مذكرات في حضرة شرقي
إهداء
إلى من كانوا ضائعين خلف أسوار الماضي..
فأبى القلب والوفاء لذكريات قليلة معهم إلا أن يجتثهم من هناك، ليزرعهم نرجسا في حاضري وغدي..
فكانت أميرة مدينتي الزجاجية وكان ماردها العظيم الآتي على ظهر موجة حياة..
وإليك طبعا أيها الشرقي القابع في كل تفصيل من تفاصيل حياتي.. في ثنايا روحي.. تعرجات كياني وبصمات فكري..
وأخيرا وليس اخرا اليك يا عابرا سبيلي...
(1)
في حضرة شرقي
لطالما تراشقت تلك الكلمات تليها الصور في مخيلتي مقتحمة علي خلوتي مع الصمت، فأراها ترسم واحة أقرب للفن منها للأدب...
وحين كنت أعشقها وأشعر بها تتداخل في ثنايا ذاتي، واعلن رغبتي في صقل ملامحها لتغدو التوأم الحي لكياني، حينها فقط ترغب بالهروب من بين يدي دون سابق انذار كما جاءت،
فأتسائل أما من احد علمها فن الاستئذان والانصراف حين كانت مجرد حروف والوان..
هكذا كانت حالتي مع الأدب سابقا، أقضي وقتي اعتذر بل واطيل الاعتذار لنفسي التي حسبت أن ما في الكون انعكاسا لها يتمم هويتها ووجودها..
الى أن اقتحمتُ يوما أرض حرمك من دون علمي، إذ وجدت نفسي فجأة بين بنات أفكارك، بين لوحاتك الخالدة في ذاكرة الانثى الكامنة خلف غروري، وإذ بي ومن دون عمد أسير الهوينا على أطراف أصابعي وكأني أخشى على هدوئك الذي احببت، أن يتساقط من حضن صمتك العميق، إثر وقع خطواتي بالقرب منه، أحسست بالزمان قد توقف، والمكان قد إنعدم، فقط تجلى إحساسي بتلك المعاني الأبدية، التي اكتتبت في كل مكان تخطو فوقه، وفي كل محيط تحتله بجاذبيتك، لتصف لي من خلالها بشرية ووطنا وعشقا، فتتشكل بها حياتك وترسم ملامح ايامك كما يليق بك ان تحيى..
يومها شعرت انك خلقت الاحساس والشعور مدادا بقلمي، لتعلمه الخشوع حين يكون جاثيا في محراب عبقريتك التي تجسدت في نظرة عينيك وهمسة كلماتك ايها الشرقي ..
فصمت قلمي حينها ولكن وما ان إنفرد بعيدا عنك، حتى أصبح يخلق من الحروف كلمات ابدية عبر اوراقي..
أردت طويلا أن أروي لك تلك الحكاية التي ارتوت بدموع الشوق ونمت بخفقات القلوب ورعشات الأيادي..
ولكن ثمة أمر كان يعيقني عن البدء دوما.. لعله الخوف او التوتر او ربما كان كبرياء يأبى علي ان أبوح بمكنونات ذاكرتي من قصص وتجارب ومغامرات..
ولكني اليوم أفقت ليلا فزعة بعد أن داهمني ذلك الكابوس المزعج كما في كل ليلة، لا أدري لم يصر على ملاحقتي، وكأنه يوحي إلي برسالة ما أو ربما بشؤم قد يتربع في حضرة حياتي وواقعي..
فأنت في منامي دائما خلف حدود نظري، وأبعد من أن أصل اليك، وصوتي قد أعدم في حنجرتي فأصبح أقصر من أن تسمعه..
أبحث عنك بإستمرار وتهرب مني باستمرار وكأنك إرتديت ملامحا زئبقية..
أصبح هذا الكابوس يلازمني كأنه ظلي كلما تمنيت أن تزورني في منامي، فتلبي أنت بدورك أمنيتي، ولكنك كمن يمن علي باجابة الدعوى فتكون الموجود المفقود، لدرجة أني بدأت أخشى حقا أن يتمرد ويتجبر فيتحرر هذا الحلم من نطاق ذاكرتي ويخلع ثوب الليل عنه، ليخلق نفسه قدرا في نهاري ويومي، فأصحو ذات صباح مكفهر، لأجدك قد رحلت لسبب أجهله..
تساءلت طويلا عن طريقة أحفظ من خلالها وجودك الدائم والأبدي بقربي، فما وجدت إلا فكرة إستوحيتها من مخيلة شهرزاد ومكرها، إذ قصت على شهريارها كل ليلة قصة لتحفظ رأسها بين كتفيها..
