رأس الأفعىَ
فى كل صباح تطالعنا العديد من الصحف القومية وغير القومية برسائل يوجهها النقاد والمفكرين إلى الرئيس مبارك بهدف إصلاح البلاد ولفت نظره إلى أمور يتصور الكاتب أنه يجهلها .. يحدث ذلك من الكتاب والدعاة والمحللين وأصحاب الخبرة من ذوى المناصب القيادية السابقة بدءًا من الوزراء والمحافظين وحتى القيادات العسكرية أمثال الفريق سعد الدين الشاذلى وصولاً لنائب رئيس الجمهورية الأسبق حسين الشافعى ، وبين كل ذلك عظماء على أعلى درجات المسئولية والحس الوطنى أمثال الأستاذ مجدى حسين والدكتور محمد عباس والأستاذ عامر عبد المنعم والأستاذ طلعت رميح والمستشار طارق البشرى واللواء كمال حافظ والدكتور محمد السيد حبيب والأستاذين مصطفى بكرى ومحمود بكرى والأستاذ سيد نصار وآخرين يصعب تحديدهم على سبيل الحصر ... هؤلاء العظماء تهمشهم الدولة ولا تستفيد بمشورتهم أبدًا ولا يستمع إليهم الرئيس مبارك ولو على سبيل التكريم أو المجاملة ، ولكونهم يراقبون الأحداث من بعيد ويعيشون بعيدًا عن الضغوط التى تمارسها السلطة وتفرضها قوى البغى الخارجية والداخلية فكثيرًا ما تكون حلولهم ناجعة وتصوراتهم صائبة وأفكارهم عظيمة ، لكن المشكلة تكمن فى عدم الاهتمام بهذه الرسائل وتحليلها من قبل المسئولين .
وعلى الرغم من أن هذه الرسائل لا تخرج عن أمران لا ثالث لهما : إما التنبيه لفساد قائم وإما التحذير من بلاء قادم ـ إلا أن رسائلهم لا تلقى أى اهتمام من قِبل الرئيس مبارك ومعاونوه فتذهب نصائحهم أدراج الرياح وتبقى الحسرة فى نفوس الكتاب .. إنهم كالدواء الذى يُسكب على الأرض عمدًا ليُحرم منه المريض .. من أجل ذلك بقى الفساد فى مصر ونمى واستفحل وأصبح خارج السيطرة بعد أن أصبحت أذن المسئولين واحدة من طين والأخرى من عجين .
إن الكاتب الشريف والناصح الأمين يفعل ما يفعله المواطن العادى إذا ما تعرض لحادث سرقة حيث يتحرك بصورة عفوية إلى قسم الشرطة والتبليغ عما حدث له .. يفعل الكاتب نفس الشئ إذا ما تعرض الوطن للمخاطر والفتن حيث يتوجه المخلصون بمقالاتهم إلى الرئيس مباشرة .. النظرية فى كل الأحوال سليمة لكن الخلل فى التطبيق ، فقسم الشرطة لم يعد هو المكان الآمن للشرفاء وإنما للصوص ، ورئيس الجمهورية لم يعد هو المنوط بالإصلاح وإنما بالتدمير وتنفيذ سياسة الأعداء ، وعندما يصبح الضابط لصًا والرئيس عميلاً فكيف تنصلح الأمور ويستقيم الظِل والعود أعوج ؟!!
إن كل المظالم والمفاسد التى نشكو منها تمر أولاً من تحت يد الرئيس وتشكل عملاً ومنهاجًا وأسلوب حكم يأخذ تعليماته من العصابات الدولية وعلى رأسها أمريكا ..
من هنا أقول ان كل الرسائل التى ترسل إلى رئيس الجمهورية ما هى إلا مضيعة للوقت ورسائل خاطئة ضلت الطريق وتوسمت الخير فى غير أهله فأصبحنا بسطورنا الملتهبة نشكو العدو للعدو ، ونطلب الإصلاح من المفسد والرحمة من القاتل !!
