أين أنت من القناعة؟







إن مما يُسخط الناس على أنفسهم وعلى حياتهم، ويحرمهم لذة السعادة، أنهم قليلو الإحساس بما أسبغ الله تعالى عليهم من نعم غامرة، فتراهم ساخطين على ما في أيديهم، متغافلين عما وهبهم الله من نِعَم لا تُعد ولا تُحصَى، يهتفون دائما ينقصنا كذا وكذا، متطلعين إلى ما في أيدي الآخرين، يبكون حظهم وينعون أنفسهم وينوحون على دنياهم.

لكن المؤمن عميق الإحساس بما من الله عليه من نِعم، فهو يرى نِعم الله عليه في عافيته، يراها في ولده، يراها في مطعمه ومشربه، يراها في مسكنه، يراها في هدوء نفسه وسكينتها، يراها في هداية الله له للإسلام، يراها في كل شيء حوله، وهذا الإحساس بالنعم يمنحه شعورا بالرضا بما قسم الله له من رزق، وما قدر له من مواهب، وما وهب له من حظ، وهذا هو لب القناعة.

سعادة نفس وهدوء بال

ففي قناعة المرء بما وهبه الله تعالى سعادة النفس وهدوء البال والشعور بالأمن والسكينة، وبها يتحرر من عبودية المادة واسترقاق الحرص والطمع وعنائهما المرهق، فالقانع أسعد حياة وأرخى بالا وأكثر دعة واستقرارا من الحريص المتفاني في سبيل أطماعه وحرصه، وهو لا ينفك عن القلق والمتاعب والهموم، وفي هذا يقول الإمام ابن الجوزي: من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه.

فمن قنع بما أعطاه الله رضي بما قُسِم له، وإذا رضي شكر، ومن تقاله قـصر فـي الشكر، وربما جزع وتسخط، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قنعا تكن أشكر الناس" رواه البيهقي وحسنه الألباني.

وقاية من أمراض القلوب

وفي القناعة وقاية من كثير من أمراض القلوب التي تفتك بالقلب وتذهب بالحسنات كالحسد والغيبة والنميمة والكذب وغيرها من الخصال الذميمة؛ ذلك أن الحامل على الوقوع في كثير من تلك الأمراض غالبا ما يكون استجلاب دنيا أو دفع نقصها، فمن قنع برزقه لا يحتاج إلى ذلك الإثم، ولا يداخل قلبه حسد لإخوانه على ما أوتوا؛ لأنه رضي بما قسم له، وقد قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحسد أحدا على رزق الله، ولا تَلُمْ أحدا على ما لم يؤتك الله، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهة كاره، فإن الله تبارك وتعالى بقسطه وعلمه وحكمته جعل الروْح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط.

وقال بعض الحكماء: وجدت أطول الناس غما الحسود، وأهنأهم عيشا القنوع.

الغنى الحقيقي

فكم من غني طامع عنده من المال ما يكفيه وولده ولو عُمر ألف سنة، ولكن حرصه يدفعه للمخاطرة بدينه ووقته وجهده طلبا للمزيد، وكم من فقير قنوع يرى أنه أغنى الناس، وهو لا يجد قوت يومه؛ ذلك أن الغنى الحقيقي غنى النفس ورضاها بما قسمه الله لها من عطاء، وهذا مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس" رواه البخاري، وعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "أترى يا أبا ذر أن كثرة المال هي الغنى*؟* إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب، من كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا، ومن كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدنيا". رواه ابن حبان وصححه الألباني.

وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك.

ويقول الشاعر:

ما ذاق طعم الغنى من لا قنوع له ولن ترى قانعا ما عاش مفتقرا

عزة وكرامة

فالعز كل العز في القناعة، والذل والهوان في الحرص والطمع؛ ذلك أن القانع لا يحتاج إلى الناس فلا يزال عزيزا بينهم، والحريص قد يذل نفسه من أجل أن يحصل المزيد؛ ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس". رواه البيهقي وحسنه الألباني.

وقد كان محمد بن واسع رحمه الله تعالى يبل الخبز اليابس بالماء ويأكله ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد.

ويقول الشاعر:

أفادتني القناعة كل عــز وأي غنى أعز من القناعة

فصيرها لنفسك رأس مال وصيرها مع التقوى بضاعة

واجبة لأصحاب الدعوات

وإن كان كل مسلم مطالب بقناعة العيش، فإنها في حق الدعاة أوجب وألزم؛ ذلك لأن القناعة مصدر قوة لأصحاب المبادئ وحملة الرسالات الذين قد يتعرضون للاضطهاد والمصادرة والحرمان، فترى أحدهم يواصل مسيرته في تبليغ رسالته وهو صلب العود متين البنيان ثابت القدم، قد جعل شعاره ما قاله الشافعي رضي الله عنه:

وإذا مت لست أعدم قبرا
أنا إن عشت لست أُعدم قوتا

نفس حر ترى المذلة كفرا
همتي همة الملوك ونفسـي

فلماذا أخاف زيدا وعمروا
وإذا ما قنعت بالقوت عمري


كما أن القناعة تضع حائلا بين صاحب الرسالة وبين الانغماس في مطامع الدنيا والانشغال بتحصيل المزيد منها، فينطلق متخففا من قيودها ليحيي الإسلام في قلوب من حوله.






( وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ* وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