فارتأيت بدوري أن أكتب لك كل ليلة قصة جديدة أو ربما خاطرة جالت ببالي أو فلسفة حمقاء من رؤيتي وفهمي للحياة..
لعلي بذلك أخلد روحك عبر أحرفي وفي ذاكرة قرائي كما أنت دائما في ذاتي، فأكون أنا شهرزادك وأنت شهرياري الشرقي..
(2)
الأميرة ومارد البحر..
سأكتب لك اليوم عن قصة كانت مجرد بصمات حفرت في ذاكرة طفولتي لتشكل بعض صفحات حياتي التي تعج بالآمال والآلام..
صفحات سطرت بالحروف والكلمات المتناقضة.. حب وكره.. ليل ونهار.. دفء وبرد.. خوف وأمان.. تمرد وطاعة ..
فلطالما عشت بين أوتار أحلامي لا تفارقني لذة ذكريات الماضي إلا حينما أصحو على أنين غربة الحاضر، وخشية المستقبل..
ولكنني الآن اعتقد أنه آن الأوان لخلق ملامح واضحة لحكاية جميلة كنت شاهدة عليها بكل شغف، فليصمت اليوم قلمي الساخط الحزين، فكثيرا ما كان صريره أغنية البؤساء وكان مداده دمع ودم..
فها أنا اليوم استبدله بآخر يرسم الجمال ترانيم حب على شفاه العاشقين.. يملأ الكون همسات خافتة وتنهدات عذرية تبث السعادة في صدورهم.. ويلقي بالأمل براعم رقيقة من حولهم.. يفكر فيهم طويلا ..
يمضي في أعماق ذاتهم.. ويجسد لحظاتهم الخاصة.. غزل وضحكات وقبلات واحضان دافئة.. يقص على العالم أن للأنوثة في عيني أميرة هذه الحكاية بريق آخر.. لها لون مميز يشدك لجمالها من دون أي لمسة نفور أو تكلف..
كيف لا وهي أنوثة وردية كحلت سنين صباها بالطهر والنقاء.. وذاك الوجه كأنه بدر مضيء تحرسه خصلات شعرها المنسدلة فوق كتفيها.. ولعينيها نظرة تناجي نسيم الصبح بصمت وحنان فتخجل الطبيعة منها وتنطوي داخل مقلتيها لينعكس لون الربيع الاخضر المثير فيهما.. وأهدابا اتقنت فن الأنحناء بغنج ودلال بحضرة مارد البحر ..
التقيا أول مرة هناك بين أحضان الوطن المقدس كان يغازل إمرأه لا تعرف من الأنوثة إلا إسمها.. زرقاء العينين، شقراء الشعر.. باردة الملامح كشتاء قارس.. أحبت أن تحدثه عن الصبابة كيف تكون وارادت أن تلقن حبيبته درسا في الانوثة والدلال.. فراحت تختال بين سنابل الحياة، تراقص أنسام الربيع، تغازل اشعة الشمس مرة، وتعانق أهازيج بلادها بمخيلتها مرة اخرى.. لمح فتاها ذاتها تدنو من روحه تهز فيه العروبة والاباء، فإرتعش ثم تنهد، وأدار ظهره لفتاته المتجمدة، صَرَخَت وقالت له: أتهجرني لأجلها؟ أجابها: وكيف لا وهي كحيلة العينين، سوداء الشعر، شامخة القامة ككرمل بلادي، توشحت بدفء الأرض، سطرت بين أهداب مقلتيها الف ثورة، وفوق وجنتيها تربع الحياء، ومن أناملها المخملية جدلت حكايا كل العاشقين..
داعبت الطمأنينة كبريائها وأرضت غرورها، اذ أصبح أسيرها وهي جلاده المدلل، ابتسمت وقالت: ها قد أشعلت الحياة في أوصالك من جديد، فأنا وطنك وهي غربة وأسى..
ومن يومها أصبحت أميرة مملكته، بل صوت الحياة وإبتسامة السماء في حاضره ومستقبله..
أما أنا فقد رأيته أول مرة وأنا في العاشرة من العمر تقريبا، أو ربما كنت قد رأيته من قبل ولكن في تلك اللحظة أيقنت وجوده وأثره.. وآمنت به طفولتي ورضيت به ندا لها.. فهو من أتى من خلف البحار ليختطف أميرتي من حضن مدينتي الزجاجية، التي بنيتها طويلا لتبقى هي أمامي لا تفارقني فأتعلم منها كيف أغدو أنثى بحق، لقد كانت ملهمتي من بين النساء..