الكـُتاب ـ على اختلاف فصائلهم يتصورون عند توجيه رسائلهم إلى الرئيس مبارك أنهم يلفتون نظره إلى أمور لا يعلمها ـ متصورين أن الفساد والخلل يحدث بعيدًا عن عين السلطة والواقع يخالف ذلك تمامًا لأن الرئيس مبارك يعلم ـ بحكم موقعه ـ أكثر مما يعلمه الآخرون ، وأن ما لديه من أسرار أعظم وأفدح مما لديهم ، والدليل حرصه الدائم على الإبقاء على رموز الفساد عند كل تعديل وزارى وكأن الوزارات الدنيا هى الممسحة التى يمسح بها النظام قاذوراته وأوساخه ويخدع بها الشعب كلما هم بتغيير ... أغلب وزارات السيادة ثابتة فى مواقعها منذ ما يقارب الربع قرن وكذلك رؤساء التحرير فى كل الصحف القومية ورجال الشرطة والقضاء والدفاع .
فى كل الرسائل يُـقال للرئيس : هل تعلم يا سيادة الرئيس أن وزير الزراعة فعل كذا وكذا ووزير الثقافة يفعل كذا وكذا وأن التعليم قد دمر وأن الصناعة قد انتهت وأن فلان يعمل لصالح أمريكا وفلان يعمل لصالح إسرائيل وأن الناس قد اختنقوا ومن لم يمت منهم مرضًا مات بطالة وأن الغلاء يطحن الجميع والمظالم فاقت كل تصور ... فيبتسم الرئيس ويقول بكل بساطة : أنا لست من هواة التغيير ... إنه التعبير المرادف لكلمة حماية الفساد وتدعيم أركانه ، وليقبى كلٌ فى مكانه ـ كررها مبارك عشرات المرات مثلما كررها عبد الناصر يوم حادث المنشية ، فأصبح اللص الصغير زعيمًا لعصابة كبيرة ، وأصبح العميل لوزير عميلاً لإسرائيل وأمريكا ، وأصبح الخائن لدائرته خائنـًا لوطنه وأمته ، وأصبح شعار السلطة هو نفس شعار القضاء ( يبقى الحال على ما هو عليه وعلى المتضرر اللجوء إلى القضاء ) ولكن أين القضاء وماذا لو كان فاسدًا مثل كل شئ فى البلاد ... لقد فضح شيخ القضاه المستشار يحيى الرفاعى القضاء المصرى ونشر ذلك فى صحيفة دعواه التى برر بها استقالته وتناقلتها وسائل الإعلام ، فإلى من يذهب الشرفاء وإلى من يتوجه الناصحون ؟!! ... هل نعاود الكـَرَة من جديد ونكتب لرئيس الجمهورية ونستغيث بالرمضاء من النار أم نطلب مساعدة أمريكا ؟!! ... وهل ستسعفنا أمريكا وهى تفخر بالنظام المصرى وتدعم نفوذه وتثبت أركانه وتعلن فى كل المناسبات أنه النموذج الذى تسعى أمريكا لتعميمه فى المنطقة ... لقد فعلت المؤسسة الحاكمة فى مصر ما عجزت عن فعله ترسانة الحرب الأمريكية فى العراق دون أن يلتفت إليها أحد أو يستعدى عليها العالم .
فليبقى كل فى مكانه ولا عزاء للكادحين ... تحولت الحكومة فى عهد مبارك إلى دار للمسنين ( رئيس الجمهورية 76 سنة ـ وزير العدل 82 سنة ـ عاطف عبيد 74 سنة ـ حسين كامل 72 سنة ـ صفوت الشريف 71 سنة ـ حمدى زقزوق 71 سنة ـ كمال الشاذلى 70 عامًا ) وجميعهم فى حالة مرضية يرثى لها ، وكلما خرج وزير من مرض حل محله وزيرًا آخر والعلاج على نفقة الدولة ... الرئيس مبارك نفسه سقط منذ بضع شهور مغشيًا عليه وهو يخطب فى مجلسي الشعب وصوت الأعضاء عليه وليس على قرار لفتحى سرور ، وتناقلت وكالات الأنباء الخبر فى كل أرجاء الدنيا .. ولا فائدة !!
