فِي وَاحَةٍ وَارِفَةِ الظِّلِّ عَابِقَةِ الزَّهَرِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أَنْهَارُ خَيْرٍ عَمِيمٍ وَنَفْعٍ عَظِيمٍ ، نَمَتْ فَسَائِلُ حُبٍّ غَرَسَتْهَا يَدُ خَصْبٍ ، وَسَقَتْهَا لَيَالِ سَهَرٍ طُوَالٍ ، وَجُهْدٍ وَابْتِهَالٍ ، حَتَّى أَنْتَجَتِ البِذْرَةُ ، وَأَيْنَعَتِ الخُضْرَةُ ، وَعَبَقَتِ الزَّهْرَةُ. وَمَا إِنْ انْتَشَرَ عَبِيرُ هَذِهِ الوَاحَةِ الغَنَّاءَ وَامْتَدَّ ظِلُّهَا وَذَاعَ صِيتُها حَتَّى أَقْبَلَتِ عَلَيهَا بَلابِلُ مُغَرِّدَةٌ ، وَعَصَافِيرُ صَادِحَةٌ مُلَوَّنَةٌ ، وَفَرَاشَاتٌ فِي الجَمَالِ لاهِيَةٌ بِقُلُوبٍ صَافِيَةٍ ، وَنَحْلٌ يَعْشَقُ العَمَلَ وَيُنْتِجُ العَسَلَ. وَكَمَا هُوَ دَيْدَنُ العَيْشِ بَيْنَ البَشَرِ كَانَ الأَمْرُ فِي تِلْكَ الوَاحَةِ أَدْهَى وَأَمُّر ؛ إِذْ تَدَاعَتْ بَعْضُ دَبَابِيرَ فَاتَّخَذَتْ لَهَا فِي الوَاحَةِ مِنْ عُشِّهَا مُتَّكَاً قَدْ ضَمِنَتْ فِيهَ الخَيرَ وَالِّظلَّ ، وَأَمِنَتْ فِيهَا الغَدْرَ وَالغَوْلَ.

تَصْحُو الوَاحَةُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى تَغْرِيدِ البَلابِلِ وَزَقْرَقَةِ العَصَافِيرِ ، وَطَنِينِ نَحْلٍ رَائِحٍ وَغَادٍ يَعْمَلُ بِجِدٍّ فِي تَفَقًُّدِ كُلِّ زَهْرَةٍ مِنْ أَزْهَارِ الوَاحَةِ يَجْنِي الرَّحِيقَ ، وَيُعِينُ الرَّفِيقَ ، يُلَقِّحُ الطَّلْعَ أَمَلاً بِثَمَرٍ مُفِيدٍ ، تُشَارِكُهُ فِي بَعْضِ عَمَلِهِ فَرَاشَاتٌ تَتَنَقَّلُ بِخِفَّةٍ وَلُطْفٍ بَيْنَ الزُّهُورِ تَطْعَمُ مِنْ جَنَاهَا رَحِيقَاً ذَكِيَّاً ، وَتُلْهَمُ مِنْ بَهَاهَا لَوْنَهَا بَهِيَّاً. الكُلُّ سَعِيدٌ هَانِئٌ بِهَذَا الوَطَنِ الجَمِيلِ خَلا دَبَابِيرَ تَخِذَتْ مِنَ النَّرْجِسِيَّةِ مَنْهَجَاً ، وَبِالكَسَلِ مَخْرَجَاً ؛ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ رَبَّةَ الدَّلالِ وَالمَقَالِ ، وَتَسْتَكْثِرُ عَلَى غَيْرِهَا حَتَّى مُجَرَّدَ سُؤَالٍ. كُلَّمَا نَظَرَتْ مِنَ الجَانِبِ المُهْمَلِ مِنَ الوَاحَةِ إِلَى انْسِجَامِ الجَمْعِ كُلٍّ فِي عَمَلِهِ وَحَصَادِهِ يُنْجِزُ فِي صَمْتٍ وَيُشَارِكُ فِي حُسْنِ سَمْتٍ أَصَابَهَا مِنَ الغَيْظِ مَا أَصَابَهَا ، وَكُلَّمَا سَمِعَتْ أَهَازِيجَ التَّبَتُّلِ بِالجَمَالِ ، وَطنِينَ النَّحْلِ الدَؤُوبِ يَعْمَلُ مُثَابِرَاً أَوْرَثَ ذَلِكَ فِي صَدْرِهَا حِقْدَاً وَقَهْرَاً.

