قراءة في رواية الحلم المزدوج للروائية الفلسطينية دينا سليم

( الحلم المزدوج ) عمل روائي يندرج بحيثياته وبناءه الموضوعي وامتلاكه لخاصية
النسيج الدراماتيكي المحبوك بصيغة تفاعلية منسجمة برغم التنافر من حيث البناء الفني لمزايا الروي الذي يستند على الحداثة في جوهره كأداة فاعلة للتواصل مع القاريء بأسلوب ينم عن خبرة ومراس انعكست بوضوح على الأسلوب الشفاف الذي واكب الشخوص في الرواية ومن ثم خصتها برؤية مغايرة ومتفردة منحت النص قيمة أدبية لايمكن بأي حال من الأحوال التغاضي عنها أو التنصل من الإشادة بها و لقد نسجت دينا سليم واقعاً معاشاً وهمـّاً قومياً بأسلوب مدهش وحس أدبي رفيع يتسامى فيه الإبداع والصدق ليكون في النهاية عملاً أدبياً متميزاً في صناعة الصور المتلاحقة في هذا النوع من الفن الكتابي للرواية .
أجادت الكاتبة الدخول الى الحدث من خلال الشخصية الرئيسية التي تدور حولها أحداث الرواية ( صارم ) العراقي المغترب منذ سنين طويلة لتحفر مدخلاً حالماً بلارتوش الى عالمه الصاخب بالمجريات والنكوص حيث خرج (صارم) من الحرب العراقية _ الايرانية التي سرقت من عمره تسعة سنين بأيامها ولياليها , أفراحها وأتراحها لتتركه هشيماً بائساً إضطر بسببها الخروج الى عتمة الاغتراب وليل التشرد في أزقة (ليماسول) النائية حيث الوحدة والحنين الى الوطن جعلا منه شاعراً رقيقاً مرهف الحس طيب القلب يبتلع ريقه كمداً كلما لاحت له أفروديت لتهزّ مشاعره المكبوتة منذ أن وطئت قدماه هذه البلاد التي لايعرف كيف وصلها بل كيف سيخرج منها عائداً الى كنف والدته التي طالما كانت تذرف الدموع وتبتهل لله أن يحفظه ويعيده سالماً حين جُنّد لخدمة العلم والذهاب الى الجبهة مع أقرانه من القابعين في الربايا والسواتر الأمامية وكانت محاكاته لفتاة أحلامه واقعاً جعلته يستبيح مشاعر مكبوتة قابلة للطوفان في بحور غرائزه اقابعة في قعر ذكرياته الراكدة :
- اجمل ما يغمرني سعادة هي ضحكتكَ الرنانة ..))
قهقه متعمدًا ? ارادَ ان يسمعها ما احبت فيه .
- أُحبكِ .. اُحبكِ كثيرًا .. بوجودك فقط تبقى ضحكاتي ...
- اخاف على يوم ? ما يأتي ولا استطيع سماع صوتكَ .
لم يستطع انجاز اهم عمل في حياته .. (ديوانه الشعري ) بسبب عسره المادي ? اراد مفاجأتها بذلك العمل :
- لاول مرة ألِدُ مملكة ? انها لكِ فقط .
اختار له اسماً ومضموناً جديدا احتوى نكهة خاصه مميزه :
- لقد تغير كل شئ في ديوانكَ .
- نعم اصبحت منذ اليوم شاعر المجددين ? شاعر الحب والهيام ? انني قديسٌ في
حضرة عينيها .))
الصور المتلاحقة التي حاولت الروائية تسريبها للقاريء بسلاسة وبراعة وبناء متقن أحدثت حلحلة للمواقف التي جعلت من الرواية مسرحاً يجمع على خشبته شخوصاً كثيرة في أزمنة وأمكنة مختلفة متمثلة بصارم , الانسان الحالم والشاعر الذي يرمز للطبقة المثقفة التي كان من المفترض أن تكون هي المهيمنة على الأحداث والصراعات التي تشبّع بها الوطن و الأم التي ترمز للأرض والحبيبة التي ترمز للأمل والمستقبل المنشود.
إن إتباع أسلوب الفلاش باك وتسخيرها في خدمة النص الروائي جاءت مواتية لاقتحام الذات المحشوة بآمال وألآم لم تكن تتجلى إلا بالشكل الذي نراه في هذا العمل المتقن اداءاً وبناءاً فصارم الذي يعتبر أنموذجاً للشاب العراقي المحروم من أبسط حقوقه كإنسان بسبب آثار الحروب والاضطهاد والحرمان الذي عاشه في بلده فآثر الرحيل الى حيث اللا مكان هرباً من شظف العيش والبؤس مما جعله يرسم في مخيلته أحلامه البعيدة المنال وبث فيها الروح ليستجيب لحاجاته العاطفية ولتكون له الملاذ والمسكن وفي بعض الحالات الصديق الذي يحتاجه ويستعين به والحبيبة التي تنير له دهاليز الظلام القابع فيها رغماً عنه حتى إذا ما انزاحت الغمة ووجد وطنه فاتحاً ذراعيه لاستقباله كالمنتصرين لا كالمهزومين بعد زوال نظام الحقبة الدكتاتورية نجده متلهفاً للعودة تارة ومتردداً تارة أخرى للرجوع الى حيث مراتع الصبا والشباب خوفاً من أن لاتتعرف عليه ابنتاه اللتين تركهن منذ سنين لتتلاطم في مخيلته الأحاديث والمواقف المرسومة في مخيلته جزافاً حاملاً همه ألأزلي نحو آفاق جديدة من هنا نعي أن نتيجة التاثر بما تعانيه شخصية البطل التي اعتبرته شخصية مؤلمة تدور من حولها الاحداث ضحية لمواقف اجتماعية وما درت انها كانت ضحية البطل لذا هذه الكاتبة طالما تاثرت باحداث عامة لم تكن موفقة في الخروج من سجن الحدث الشخصي للبطل وهنا بقيت تسبح في هذا التشظي القلق عند( صارم ) وكان لزاما عليها ان تحلق من فوق المنظر الصوري لشخصية البطل وتفسر عالمه دون ان تكون طرفا في موضوعة الشخصية .
لكنها استطاعت تكوير وتدوير الحدث ليخدم الفكرة التي انطلقت منه على اساس الانتماء للارض والمباديء والقيم العربية الاصيلة فسحر الوطن يهيمن على احاسيسه ليشكل الذروة في تساؤلات البطل وهواجسه وهذا يسهل عملية الولوج لبواطن الرواية وتفاعله الصميمي مع الفعل السردي الذي جاء مكملاً للرؤية التنظيرية التي عملت على أساسه الكاتبة.
الحلم المزدوج رواية كتبت بإحساس عراقي عال عكس واقعا لمسناه طويلا بأسلوب شفاف سلس لايمكن للقاريء الا أن يلوذ بين سطورها غارقا في لججها ومتفاعلا مع أحاسيسها وفصولها الثمانية والثلاثين وصفحاتها التي بلغت المائة وتسع وخمسين صفحة بحجم متوسط يتيح بآفاقه المضي للتعبير عما يجيش في النفوس الكسيرة الحاملة أوجاعها نتيجة السياسات الخاطئة التي تنتهجها بعض السلطات قمعا وتشريدا وإبادة والجدير بالذكر ان الرواية صدرت طبعتها الثانية عن دار العودة ببيروت.
عبدالكريم الكيلاني