إن الرعيل الأول من علمائنا القدماء ــ بداية بالقراء الأوائل ثم الخليل وسيبويه والكسائي و الفراء و غيرهم ــ قد أدركوا ما للأصوات اللغوية من أهمية بالغة . كما أن القرآن الكريم ـ من الناحية الصوتية الفونيتيكية ( phonetique) ـ وافق القوانين الصوتية العربية ولكنه تميز عنها بفرادته التي تشكل إعجازه الصوتي حيث امتاز بتناسق صوتي بديع مع أداء الدلالة و المعنى المطلوب .
لنتمعن في الآيات التالية :
قال تعالى : { ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير } الإسراء 11
وقال أيضا : {سندع الزبانية } العلق 18
وقال كذلك : { ويمح الله الباطل } الشورى 24
سنلاحظ بأن هذه الآيات ـ وهناك غيرها ـ حذفت منها لام الفعل الناقص " دعا " و " محا " دون مبرر تركيبي نحوي كالشرط مثلا في قولنا :" إن تَدْعُ الله يستجبْ لك "أو الجزم بالحرف في قولنا : " لم أَمْحُ ما كتبتُ " أو الجزم بالأمر كقولنا : " ادْعُ الناس إلى الخير " فما سر حذف حرف العلّة من تلك الأفعال رغم انعدام أي سبب نحوي ؟
إن التقاء الواو الساكنة باللام الساكنة في كلمتيْ : ( الإنسان = يدعُو لْإنسان ) و ( الله = و يمْحُو لْلهُ ) ، وتجاور الواو الساكنة مع الزاي الساكنة أيضاً في لفظ ( الزبانية = سندْعُو زْزَبانية) استدعى حذف هذه الواو حتى يتمّ الانسجام الصوتي ، و من ثمَّ حُذفت الواو رسماً أيضاً .
فلو أثبتت الواو في الآيات لكنا في علم الأصوات أمام مقطع طويل : ص ح ح ص ( صامت / حركة (=عُو)/ حركة / صامت ( = لْإِ ) ، حُو / لْ ـ عُو/ زْ، و هذا المقطع غير مقبول في النسيج المقطعي العربي الذي يتكون من ثلاثة مقاطع رئيسية :
ـ مقطع مفتوح : ص ح مثل : بَ .
ـ مقطع مغلق : ص ح ص مثل : لم .
مقطع مضاعف الإغلاق : ص ح ص ص مثل : عبد .
لكل هذا نجد القرآن الكريم يعمد إلى قصر الحركة الطويلة في الواو بحيث يصبح المقطع مغلقا متوسطا ( ص ح ص ) منسجما مع النظام المقطعي العربي . فكان لهذا القصر وظيفة جمالية جعلت الآيات تشكل انسجاماً صوتياً مع المواقف التي تتحدث عنها .