تَوَاطَأَتِ الدَّبَابِيرُ فِيمَا بَيْنَهَا أَنْ لا مَكَانَةَ لَكُمْ فِي هَذَا المَكَانِ ، وَلا صَوْتَ لَكُمْ وَلا بَيَانَ ، فَقَدْ تَفَرَّدَ أَصْحَابُ الهِمَّةِ بِالقِمَّةِ ، وَتَسَلَّحَتِ الأُمَّةُ هُنَا بِالذِّمَّةِ. حَالُكُمْ بَاتَ بَيْنَهُمْ مُزْدَرَى ، وَمَآلُكُمْ سَيَكُونُ بَيْنَ الثَّرَى ، وَلِكَي تَظْهَرُوا بَيْنَهُمْ فَتَظَاهَرُوا ، وَقَعُوا عَلَى أَشْبَاهِكُمْ فَاسْتَقْطِبُوهُمْ ، وَعَلَيكُمْ أَنْ تَلْفِتُوا إِلَيكُمُ الأَنْظَارَ وَتَتَصَيَّدُوا الاهْتَمَامَ بَأَيَّةِ وَسِيْلَةٍ كَانَتْ ، أَسَمَتْ فِي أَصْلِهَا أَمْ هَانَتْ.

انْطَلَقَتْ تَلْكَ الدَّبَابِير فِي سَمَاءِ الوَاحَةِ بَأَزِيزِهَا المُزْعِجُ تَهْتِفُ أَنْ إِنَّا لَعَلَى هُدَى وَفَهْمٍ مَكِينٍ. تَأْتِي إِلَى زَهْرَةٍ نَضِرَةٍ قَدْ عَبَقَ أَرِيجُهَا وَتَرَقْرَقَ رَحِيقُهَا فَتَلْسَعُ بِإِبَرِهَا جُمُوعَ النَّحْلِ العَامِلِ فِي دَعَةٍ وَصَمْتٍ فَتُهَيِّجَهَا وَهِيَ تَصْرُخُ بِهَا:
- كَيْفَ تَنْشَغِلُونَ بِهَذَا الأَمْرِ؟؟ أَلا تَرَونَ فَسَادَ هَذِهِ الزَّهْرَةِ فَلَوْنُهَا لَيْسَ بِصَافٍ ، وَرَائِحَتُهَا غَيْرُ مُحَبَّبَةٍ وَلا تَجْنُونَ مِنْهَا سِوَى التَّعَبِ وَالمَرَارَةِ. دَعُوكُمْ مِنْهَا إِنَّا لَكُمْ مِنَ النَّاصِحِينَ.
