المنارة.
كان يقرأ موضوعاً في علم الدلالة يقارن بين الصورة واللّغة المنطوقة، .. ويناقش مساحة اللّغة في الدلالة، مقارنة بغيرها من العلامات ( الصورة، الإشارة .. مثلاً)، ..------------ النّهاية ---------------
وقف على آراء العلماء حول هذا الجدل . فكان منهم من يرى أنّ اللغة مثل باقي العلامات المفهمة، فهي في مصاف تلك العلامات من حيث الدلالة. وكان منهم من يعتقد أنّ اللّغة هي الأساس، وأنّ جميع العلامات بمثابة مجارٍ للغة تنصبّ إليها في آخر المطاف،.. مؤكّداً أنّ دلالة العلامات - غير اللّغويّة - دلالة ثانويّة، .. وأنّ بعض العلامات ربّما تكون بديلاً أوّليّاً للغة، .. بينما يكون بعض آخر - بديلاً ثانويّاً لها. وكان منهم من يؤكّد أهمية اللّغة وصدارتها لباقي العلامات، مع ذلك لا يعترف أنّ نعتبر باقي العلامات بديلاً ثانويّاً، .. فالمهندس يعتمد الصورة ( الخرائط) أكثر من اللّغة المنطوقة.
عاش مع هذا الجدل برهة من الزمن، ثم قام من جلسته ليستريح بعض الوقت، فقعد أمام التلفاز، .. كان القلب مشغولاً بالجدل السابق، مع ذلك كان يتنقّل بين حلقاتِ برنامجٍ يتحدّث عن المشاهير.. ، البرنامج كان ممتعاً يدمج بين اللّغة والصورة ..، في مشاهدته للبرنامج – لم يكن يدري أيّهما أمتع، آللغة المنطوقة أم الصورة المعروضة .؟..، غير أنّه كان يلاحظ أنّ اللّغة كانت تمهّد للفكرة أو المعنى، وكانت الصورة تكملها، وربّما يحصل العكس..
ثمّ- وهو في هذه الحالة- فجأة انتهى البرنامج.. لأنّ وقت الصلاة قد حان، عندها.. ظهرت في الشاشة مَّنارة جميلة، تحمل معاني كثيرة: في جمالها، في ارتفاعها، في صمودها وتوغلها في الهواء، عدم تأثرها بالرياح والعواصف العاتية..
ارتفع الآذان، وانطلقت كلمة التوحيد من المنارة.. عالية مدوية، فذهب به الخيال إلى أعماق التاريخ، إلى الرّسل، إلى الأمم السّابقة، إلى ما كان من تاريخ لكلمة التوحيد، فانغمس في ماضيها، ومنه إلى حاضرها..، كان فيها نجاة قوم وهلاك آخرين..، كان فيها سعادة قوم وشفاوة آخرين..، كانت حلقة الوصل بين السماء والأرض..، ارتفع بها أقوام وذل بها آخرون..، ذهبت الايام، والأعوام، والقرون، وبقيت كلمة التوحيد..،
كلّ هذه المعاني كانت تتقاطر في ذهنه وهو يشاهد المنارة.. فارتبطت هذه المعاني بالمنارة..، واجتمعت اللّغة والصورة في كيان واحد..، يصعب أنّ تجد له اسماً غير ( الحقيقة) ..، أصبحت اللّغة والصورة وجهي عملة واحدة، فكان له أن يتسائل: أكان الصوت أكثر دلالة أم الصورة التي جسّدت جبوروت كلمة التوحيد وصمودها أمام طغيان..،
في هذه اللّحظة انتقل به المقام إلى ما قرأ في الجدل السّابق، وقارن بين ما قرأه وما شاهده وسمعه، فانطبع في نفسه - بصورة عفويّة - معنى آخر يمكن أن يضاف إلى الجدل السّابق، ألا وهو اعتبار اللّغة إحدى صفحتى الدّلالة، واعتبار العلامات الأخرى الصفحة الثّانيّة لها، يعني: مهما استخدمت اللغة – فإنّك تحتاج تكملة لها من باقي العلامات (الصّورة .. مثلاً)، ومهما استخدامت العلامات - فإنّك تحتاج اللّغة تكملة لها.