كنت يومها أزورهم في بيتهم الذي لا أذكر منه إلا بضع أشياء متناثرة في مخيلتي.. أجمعها أشلاء بيت لم أحفل به كثيرا، فقد كان هناك ما يخطف إنتباهي.. كانت هناك رائحة الزمن القديم..
زمن قيس وليلى وكل من اتخذ الصبابة والغرام نهجا له.. ولاحت لي هناك قصة أخرى من قصص ألف ليلة وليلة ما عرفها الآخرون، ولكني قرأتها في لهفة صوت أميرتي تدعوني لأطرح السلام على مدمر مدينتي الزجاجية..
رفضت بقوة، ووقفت بعيدا أرقبه، كانت له تضاريس خاصة وهيئة ووقار.. رأيت ارادة وعزما واصرارا ونظرات يستجيب لها هدير البحر وغضباته..
مع العلم اني ما رأيت وجهه جيدا حينها ولكنه انطباع يفرضه حضوره على الآخرين.. راودني سؤال عمن تراه منحه كل هذا.. أهي امواج البحر وزغاريد طيور النورس.. أم أنامل الشمس الحارقة وعواصف الليل الباردة..
أم هو الشوق الى ذلك الوطن النرجسي الذي ما رأى ولن يرى في تعرجات الكون سواه..
لم اجد الجواب حينها، ولكني ابتسمت في داخلي وأعلنت هزيمتي بين يدي مارد البحر..
طالت ايام السهر والسمر بينهما أيها الشرقي، وكانت لحظات اسطورية لا تنتسى بل هي من ذلك النوع من الذكريات التي تأبى الرحيل يوما مهما جاهدت نفسك لنسفها وقتلها في ذاكرتك، فليس للنسيان سبيلا اليها أبدا..
ولكن اتى يوم ورأيتها فيه هناك خلف الأفق تسير الهوينا، ضائعة لا تعرف لها دربا وكأن نبضات الحياة قد خفت صوتها في جنبات صدرها..
كانت تمشي تضرب الارض بقدميها تارة فتصفعها رياح القدر بدورها تارة اخرى وكأنها تقتص من كبرياء الانثى الذي لطالما توشحت به ملامحها..
ما لها الحياة تعدم الكبرياء بداخلها ثم تبحث عن أثره في كيانها، وما بالها تحاول سرقة شموخ اهدابها لتبقيها عارية من كل ميزاتها..
سحقا لأيام طوال هجرها فيها القمر، وأخرى غارت فيها الشمس على أشعتها من طهر وجنتيها، أنسي القمر دفء روحها ؟؟ أم نسيت الشمس كحل عينيها؟؟
كانت تسير وحدها لا تصحبها الا نظرات الخوف تشيعها الى ظلمة الألم، وكأنها تتركه يستبيح نفسها يدنسها ويمزقها ثم يعهد بها الى سرير الموت البارد، يقطعها بدوره اربا، لا يترك منها اثرا في ذاكرة الصبا أو الزمن..
يا له من شعور فظيع وقاس.. شعور كتم على صدري إنها اميرتي تسلب ابتسامتها وتعدم ملامح البراءة في عينيها أمام ناظري..
كان هذا حالها ونصيبها من الدنيا كلما غاب عنها مارد البحر في احدى سفراته الطويلة..
جلس يسامرها قبل سفره بيوم، يتنهد بعمق ويداعب عينيها بنظرة عربية حنونة وكأنه يترك بصماته على جدران روحها ثم قال: اذكريني ولا تنسني يا حلوتي، فنسياني جريمة لا تغتفر، فأنا جزء من الوطن محرم نكراني ونسياني..
نفس الكلمات ونفس المشهد يتكرر كل مرة، وهنا تفر دمعة حزينة من مقلتيها معلنة بذلك العتاب، فكيف بها تنسى سمرة الارض في بشرته وعمق الحب في ضمة ذراعيه وصوته الحنون يقص عليها قصائده الدافئه..
ما باله يغادرها كما أتى؟؟ كطيف خفيف، كشفق السماء، كعبير الورد، كنسيم البحر.. أجل هو مثل كل هؤلاء يأتون فجأة ويرحلون بسرعة..
تهاطلت دموعها بغزارة على وجنتيها حزنا وألما.. ولكنه لم يلتفت اليها، وولاها ظهره ومضى مسرعا الى مملكته، الى باخرته المبحرة نحو شروق الشمس..
كان يمضي وكله ايمان أنه ذات يوم ومن فوق تلك الباخرة سيخلق ثورة هناك بعيدا خلف الجبال العاتية..
