مجتزء من ( مدد يا طاهرة )
نهاية البطل
ونظرا للغياب الامني الملحوظ بعد الثورة ،،، و على الرغم من عمره الذى تجاوز السبعين بقليل و العجز الكلي بقدمه اليمنى ، روادات الاحلام عم (جابر النمر) عن نفسه و اخذه الحنين لأيام الشقاوة القديمة فقرر ان يعود بلطجيا ولكن (بفكر جديد) يشار اليه بالبنان مرة أخرى في منطقة السيدة زينب بعد رحلة اعتزال دامت قرابة العشرون عاما .
ليلتها وبعد ان اختمرت الفكرة في رأسه لم يستطع الانتظار للصباح انتفض من على سريره كمن لدغته حية و ذهب الى كشك عم (سمير) طالبا منه كشكول 60 ورقة و قلم جاف فرنساوي .
وجلس على الدكة الخشبية يكتب بخط رديء رداءة تفكيره اسماء المحلات الممتدة على طول الميدان الوسيع وامام اسم كل محل يكتب مبلغا من المال سيقوم بتحصيله شهريا من المالك وذلك بحسب النشاط و حجم التجارة
وكان نصيب الاسد لمحلات المفروشات و الملابس و الاجهزة الكهربائية التي يعج بها الميدان
وما ان انتهى من قائمته الطويلة حتى كان قد بدا الصباح و اتخذت المحلات زينتها فبدأ عم (جابر) في التحرك بمساعدة عكازه و عرض عليهم فكرة حماية محلاتهم و ممتلاكاتهم من السرقة و البلطجة مقابل مبلغ مالي يقوم هو شخصيا بتحصيله أول كل شهر .
بعضهم وافق كنوع من المساعدة لعم (جابر) ليس إلا ، وبعضهم توعدة بتحطيم رأسه لو فكر مجرد التفكير في البلطجة عليهم ، وبعضهم كان رقيقا فاكتفوا بطرده مع بعض ما تيسر من السباب و اللعان .
حسب عم جابر النمر في اخر اليوم اجمالي ما قام بتحصيله من اصحاب محلات الميدان المتعاطفين معه فوجد المبلغ يزيد عن الالف جنيه .
فتح دولاب ملابسه و ارتدى جلباب أبيض بلدي و طاقية بيضاء (شبيكة ) ،، بعدها قام بتلميع عكازه و حذائه ثم التحف عباءة بنية فخمة كان قد سرقها قديما من رجل يقال انه من اعيان الريف اثناء وضوءة بميضئة السيدة زينب
وجلس يحدث نفسه بصوت عالي :
الالفاية دي ... نصها ليا اسهر بيها سهرة حلوة من بتوع زمان مع اللي عايش من شلتي الفقرية
في السيدة عيشة
والنص التاني اديها ل(كرم الرمة) بتاع الموتسيكلات مقدم موتسيكل صيني بالتقسيط
وانا لا هاقسط و لا يحزنون ... هامضيله على كومبيالات و اريح امه
لكن من جوايا ربنا الاعلم اني مش هادفع غير الخمسمياية .
و بعد أن عزم النية على الذهاب الى دكان (كرم الرمة) بائع الدراجات البخارية ،، وبعد ان فتح باب حجرته تذكر( الاصيلة) التى رافقته طويلا ايام الكفاح .
فاغلق الباب سريعا و ذهب الي دولاب ملابسه مرة اخرى و ظل يبحث عنها بين الارفف حتى عثر عليها .
لم تكن ( الاصيلة) سوى قطعة سلاح (خرطوش) قديمة -محلية الصنع- قلبها سريعا بين يديه وفتحها فوجد طلقة قديمة مستقرة بخزنتها ... ابتسم متفائلا بالخير وهو يحدثها قائلا : طول عمرك أصيلة
وافق (كرم الرمة) على فكرة الخمسمائة جنيه كمقدم واخذ منه توقيع على 36 كمبيالة قيمة كل واحدة خمسون جنيها وطلب منه تأجيل استلام الدراجة البخارية ليوم او يومان لتركيب عجلات خلفية لكي لايقع بها لو فكر في الارتكاز – ولو بالخطأ- على قدمه اليمنى
غضب عم جابر من تلميحات و تصريحات (كرم الرمة) بعاهته و نهره بحدة قائلا :
إهدى على نفسك شوية ...
عجلات ورا مين يا راجل يا عجلة ؟؟
عليا الطلاق ...لأ ... عليا الحرام من ديني
انا اسندها بلساني .... شوف بلساني
قال عجلات قال !