وزير العدل طلب إعفائه من منصبه أكثر من مرة لظروفه الصحية التى أصبح فيها لا يستطيع تحريك شفتاه لمجرد الكلام ... ولا فائدة !!
عشرة من وزراء مصر مرضى بالقلب ومنهم من هو حالته خطيرة مثل أحمد ماهر الذى حل بالمستشفى مكان عاطف عبيد وقد انتهى عمرهم الافتراضى !!
ما ذنب الشعب فى أن يرعى بيتـًا للمسنين لا يصلح لعمل أى شئ ؟!!
ما ذنب الشعب فى أن يطالع وجوههم الكاحلة صباح ومساء .. وهذا فى حد ذاته يمثل عقاب ما بعده عقاب .....
تعِبنا من وجوه كئيبـــــه لم يعد فيها حنيــــــن
ومن فتاوى عجيبــــــــه لوعاظ السلاطيــــــن
تعِبنا من وجوه مُملـــــه نراها فى كل حيـــــن
وأعمال بغير أدلـــــــــه وميزان فى يده سكين
تعبنا من عقول أجيـــره تكتب الزيف المبيــن
ومن عجول حقيـــــــره تحنى للغرب الجبيـن
تعبنا من تنصيب كفــره لم يعد فيهم أميـــــــن
تعبنا من مدن الصفـــوه وثراء الملاعيـــــــن
ودموع الإهانــــــــــــه فى عيون المساكيـــن
تعبنا من علاج الأراذل على حساب الكادحين
ومن دمار المنـــــــازل وضلال المبدعيــــــن
تعبنا من كثرة الصــلاه على شهداء المسلمين
ومن كثرة الطغـــــــــاه وفساد الحاكميـــــــــن
تعِبنــا .. تعِبنــا .. تعِبنـا والعقيدة لن تليــــــــن
وسنشقى العمر ما دمنـا لأمريكا ساجديــــــــن
إن التدمير الحادث فى مصر أشد مما هو حادث فى العراق .. إنه تدمير الإنسان وليس البنيان وتدمير العقيدة والكيان .
سيكشف التاريخ يومًا عن حجم الجرائم الخطرة التى نفذها وساعد على تنفيذها النظام المصرى وانه دمار يفوق كل تخيل ، وسيكشف التاريخ أيضًا عن وهم كل من كتب للرئيس مبارك متوسمًا فيه الخير مع احترامى وتقديرى لكل من فعل ذلك وعلى رأسهم الدكتور محمد عباس ، وأتمنى لو يدخل كل قارئ على موقعه الإلكترونى ويطلع على رسائله الخطيرة التى أرسلها للرئيس مبارك .. تلك الرسائل الحُجة التى جمعت فاوعت وشخصت الداء وحددت الدواء ، وربما كانت من أعظم ما كتبه الدكتور محمد عباس ولكن .... ما الذى تغير فى مبارك ؟!! ... لا شئ !!
إن مبارك لا يسمع إلا ما تقوله أمريكا ، ولا يفهم إلا ما يقوله الأعداء ، ومازلت عند رأيى من أن التاريخ سيثبت عبثية كل من ذهب إلى قسم الشرطة فى مجتمع فاسد من أجل استرداد حقوقه ...
وسيكشف التاريخ أيضًا أن أسعد لحظات مبارك كانت تلك التى شاهد فيها الكُتاب وهم يصوبون سهام نقدهم لأتباعه ويرمون الوزراء بالخيانة ويستغيثون به منهم وينزهونه عن كل نقيصة كان سببًا فيها ...
يظل الحاكم فى مأمن إذا ما وجد النخبة فى وطنه تحاسب حاشيته ولا تحاسبه وتطالب بتنحية الوزراء ولا تطالب بتنحيته .. إن الوزراء مثل الثوب الشفاف الذى لا يمكنه ستر عورة النظام الفاشل إلى ما لا نهاية ، ولا يهم الحاكم أن يستبدل الثوب الأبيض بالثوب الأحمر لامتصاص غضبة الشعب ولا يهمه إلقاء الثوب الأحمر وتبديله بالثوب الأخضر إذا لزم الأمر كل ما يهمه أن يظل بعيدًا عن المساءلة وفى مأمن من العقاب أما تغيير الوزراء فهو أيسر عنده من تبديل الجوارب والأحذية - فالوزراء أدوات تضليل فى يد الحاكم يخدع بهم الشعب وقتما يشاء ويثبت عن طريق اقالتهم انه مع الشعب ومن الشعب ويعمل لصالح الشعب ...