وبعد أشهر عدة أيها الشرقي عاد ذلك المارد كما ذهب، أنبأت بعودته يمامة بيضاء وقفت على نافذة غرفة الأميرة، وبدأت بالنقر على زجاج النافذة مرات عدة، وبقوة متزايدة مع كل نقرة، الى أن تنبهت الأميرة لذلك، عندها طارت اليمامة بإتجاه البحر، أدرك قلب الاميرة الرسالة وفهم مضمونها، ها قد عاد اليها ماردها، عاد كالنسيم يخطف فكرها وروحها الى أحضانه، يقص عليها حكايا البحر وكيف جدل شرايينه بسنابل كل وطن حل عليه ضيفا..
ولكنه وفي كل مرة يتعلم نسيان تلك الأوطان جميعها عندما يحط رحاله فوق ثرى فلسطين..
هي أبدا ليست كباقي الأوطان بنظره.. فقد توضأ بأنسامها.. وسجد في محراب قدسها.. كما ومرغ وجهه بترابها الطاهر المعطر بقطرات المطر.. وتلفح طويلا بسمائها وغازل نجومها..
كيف لا يعشق كل ذلك، وكيف لا يتنكر لما سوى ذلك؟؟ ليس هذا كل شيء، فهناك شموخ الكرمل وكبرياء أشجارة وطهر أزهاره.. كيف لا يهيم بفلسطين عشقا وقد ارتوى حتى النخاع من ماء عيونها؟؟
هو مثلنا أيها الشرقي يعشقها بكل آهاتها وآلامها وآلائها.. يهوى التغني بحبيبته فوق اسوار عكا.. ويتقن طرح أحزانه في أعماق البحر في حيفا.. هو من زينته شمس يافا بسمرة مغرية من أناملها المتوهجة..
هو مثل كل شرقي فلسطيني يغسل همومه تحت أمطارها حتى يلوث سرواله وحذاءه بوحل أرضها.. هو ككل الأبطال نمت عظامه من زيت زيتونها، بعد أن قضى طفولته بين أحضان أشجار اللوز والمشمش والبرتقال..
وكم رجم أقرانه من الأطفال بحبات الخوخ اللذيذة بعد حرب طفولية بعصي إقتلعتها أيديهم من شجر الرمان.. لكل هذا وأكثر ينسى كل بقاع الأرض كلما كحل عينيه بجمال بلاده..
إبتسم وهو يذكر كل ذلك ونظر الى حبيبته المتقوقعة في حضنه، وكأنها تخشى غيابه مرة أخرى.. أحب أن يثير غيرة المرأة بداخلها، والتي هي احدى مميزات النساء في بلادنا أيضا..
فقال لها: وكيف لا أعشق وطني وأنا من حمل جرة إبنة الجيران السمراء، وأنا من رافقها طويلا عبر الحقول ودست وإياها الحشائش الفتية؟؟
أجابته بدلال ودهاء: أنا مدينة حتى لتلك السمراء فهي سبب من ألف سبب لعودتك إلي كل مرة.. غمرها بذراعيه بقوة لينسيها من نسي.. ضحكا.. ثم استطرد يعدد لها اسباب اخرى لعشقه لبلده،
فقال: انظري لتميز القطعة الخاصة ببلادنا من السماء.. ما أنصع بياضها تلك الغيوم، كثوب عذراء في العشرين هي..
طبعا بدورها كانت ترى كل مرة طهر إخلاصه وعظمة شعوره ذلك، كانت تراه في أهداب عينيه وتقلب نظره في السماء وغضب أنفاسه.. في حذر خطواته فوق الأرض، وكأنه يخشى أن يغير تضاريس بلاده بأقدامه فتغدو وطنا آخرا لا يعرفه عند عودته من سفره في المرة القادمة، أراده كما يعرفه، كما رآه أول مرة وكما حفظه في ذاكرته ومذكراته..
كم أعجب ايها الشرقي ممن بمقدورهم العيش بعيدا عنها وفي حضن غيرها..
وممن يكتبوا اشعارهم ويرسموا لوحاتهم تحت ستر ليل غير ليلها.. ما اشد حماقتهم كم أضاعوا على أنفسهم من جمال وفتنة..
والله اني أراني أقسم انهم ما شعروا وما لمسوا ذلك السحر الطاهر المنبعث من كل واد وجبل ومرج وبحر فيها..
ذلك لأنهم جبناء أنانيون، يخشون عشقها معتقدين أن ذلك يشفع لهم أمام الله تقصيرهم بحقها..
