كيف أكتب الوطنَ في قصيدة؟
يا سيدي خذ عني هذا؛
لا وطــنَ يُرسم على ورق، ولا وطــنَ تطيقهُ الدفاتــــر
فخــذ ورقـــة شديدة البياض؛ و اكتب بحبر أحمــــر: آه
ثـــم كررها بقــــدر ما في عروقك من حبـــــر..
وحدَها آخرُ قطـــرة من دمـــك، ستحدد حجـــم الديوان.
وكيف أكتب أمــــي في قصيدة؟
هذا أهــــون عليك قليلا،
فاختر ليلــة شديدة البرودة، و تحرَّ أن تكون وحيدا، ثم تكــور على جوعك، و إياك أن تقرب الماء مهما راودك العطش..
و خــــذْ ورقـــة أو دفتـــرا ثم اكتب ما يلـــــي:
- واحدٌ، اثنان، ثلاثة…
اشهق كل الهواء حولك، و جَنَّـدْ كلَّ قواكَ، لتزفـــرَ ما بقيَ فيك من ضعـــفٍ..
تابـــعْ على هـــذا المنــوال، تسعةَ أشهرٍ أو سبعةً، لو كنت خديجا...
وحين تشارف على الانتهاء، ستحتفل ليلتك بالزمهرير، لكن عليك أن تتعرق!! فالعرق معيار محدد لجودة القصيدة.
هــان الأمرُ؛ فلا تكـــنْ عجولا..
لك أن تصرخَ كالمجنون، ولك أن تتمرغَ في التراب، علَّك تجدُ الاستعارة المقبولة، وحين تهتدي إليها، ضع سطرا مائلا مكسورا، يتبختر بالوجع عل طول الصفحة..
و ارسم قمحا و ملحا، و ارسم دربا من القلـــق مديدا..
واصرخ كثيـــرا، اصرخْ حتى ينبلـــــج النـــور من جبهتك
و أخيــــــرا، وَكِّـلْ من يطلقُ عنك زغرودة!
و هنيئا لديوانك المولـــــودة...
فاختر لها ما تشتهي من الأسماء، فهـــي على كل حال: شهيــــدة
و هل أستطيع أن أكتب حبيبتي في قصيدة؟
طبعا تقــدر؛
لــــو استطعتَ التمييــزَ بيـــن شَعْرِها و شِعْرك،
بين لهيب القــرب في وجنتيها، ولهيب بعدها في صدرك
تقدرُ؛ لو كان التحليق يستهويك، و تشردتْ عصافيرٌ في دمـك
تقدر؛ لو عرفت العلاقــــة بين الصباح و النور في عينيها
تقدر؛ لوعرفت ما الذي يجعل الفراشة فراشة؟!
قدرتها على التحليق، أم قابليتها للاحتراق؟
مهرجان اللون في جناحيها، أم عمرها القصير؟
تقــدر؛ لو استطعت أن تحل لغزا صغيرا:
لماذا يخفق القلب وحيدا، فترتجفُ يداك معا؟
لماذا ينزف القلب وحيدا، فتذرفُ عيناك معا؟
لماذا يصعق القلب وحيدا، فتخرُّ رجلاك معا؟
فكر مليا قبــل أن تجيب، و لو أجبـــت؛ فقبــل يديهــا، قبـــلَ أن تبصمَ بقلبك على قلـب القصيدة..
فمـــا القصيـــــــدة؟!
هي الحبيبة القريبة، أو القريبة مهما كانت بعيــدة
و هي الأم تحنـــــو على الوليد أو تزفـــه شهيــــدا
و هي الوطن السليبُ، و الوطن الربيعُ، و الوطن الغصة..
و هي الصرخة المدوية، و الصرخة المكتومة، والصرخة الدهشة،
و هي النـــدوب؛ أوسمةٌ على صدر السقطات.. ذاكـــرةُ العثرات،
وشماتُ الزمن على الجبين، تحزها الأيام رويـــدا
و هي الكلام لـــو حشرَجَ، لو تمنَّــــعَ، أو غـــرَّدَ تغريدا
و هي الحب لـــو لانَ، أو استقــــوى فاستعصى على التأويل
و هي وخز المعنـــى، لو أغرق في المجــاز
و هي الحقـــول خصبةً بالقمح كانت، أو ضنينة
و هي الروح تسعى بين الصدر و الحلق، في شبه نزع و غرغرة
و هي الشهقة من تعب، تتلوها زفــــرة، يتلوها الصداع و الحمى
و هي العيـــــــون؛ كل العيون...
عيون الجائعيـــن تذبـــل تحت وطأة العنــــاء
عيون الفلاحين تؤمن بالدمع على الدعـــاء
عيون الأرض تفَجَّـــرُ بالمــــاء المعين
عيون الغيـــم تنهمــــر بالخير العميم
عيون الأطفال، تتسع فرحةً بهدية العيــــد، أو دهشةً في لحظة التفجير
عينــا الأميــرة فيهمـا حلــــم الغــريب
عيون الأمهات تبْيَـــضُّ بالـــدموع
عيون الفـــراش، تجحظ لحظة تعانق اللهيب
عيون العابــــرين، تتفحص أشلاء الشهيـــــد
عينــا الغريب، تدهشان من سطوة الحقيقــــة
عينـــا الأميرة، تزدريان الأوهامَ في باب الحديقة..
و هي عيـــــن الحقيقة، لــــو بَرِئَــت من الكـــذب
و هي كل شــيء رابض فيكَ، أو هارب منكَ، أو ضائع عليكَ، أو آت إليكَ...
و هي كل الكلام تُعَمِّدُه الأنفاسُ، و تصدقهُ القلوب، إلا أن تكون كلاما مصنوعا، أو حرفا منضودا.
و هي الضلـــوع؛
تقوســـنَ على المخاوف و الأمنيات،
أو تَحَطَّمْنَ للحب حاضنات..
أو تفطَّـــرَ القلبُ تحتهن بالنبض المفزوع...
و هي ما قلتُ، و ما لم أقلْ، و ما لا ينبغي لي أن أقولَ...