كم سعدنا بتغيير النبوى إسماعيل وشيخ العرب وزكى بدر والألفى ... ولكن هل تغير شئ ؟!!
وفى هذه الأيام نهلل بتغيير يوسف والى ـ الوزير الأسطورة الذى غير قانون اللعبة السياسية ولم يسقط بأى ضربة قاضية واستمر فى موقعه حتى أتى كالجراد على كل ما فى البلاد ... فماذا ستكون النتيجة ؟!! ... لا شئ فليوسف والى ألف ترقيدة سوف تكمل مسيرة الفساد ولن يتغير إلا الأسماء طالما بقى مبارك رئيسًا للبلاد !!
الوزير لا يحدد سياسة دولة .. الدولة هى التى تحدد سياسة الوزير ، والوزير الفاشل فى الدول المتخلفة أطول عمرًا من الوزير الناشط ، ولا يوجد فى بلادنا وزيرًا قويًا ذو شخصية متميزة .. كلهم ضعفاء ووضعاء يقبلون الإهانة والإقالة ويسهل اقتيادهم وخلعهم وتحويلهم إلى كبش فداء يكون فداءً للنظام !!
لقد ترهلت البلاد كثيرًا وتحللت وأوشكت على الإنهيار وبلغت من الهوان مبلغـًا لم يحدث من قبل .. لقد فقدت مصر القيادة والقيمة والمكانة وأصبحت تتسول الاحترام ممن علمتهم مبادئ القراءة والكتابة ... يقول الأستاذ سيد نصار تحت عنوان تعالوا ننقذ مصر : ( مصر صاحبة المبادرات والدور المحورى وأخطر القرارات العربية والافريقية والأسيوية والمساهم الأكبر فى تحرير أفريقيا وأشقائها العرب فى المغرب العربى والخليج .. مصر المدافع القوى عن القومية العربية فى الجزائر والخليج .. مصر هذه أيها الساده أصبحت تتسول الإشتراك فى الؤتمرات التى يعقدها أقزام العرب ويتحكمون فى قراراتها ، وتقبل بالدور مهما كان حجمه حتى تراجع دورنا وأصبحنا ملطشة الصغار والكبار وطمع فينا الجميع ... وأصبحنا مهمشين دوليًا واكتفينا بدور الكومبارس فيما يعقد من مؤتمرات فوق أرض دول الجوار حتى أصبحنا نتوارى خجلاً من ضآلة دورنا ومحدوديته ) ... ويكتب يوسف القعيد مكملاً المأساة : ( إن كتاب الصحافة الإسرائيلية مندهشون من التحول المصرى وغير مصدقين له خاصة أن مصر تقدم طوق النجاة لشارون حتى وإن كان ذلك يعنى تجريد عرفات من سلطاته وفرض الإصلاحات عليه من خلال مصر وإن انسحب شارون من غزة دون أى اتفاق مع الفلسطينيين فإن مصر ستحل مكانه ، وثمة كلام إسرائيلى عن صفقة كبرى لبيع الغاز المصرى لإسرائيل وهناك صراخ فلسطينى بأن لديهم غازًا لماذا لا يدخل فى الصفقة وكلام عن توافق مصرى إسرائيلى حول الإفراج عن عزام مقابل اطلاق سراح مساجين مصريين لديهم وامكانية عودة السفير المصرى إلى تل أبيب والمقابل الإسرائيلى ستدفعه أمريكا التى ستؤجل الإصلاحات المطلوبة من مصر ... عن نفسى أنا مندهش من هرولة مصر حتى إن كان الإنجاز عربيًا عزيز المنال ودوليًا مستحيلاً وداخليًا صعبًا إلا أنه لا يمكن التضحية بكل شئ من أجل اللحظة الراهنة ) .
