قول في القياس:
الدكتور عثمان قدري مكانسي
واختلف الناس في القياس إلى قائل به , ورادٍّ له ; فأما القائلون به فهم الصحابة والتابعون , وجمهورٌ كثير مِن بعدهم , وأن التعبد به جائز عقلا واقع شرعا , وهو الصحيح . وذهب بعض الشافعية والحسن البصري إلى وجوب التعبد به عقلا . وذهب النظام المعتزليّ إلى أنه يستحيل التعبد به عقلا وشرعا ; ورده بعض أهل الظاهر . والأول الصحيح (جواز التعبد به) .
وذكر القرطبيّ أن البخاري رحمه الله قال في ( كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ) : المعنى لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو سنة نبيه أو في إجماع العلماء - إذا وجد فيها الحكم - فإن لم يوجد فالقياس . وقد ترجم على هذا ( باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمها ليفهم السائل ) . وأصّل بعد هذا ( باب الأحكام التي تعرف بالدلائل وكيف معنى الدلالة وتفسيرها ) .
وقال الطبري : الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة هو الحق الواجب , والفرض اللازم لأهل العلم . وبذلك جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم , وعن جماعة الصحابة والتابعين .
وقال أبو تمام المالكي : أجمعت الأمة على القياس ; فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب والورِق في الزكاة .
وقال أبو بكر : أقيلوني بيعتي . فقال علي : والله لا نقيلك ولا نستقيلك , رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا ؟ فقاس الإمامة على الصلاة . وصرّح بالقياس في شارب الخمر بمحضر من الصحابة وقال : إنه إذا سكر هذى , وإذا هذى افترى ; فحده حد القاذف .
وقاس الصديق الزكاة على الصلاة وقال : والله لا أفرق بين ما جمع الله ، وقال " والله لاقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة" .
وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري كتابا فيه : الفهمَ الفهمَ فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة , اعرِفِ الأمثالَ والأشباهَ , ثم قِسِ الأمورَ عند ذلك , فاعمد إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق فيما ترى . الحديث بطوله ذكره علماء الفقه في حديثهم عن القياس .
وقد قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنهما في حديث الوباء , حين رجع عمر من سرغ : نفِرُّ من قدر الله ؟ فقال عمر : نعم ! نفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله . ثم قال له عمر : أرأيت . . . فقايسه وناظره بما يشبه من مسألته بمحضر المهاجرين والأنصار ،والأمثلة في قياس الصحابة كثيرة .
وأما الآثار وآي القرآن في هذا المعنى فكثير . وهو يدل على أن القياس أصل من أصول الدين , وعصمة من عِصَم المسلمين , يرجع إليه المجتهدون , ويفزع إليه العلماء العاملون , فيستنبطون به الأحكام . وهذا قول الجماعة الذين هم الحجة , ولا يلتفت إلى من شذ عنها .
وأما الرأي المذموم والقياس المتكلف المنهي عنه - وهو كلام القرطبي رحمه الله - فهو ما لم يكن على هذه الأصول المذكورة ; لأن ذلك الظن والنزغ من الشيطان ; قال الله تعالى : " ولا تقف ما ليس لك به علم " [ الإسراء : 36 ] . وكل ما يورده المخالف من الأحاديث الضعيفة والأخبار الواهية في ذم القياس فهي محمولة على هذا النوع من القياس المذموم , الذي ليس له في الشرع أصل معلوم .
ولأنني أحب الأدب والشعر فلا بد أن أذكر القياس فيهما، فأذكّر نفسي وأذكّر القارئ أن الشعراء في شعرهم يقيسون ، فهذا الشاعر يعجب من محب يعصي محبوبه ، فيقول :
تعصي الإله وأنت تزعم حبه ؟! == هذا لعمري في القياس بديعٌ
لو كـان حبـُّك صادقاـً لاطعتَه == إن المحبَّ لمن يُحِب مطيع
هذا في مجال الحب الإلهي ، وطاعة المولى سبحانه. ولم نخرج عن حديثنا آنفاً حتى في البيتين السابقين
لكنْ ما قولكم في هذا القياس الشعري البديع أيضاً
رأيتها تضرب الناقوس قلت لها ..== من علـمَ البـدرَ ضـربـاً بـالـنـواقـيـس
وقلت للنفس أي الضرب ذو ألـَم ..== ضرب النواقيس أم ضرب النوى؟ قيسي