لا وألف لا.. سيسأل كل عربي وكل شرقي ومسلم عن عينيه قد أعميتا عن رؤية جراحها ودمائها، وعن أذنيه اللتين ما هزهما أنينها وهي تغتصب..
وعن يديه ما نبض بينهما حجر.. وعن قدميه هجرتاها وقد أصبحت خلفه ممزقة تعج بالجراح والآلام وتغرق بالدماء..
فها نحن نتذوق طعم الدم في كل رشفة ماء، ونتنشق رائحة المسك المنبعثة من أجساد الشهداء تطوف البلاد مع النسيم والريح والمطر.. نرى اشجار الزيتون قد اقتلعت من جذورها وأصبحت حطبا لنار لا برد ولا سلام فيها، أحرقت أحلام الصغار وذكريات الشباب ووعود الكبار وعهود الأحباء..
سيسألهم الله جميعا عن قلوبهم كيف كفت عن عشق فلسطين.. وعن أرواحهم ما فارقت اجسادهم في سبيلها..
أما انا ايها الشرقي فسأهيم بها عشقا حتى آخر رمق أقضيه شهيدة على أعتاب أقصاها الحزين المكلوم..
واما أولئك المتخاذلون فمباركة عليهم جميع الأوطان.. ليدخلوها آمنين وليعيشوا فيها بسلام، فأنا لن أبرح أرضي وبيتي ولن يطيب لي عيش إلا في حضن فلسطين الحبيبة..
( طبعا أدعوك أيها الشرقي لتتطرف بحبك للوطن مثلي، وتعلن له ولاءك الدموي الأبدي)..
تسللت الايام وتوالت السنين الى ذلك البيت المتواضع المتقد حبا وتضحية..
أتت بكل التناقضات، الجميل والمؤلم.. الاحلام والكوابيس.. اللقاء والفراق.. حمل وولادة.. سفر وغربة وشتاء قارس..
ومع كل ذلك كانت تتوالى الأيام وتمضي لتبقى منها الذكريات وحسب..
ولكن اقسى ما في الأمر هو فراقي لهم، والذي ما عرفت ان كان ثمة لقاء بعده.. ترك ذلك جرحا في روحي بقي ينزف وما التأم كما تفعل جراح الروح عادة نكاية بمعذبيها..
وطبعا زاد ذلك من رصيد كراهيتي للمحتل الصهيوني والذي حملته حتما مسؤولية بعدي عن اميرتي الجميلة.. ذنب من هو ان لم يكن ذنبهم؟؟
ولكن وكما كل فلسطيني فقد جبلت طينتي بقطرات أمل شددت بها ظهري عند الشدة والألم وعزيت نفسي بها عند المحن..
كما أن بعدي المفاجئ عنهم فتح امامي آفاقا جديدة لفهم البشر والتعمق بأساليب حياتهم وعلاقاتهم وكأني عشت لحينها في عالم اخر بعيدا عن هؤلاء..
فلطالما رأيت بأميرتي وماردها معنى الملائكية وليس البشرية.. وكأن الكون كان قد كف عن الدوران والحياة خارج نطاق الهالة البلورية التي احاطتهما، أو ان صح التعبير الهالة التي أحطتهما بها بأنامل طفولتي..
لله درهما كانا رمز الحب والتضحية والوطنية والامومة والرجولة، وكل تلك المعاني التي تترك طفلة بعمري فارغة فاها عند ذكرها..
بدأت مع الوقت أتساءل وأبحث عن أشخاص آخرين أعزي بهم عمري وأثبت لنفسي ما قالته اختي طويلا:"الي خلقهم خلق غيرهم"...
أعتقد أني بدأت أتعود على غيابهما أو اعزي نفسي بلقاء جديد كل سنة وهذا ما لم يحصل طوال سنين..
ثم بدأت أحلم بلقاء أميرتي في يوم زفافي اليك أيها الشرقي، ولكن كان لابد للمحتل من خذلاني كالعادة حين رفض منح جدتي وخالي وأميرتي تصريح عبور الى فلسطين المحتلة وذلك لأن حجتهم غير مقنعة فإن حضور زفاف احدى الأقارب ليس بحالة طارئة..
وهنا كان لابد من أن اعقل وأكف عن الحلم، فهذا مضيعة للوقت وإستنزاف للمشاعر والطاقات.. فما دام المحتل قابعا في حضن بلادنا فجريمة نكراء هي كل أحلامنا الساذجة والتي يلازمها نفس الطابع حتى لو بلغنا من العمر عتيا...
يتبع..