إنها المأساة ...
فى جريدة الراية القطرية يصرخ الأستاذ أنور صالح الخطيب قائلاً : ( إن مصر أكبر من هذا ) ويحاول أن يذكرنا بدور مصر .. مصر التى كانت والتى يجب أن تكون .
ويلخص الأستاذ مصطفى بكرى القضية كلها بقوله : ( المواطن المصرى فى الخارج يشعر بالهوان ، والمواطن المصرى فى الداخل يشعر بالانكسار ) ويقول : ( لا تقولوا لى وأين العرب ؟ .. بل يجب أن نسأل أولاً : أين مصر ؟ .. لماذا تقف هكذا صامتة ؟ .. لماذا تعجز حتى عن الشجب والإدانة ؟ .. هل أصبحنا بلا دور ؟ .. وإلى متى سيبقى هذا الهوان ؟! ) .
المظالم كثيرة .. والفساد كثير ، ولم يعد فى مصر شئ يباع وربما تظهر الأيام القادمة أن الأهرامات مرهونة والقناة مؤجرة والسد العالى يعمل تحت منظومة أمن صهيونية أو أمريكية .. لا شئ أصبح مستبعدًا غير الشرفاء ، وإذا طبقنا التعريف الصحيح للدولة على ما هو حادث فى مصر سنكتشف منذ الوهلة الأولى أن مقومات الدولة لم تعد موجودة وأن التماسك الحادث الآن فى المجتمع إنما يرجع لعمق القيم التى عاش عليها الشعب المصرى والرصيد الهائل الذى تركه الآباء والأجداد وعمق الإيمان الذى تركه الإسلام وطول الصبر الذى تركته التجارب ومعايشة المحن ، وكلها أرصدة قاربت على التآكل والنفاذ .
ليس بيننا وبين الرئيس مبارك أى نوع من أنواع الخلافات الشخصية أو القضايا المالية أو العائلية ، كما لا توجد بيننا وبينه أى نوع من أنواع الصراع على السلطة .. ما بيننا وبينه وطن تشوهت معالمه وتغيرت أهدافه وأصبح خاويًا على عرشه بفضل سياسات خاطئة المسئول الأول عنها هو الرئيس وليس الوزراء .
موقفنا من مبارك ليس موقفـًا انفعاليًا جاء نتيجة حكم متعجل أو قرار متسرع وإنما جاء بعد أن حكم مصر لمدة ثلاثة وعشرون عامًا ، وثبت لكل صاحب بصيرة وبالدليل القاطع ان مبارك كان أفشل من حكم البلاد فى تاريخها القديم والحديث ، وأنه بأقواله وأفعاله استطاع أن يزيح عن جدارة مكان الرئيس السادات الذى لم يبلغ أحدًا مبلغه فى الخيانة ليتربع على كرسى أسوأ حاكم عرفته البلاد .
إن الرئيس مبارك بوضعه الراهن صار كالورقة المحترقة التى أصبح التخلص منها مطلبًا إسلاميًا وعربيًا ومحليًا وحتى أمريكيًا .. وأقول أمريكيًا لأن الرئيس مبارك قد أعطى لأمريكا كل ما لديه ولم يعد لديه ما يعطيه أو يساومها عليه ، وأن قرون الاستشعار الأمريكية تعلم علم اليقين أن التزمر الشعبى فى مصر قد بلغ مبلغـًا خطيرًا يوشك أن ينفجر ، وأن الغضب المكتوم يستلزم تغيير القيادة بغرض امتصاص الغضب وتجديد الأمل الخادع وأن أمريكا لابد أن تعمل على فتح ثغرة أمنية فى جدار الأمن الرئاسى كتلك التى فتحتها حول السادات بعد انتهاء دوره فى عملية السلام مع إسرائيل ، وأن الظروف الراهنة تستدعى التحرك السريع للتخلص من هذا الرئيس المستهلك الذى ما عاد يصلح داخليًا أو خارجيًا .
