؟؟؟ طبعاً لا ,ما أنا إلا مجرمةٌ وقاتلة ,أنا سأقتلُ الليلةَ نفساً بدون حق .
أنا قاتلة, صوت احتجاجٍ وصراخٍ يشبه صراخ المظاهرات الغاضبة في صدري !
أنا قاتلة ,أنا قاتلة
صوت يهدر داخلي بدون توقف.
توقّفتُ مكاني ,,
ألقيتُ نظرةً في كلِّ الإتجاهات ,لا أحد غيرنا في هذا الطريق,,لا أحد.
عاد الصّوتُ يهدُر كالبحر العاصف ,قاتلة .
لم أعدْ أحتملُ الموقف.
وبسرعةِ البرق, ناديتُ صوتاً على أولادي ,وهممْتُ بالعودةِ إليها .
تمسَّكت جارتي بطرفِ كمِّي ,,
أنتِ مجنونة,,إنها كافرةٌ عابثة ,,وأنت مسلمة.
قلت بحسمٍ وأنا أنفضُ يدي من يدِها بقوَّة ,,
لأنَّني مسلمة ,,سأقدِّم لها كلَّ العون ,وإن اضطررت سآخذها لبيتي .
إذهبي أنتِ, وتناولي عشاءَك هنيئا, ولا تنسي صلاةَ العِشاء لتطلبي المغفرة ,أنا لن أطلبَ منكِ شيئاً.
أسرعت مع أولادي نحوها,,تجمَّعنا حوَلها , ,دثرتُها بشالٍ صوفيٍ كان معي, وشرعنا معاً ننادي نفسَ الأسم الذي تناديه ,بصوتٍ يشقُّ الليلَ شقا .
وبسرعة, وفّقنا الله, واستفاق الرَّجل وفتحَ نافذةً في الطّابق الثَّالث ليستطلع الخبر ,ثم أسرع ليفتح البوابةَ الخارجيَّة, ويأخذها ويشكرنا كثيراً .
المرأةُ الآن في أمان ,تنفّست الصُّعداء ناظرةً للفضاء الداكن ,أحسسْتُ أنَّ ابتسامةَ رضى قد أشرقت على طولِ السّماءِ وعرضِها !!.
مسكينةٌ جارتي ,لقد خسرت تلك الإبتسامة .
إنها ليست شرِّيرة,, أنا واثقةٌ وصادقة .
ليست شرِّيرة أبداً.
لكنَّها مشتَّتة ,,لا تعقلُ بعد أنَّها تعيشُ في مكانٍ آخر ,وزمانٍ آخر, وأنَّ التَّحديات التي تواجهُ مفاهيمَنا في هذة الغربة
هائلة !!!.
ماسة
شكرا للأستاذ حسين المسعودي على ملاحظاته الكريمة