واختتم كلامه بشخرة عميقه كان يشخرها كثيرا في ايام مجده و عنفوان شبابه .
رفع عم (جابر) ساقه اليمنى المشلولة بمساعدة يده اليمنى و مررها من على كرسي الدراجة من جهة اليمين و اتخذ موضع القيادة و مرر عكازه من تحت قدمه البسرى افقيا وجعله يرتكز على مصدات معدنية بالدراجة طالبا من السيدة زينب المدد بصوت عال :
- مدد يا ستنا المشيرة العظيمة الكريمة يا رئيسة الديوان ،، مدد يا طاهرة.
بعدها نظر الي الميدان و المحلات المضاءة و مسجد السيدة زينب نظرة الفارس الممتطي جواده وانطلق بدارجته كصاروخ أرعن في ظلام حالك متجها الي بعض ما تبقى من صحبته القديمة بمقابر السيدة عائشة .
سهر ليلتها معهم سهرة من ليالي الف ليلة و ليلة ... مرت حياته القديمة امام عينيه كشريط سينيما و تعالت ضحكاته وضحكاتهم ، و علت امواج حديث الذكريات الدائر بينهم وسط غبار الحشيش و سعالهم .
في طريق العودة من شارع جانبي لم تفارق الابتسامة وجهه النحيل الذي تشبه تجاعيده بردية فرعونية عتيقة ،،، وهو يقود دراجته البخارية بسرعة جنونية شطح خياله بعيدا ممنيا نفسه بحياة جديدة كلها اموال و عز و بلطجة و شقاوة .. تذكر فيلم (روبين هود) الذي شاهده قديما بسينما الشرق .
ليلتها حلم بان يصبح ( روبين هود ) السيدة زينب ، يسرق من الغني ليعطي الفقير ، وجد ان اسم (روبين هود) اسم ثقيل على الاذن و غير مستساغ فاختار لنفسه سريعا اسم ( حسين محمود) اعتقادا منه ان هذا الاسم هو الترجمة العربية لروبين هود.
تذكر اول عملية سطو مسلح قام بها باسم ( حسين محمود ) وما حدث ليلتها من احداث مزرية تركت اثارها على ساقه اليمنى ، رغم كل ذلك ضحك ضحكة هيسترية و هو يقول ما أحلى الرجوع إليها !!
لم يخرجه من نشوة احلامه وسعادته سوى الضوء المتقطع من سيارة لم يتبين معالمها قادمه في اتجاهه لا يفصل بينها و بينه سوى بضعة أمتار
اخذ عم جابر يمين الطريق محاولا تفاديها ولكن اختل توازن دراجته و لم تستطع قدمه اليمنى ان تنقذه و لا حتى لسانه الذي صرح سابقا ل(كرم الرمة) انه يستطيع ان يوقف به الدراجة ،،، فانقلب على جانبه الايمن و من فوقه الداراجة.
صرخ كثيرا : الحقوني الحقونييييييييي ولكن لا مجيب .
عندما اخترقت سخونة ماسورة العادم لحم ساقه تذكر قطعة السلاح الخرطوش ( الأصيلة) في جيبه الأيمن فأهداه تفكيره المتواضع ان يسحبها ويضرب طلقتها اليتيمة في الهواء عسى ان يتحرك نحوه مخلوق
أدخل يده بصعوبة بالغة في جيب جلبابه واثناء ذلك لا يعلم الا الله ما الذي حدث فقد خرجت الطلقة بالخطأ لتخترق خصيتيه و تستقر في فخذه الأيسر و تنهي ( الأصيلة ) حياة عم (جابر النمر) نهاية مأساوية .
الغريب ان ابناء شارعه ( شارع منجي ) اعتبروه شهيدا حتى انهم وضعوا لافتة معدنية كبيرة على الشارع بخلفية زرقاء مكتوبا عليها بخط أبيض منمق ( شارع الشهيد جابر النمر ) وقام صغار البلطجية بعمل لوحة كبيرة للعم ( جابر) تحمل صورته و من خلفها علم مصر مكتوبا اسفلها (يا بلادي يا بلادي ... أنا بحبك يا بلادي)
وتعاطف احدهم فقام بشراء مبرد مياه عمومي على قارعة الطريق مكتوبا عليه :
صدقة جارية على روح الشهيد البطل جابر النمر
نسألكم الفاتحة .
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة آمال المصري