يطالبنى بعض القراء بحسن اختيار الألفاظ ومراعاة أدب الحوار عند نقد الحكام ... لا يمكن أن يؤخذ على غريق يعبر عن محنته عدم التزامه بحسن اختيار الكلمات ، كما لا يمكن لمذبوح محاسبته على عدم مراعاة أدب الحوار فى وقت أصبحت فيه الأنفاس معدودة !!
تلك رفاهية لا تصلح إلا فى زمن الكرامة والعدل ونيل الحقوق .. أما فى زمن السفالة والخيانة والانحطاط فلابد أن تتحول الأقلام إلى سكاكين وأن يصبح مدادها ماء نار يكوى وجوه الخائنين .. لابد أن تتحول الكلمات إلى رصاصات وقذائف ولابد أن نصوب السهام على الهدف الحقيقى وهو الرئيس وأن نـُخرج كلماتنا بغير زيف أو رتوش وأن يخلو نقد الخونة من كل احترام وتقدير ..
لم يعد هناك ما نبكى عليه ولم يترك الحكام لنا ما يجبرنا على احترامهم ..
مبارك ليس إله ... أو مخلوق من جنس آخر ... إنه واحدًا ممن أعانوا الطغاة علينا ـ بل هو واحدًا من الطغاه ، وإذا نظرنا إلى المعتقلات والسجون المصرية سندرك حقيقة ذلك ، وإذا نظرنا إلى الإحصاءات التى أصدرتها وزارة العدل المصرية سنسحق حين نقرأ : إختفاء 40 ألف مواطن مصرى فى ظروف غامضة فى عام 2003 وحده !!
فى كل سجون العالم يوجد مصريون لا تبحث عنهم السلطات .. فى لبنان وحدها ستة آلاف مصرى أودعوا السجون للعمل بدون تراخيص بعد أن ضاقت عليهم الحياة فى مصـر !!
المصرى محاصر داخليًا وخارجيًا ومبارك المسئول الأول عن كل تلك المظالم ، ويخون نفسه من ينكر ذلك ويترك مبارك ويمسك بتلابيب عاطف عبيد او نظيف.. يجب أن نبحث عن رأس الأفعى وليس عن ذيلها .. يجب ألا نحوم حول الهدف ونفرغ شحنتنا فى وزير أو خفير .. مبارك هو المسئول الأول والأخير عن كل ما أصاب مصر ولا يمكن أن يمر شئ من خلف ظهره .. إنه المسئول عن تنفيذ السياسات التى وضعها الأعداء والتزم بها وكأنها دستور لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
إبراهيم نافع أحد أهم رموز النظام المصرى والمدافع العنيد عن سياسات مبارك نطق أخيرًا واعترف بحجم الفساد الواقع فى مصر وأعلن على صفحات الأهرام : ( إن ما تعيشه مصر من فساد لم يسبق له مثيل فى كل تاريخها الماضى ) ... لقد نطق المستحيل .. ونطق الشجر ( يوسف والى ) والحجر ( فاروق حسنى ) واللفظ يعطى اطلاقة كاملة للفساد على حد تعبير الأستاذ العظيم سيد نصار حيث قال : ( ما قاله إبراهيم نافع أشبه ما يكون بخطبة الوداع ـ إنه قد قال ما يستحق أن يقال قبل أن يذهب ، وإما أنه قالها بهدف سحب البساط من تحت أقدام المثقفين الذين يقولون مثل هذا وأكثر فى مجالسهم الخاصة لامتصاص غضبهم ، وإما أنه قالها لتيقنه أن العطب الذى أصاب سفينة الحكم لم يعد هناك أمل فى إصلاحه وأن السفينة بكاملها موشكة على الغرق مما يتوجب الهروب منها قبل الغرق ) .
الفساد فى مصر بلغ مبلغـًا لم تعرف له البلاد مثيلاً .. كل شئ أصبح فاسدًا حتى الماء والهواء .. حتى الأرض والتربة والنفوس الخربة !!