وَتَطِيرُ إِلَى حَيْثُ البَلابِلِ عَلَى أَفْنَانِهَا فَتَصِيحُ بِهَا مُسْتَنْكِرَةً:
- مَا هَذَا الضَّجِيجُ الذِي بِهِ تَصْدَحُونَ؟ وَبِجَمَالِهِ تَتَوَهَّمُونَ؟ أَلا تَرَونَ بَأَنَّكُمْ جَمِيعَاً مُتَخَلِّفُونَ ، وَبِقَولِكُمْ تُنَافِقُونَ؟؟ أَلا تَرَونَ أَنَّ هُنَاكَ تَحْتَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ البَعِيدَةِ فِي تِلْكَ الزَّاوِيَةِ الجَانِبِيَّةِ بَعْضُ أَزْهَارٍ قَدْ ذَبُلَتْ ، وَحَشَائِشَ قَدْ يَبِسَتْ؟؟ أَلَيْسَ فيِ هَذَا الإِهْمَالِ تَشْوِيهٌ لِكُلِّ هَذَا الجَمَالِ الذِي بِهِ تَتَغَنُّونَ ، وَدَلِيلُ دَحْضٍ لِدَعْوَاكُمْ بِالتَّمَيُّزِ فِي فَدَافِدِ المَشَاعِرِ؟؟ أَلَيسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ؟؟

تَأَلَّمَ سُكَانُ الوَاحَةِ مِنْ إِبَرِ الدَّبَابِيرَ وَمِنْ أَزِيزِهَا المُزْعِجِ ، وَأَدْرَكُوا أَنَّهَا بِمَا تَدَّعِي مُخَاتَلَةً إِنَّمَا تُرِيدُ أَنْ تَصْعَدَ عَلَى أَكْتَافِ جُهْدِ الجَمِيعِ فَتَبْدُو الأَهَمَّ بِلا هِمَّةٍ وَلا هَمٍّ. صَدَحَ بُلْبُلٌ غِرِّيدٍ:
- وَمَنْ يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ *** يَذُقْ مُرَّاً بِهِ المَاءَ الزُّلالا
وَهَمَسَتْ فَرَاشَةٌ رَقِيقَةٌ:
- لا مُقَامَ بَيْنَنَا لِمَنْ لا يَقُومُ بِعَهْدٍ وَلا يُقِيمُ عَلَى وُدٍّ.
وَقَالَتْ نَحْلَةٌ دَؤُوبٌ:
- غَرِيبٌ أَمْرُ هَذِهِ الدَّبَابِيرِ! كَيْفَ تَعِيبُ عَلَينَا العَمَلَ وَهِيَ مَنْ يَتَلَذَّذُ لَيْلَ نَهَارَ بِطَعْمِ العَسَلِ؟ وَكَيْفَ تَعِيبُ عَلَى وَاحَتِنَا تَلْكَ الزُّهُورَ الذَّابِلَةَ النَّائِيَةَ هُنَاكَ وَلا تَهْتَمُ بَأَنْ تَسْقِيَهَا وَتَصْلِحَ أَمْرَهَا؟؟ بَلْ لِمَ تَعْمَى أَبْصَارُهَا عَمَّا سِوَاهَا مِنْ جَمَالٍ أَزْهَى وَأَلَقٍ أَبْهَى وَخَيرٍ يَفِيضُ؟؟ إِنَّهَا لا رَيْبَ لا تَبْحَثُ إِلا عَنْ غَرَضِ ذَاتِهَا وَإِرْضَاءِ نَرْجِسِيَّتَهَا. تُرِيدُ العَسَلَ بِلا عَمَلٍ ، وَتَطْمَعُ فِي المَجْدِ بِالكَسَلِ ، وَتَبْحَثُ عَنِ السَّطْوَةِ وَالشُّهْرَةِ بِتَهْيِيجِ كُلَّ ذِي أَرَبٍ ، وَالإِسَاءَةِ إِلَى كُلِّ ذِي أَدَبٍ. أَمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ لَنَا إِبَرَاً كَمَا لَهُمْ تَلْسَعُ ، وَسُمَّاً أَمْنَعَ مِنْ سُمِّهِمْ وَأَنْقَعَ؟ لَكِنَّنَا لا نَسْتَخْدِمَهُ فِي الأَذَى كَمَا يَفْعَلُونَ بَلْ فِي الذَّوْدِ عَنِ الحِيَاضِ وَرِعَايَةِ الرِّيَاضِ.
أَرَى أَنْ لا نَطْرُدُهَا وَلا نُدَابِرُهَا ، وَلا نُعَامِلُهَا بِذَاتِ أُسْلُوبِهَا ، بَلْ دَعُونَا نَفرِضُ عَلَيهَا أُسْلُوبَنَا فَنُرْهِقُهَا بِالحِلْمِ وَنُغْرِقُهَا بِالعَسَلِ ؛ فَإِمَّا أَدْرَكَتْ قِيمَةَ العَمَلِ وَالفِطْنَةِ ، وَإِمَّا طَوَاهَا الكَسَلُ مِنْ بَيْنِنَا وَالبِطْنَةُ.