لقد بيعت مصر قطعة قطعة وحجرًا حجرًا ، وأخذ كل خائن ثمن صمته وخيانته .. أخذها فى صورة مكافأة نهاية الخدمة مبالغـًا فيها لكل من أقالته الدولة من قيادات القوات المسلحة والشرطة ، وفى صور عديدة أخرى منها توزيع الأراضى المتميزة على الصفوة من رجال الشرطة والقضاء والحربية بمبالغ رمزية لا تتعدى مئات الجنيهات لتباع فى اليوم التالى بملايين الجنيهات .. رشوة واضحة لكنها من حيث الشكل قانونية .
كل أعضاء مجالس الشعب والشورى والوزراء وكبار المسئولين لا يشعرون بمشاكل البطالة التى تعانى منها البلاد بعد أن تم تعيين كل أقاربهم وذويهم فى مواقع متميزة ، واختصرت البطالة فى مصر على أبناء الفقراء بغض النظر عما يحملوه من قدرات وامكانيات ومؤهلات علمية .
فى مصر الآن 6 ملايين عاطل عن العمل يشكلون أفضل كوادر الشباب القادر على العطاء بضمير وشرف .
كل يوم يطالع المقهور فى مصر إعلانات جديدة عن مدن الصفوه ، ولا أدرى من هم الصفوه هؤلاء .. وهل يوجد معنى آخر للصفوه ؟!!
الصفوه فى الدين هم صفوة الخلق وتقاة البشر وزهاد الحياة وعبدة الله ، وليسوا لصوص الدولة وناهبو المال العام وتجار المخدرات وأكلة لحوم البشر والراقصات والعاهرات والفجار والأشرار ...
لقد شكلت أمريكا شبكة رهيبة من أراذل القوم وأسافلهم وجعلت لهم منظومة فى النهب لها أسس وقوانين ، ويسرت لهم كل رذيلة ، وأبعدت عنهم كل فضيلة ، وعزلتهم عن ضمائرهم ، وعندما ازدادت الأموال فى أيديهم .. سمعنا عن السفه والعربدة والفجور وبناء مدن الصفوه والقصور تحت مسميات غريبة منها مدينة الـ 31 أسرة وما شابه ذلك ..
إنهم صفوة اللصوص وقطاع الأرزاق ومدمنو الرذائل والسيئات ، وآه يا مصر .. فكل ما فيكى تشوه ... التعليم والزراعة والصناعة والإعلام وكل المؤسسات السيادية والمجالس التشريعية وانتهاء بالقضاء .
بلد يباع على الملأ وأهله مكبلون بالطوارئ ولصوص يسرقون بالقانون ، فلقد تم التخطيط لكل شئ من قبل إحداث أى شئ .. وامتلأت السجون بالشرفاء بقدر ما امتلأت البطون بالحرام .
والمجتمع الظالم لابد أن يسقط وينهار ، وهنا تجنى أمريكا الثمار ، فالخائن يجنى والبائع يقبض .. وأمريكا الرابحة فى كل الأحوال حيث نجحت فى نخر أساس الوطن وهدت قواه وأضاعت جهده وفرشت الطريق لإسرائيل لتعربد كيف تشاء .
يا مصـر .. يا كنانة الله ... لست كارهك ، لكننى أكره لصوصك وأكره أن يلقى بخير شبابك فى سجون الظلم ومعتقلات النظام ..
أكره استكانة أهلك وهم قادرون على الإصلاح والتغيير ..
أكره الرضا بالفتات وقد حباك الله بالخير الوفير ..
أكره أن أرى مريضك يموت ولا يجد السرير ، وجاهلك يحكم وإن كان حقير ..
أكره صبرك على الضيم يا هبة النيل الكريم ..
أكره تقليم أظافرك وتحطيم أسنانك وتدمير أساسك وتركيع أناسك ..
أكره رجل الشرطة المأجور الطاغى الذى لا أجد أمامى غيره مندوبًا عن كل رجال الشر ..
أكره سيارته وعربته ورصاصته وهيئته ، فهو فى هذا العهد تجسيد لكل قوى الشر ، وهو راعى الفساد والإفساد ...
يا رب ... بلغ الفساد مبلغه ، ولك حكمة لا نعلمها وعلم لا ندركه ، فلا نسألك رد القضاء وإنما اللطف عند الإنهيار .
منقول
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة يراع