على هامش الحوار الصريح بعد التراويح
نادراً ما ترى قناة من القنوات الفضائية تعالج بعمق وصراحة القضية ( السنية ـ الشيعية ) كما تعالجها قناة ( المستقلة ) في برنامجها ( الحوار الصريح بعد التراويح ) الذي دخل عامه العاشر ، والذي يقدمه الدكتور محمد الهاشمي .
غير أن الحوار هذا العام تميز بكونه ذا مرجعية محددة للمتحاورين تمثّل في كتاب ( نهج البلاغة ) الذي جمعه الشريف الرضي من خطب وحكم الإمام علي رضي الله عنه ، وكانت مواضيع الحوار متنوعة شملت ( الإمامة ـ ردة الصحابة ـ قصة قتل عمر لفاطمة ـ الخُمس ـ الحسينيات ) .
إلا أن مسألة ( الإمامة ) هي التي تربعت على رأس الحوار ، وذلك شيء طبيعي إذا علمنا أن ما غيرها من الأحكام والأمور إنما تُبنى عليها وتكون تبعاً لها ، وهي مدار الخلاف ( السني ـ الشيعي ) في الأصل .
والمشكلة الكبيرة التي تواجه الفكر الشيعي بهذا الخصوص ـ أي الإمامة ـ إنما تكمن في أن الشيعة تجعل من موضوع الإمامة أصل من الأصول التي يُبنى عليها الدين ، فمن المعلوم أن أصول الدين عند السنة ( التوحيد ـ النبوة ـ المعاد ) وعند الشيعة ( التوحيد ـ النبوة ـ المعاد ـ العدل ـ الإمامة ) ، فهما يتفقان في الأصول الثلاثة الأولى ، أما العدل الذي يعني استحالة ظلم الله سبحانه وتعالى في جميع ما يفعل ويأمر وينهى ... فهو وإن كان أهل السنة لا يعتبرونه من الأصول لأنه مندرج تحت معنى التوحيد ، إلا أنهم مقرون به ، وهو ثابت في القرآن الكريم ، فلا إشكال فيه .
وتبقى الإمامة هي المعضلة الحقيقة التي تواجهها الشيعة ، والتي هي عندهم منصب إلهي يختاره الله تعالى بسابق علمه بعباده كما يختار الأنبياء ، وأنه سبحانه وتعالى لا يخلي الأرض من نبي أو وصي ظاهر مشهور أو غائب مستور ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوصى لعلي ، وعلي أوصى للحسن ، وهكذا إلى الإمام الثاني عشر . ومن مقتضياته الإيمان بعصمة الأئمة من الذنوب والأخطاء كعصمة الأنبياء .
والمعضلة تكمن في أن أصول الدين لا تكون ولا تثبت إلا بنص قطعي الثبوت وقطعي الدلالة ، فعندما نقول إن التوحيد أصل من أصول الدين لا بد أن يكون لدينا دليل قطعي في ثبوته ودلالته لا يحتمل التأويل ، كقوله تعالى ( الله لا اله إلا هو الحي القيوم ) البقرة / 255 . وكذلك النبوة ، كقوله تعالى ( محمد رسول الله ) الفتح / 26 . وكذلك المعاد ، كقوله تعالى ( يُؤمِنون بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) المائدة / 114 .
أما الإمامة فلا توجد آية في القرآن الكريم عليها ، وكل الآيات التي تستدل بها الشيعة فهي ليست قطعية الدلالة ، بل وليس بينها وبين الإمامة حسب المفهوم الشيعي صلة .
ومعنى كون النص قطعي الدلالة والذي يطالب به أهل السنة هو أن يذكر الإمامة مقروناً باسم علي رضي الله عنه في القرآن الكريم ، وهو مطلب علمي ومنهجي وموضوعي وشرعي ، إذ كيف نُثبت أصلاً للدين ويكون مداراً للإيمان ، ويُقسم الناس إلى مؤمنين في الجنة وكفار خالدين في النار ، دون وجود نص يقول إن علي هو الإمام صراحة ؟
والله تعالى لا يعجزه شيء من أن يذكر اسم علي صراحة ، فقد ذكر سبحانه في القرآن الكريم أسماء وأشياء هي دون الإمامة التي هي عند الشيعة ربما كانت أعلى من النبوة نفسها ، كالبعوض والنحل والنمل والبقرة والعنكبوت والتين والزيتون والرمان والزواج والطلاق والمحيض ، وأسماء بشر كمريم وزيد وأبي لهب ، لكنه لم يذكر ولا لمرة واحدة اسم علي ، فماذا يعني ذلك ؟
وحتى إذا أردنا إثبات الإمامة لعلي رضي الله عنه من الأحاديث ، لوجدنا أن الأحاديث كذلك لا تصرح بذلك ، فمن أقوى أدلة الشيعة التي يوردونها في إثبات الإمامة حديث الغدير ، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم قاصداً علياً :
( من كنت مولاه فعلي مولاه ) (1)
وهذا الحديث وان كان صحيحاً فإنه لا يثبت الإمامة ولا يصرح بها ، إذ أن كلمة الولي هنا معناها دلالتها ليست قطعية ، فهي تدل في لغة العرب على معان متعددة , قال ابن الأثير: هو الرَّبُّ والمَالكُ والسَّيِّد والمُنْعِم والمُعْتِقُ والنَّاصر والمُحِبّ والتَّابِع والجارُ وابنُ العَمّ والحَلِيفُ والعَقيد والصِّهْر والعبْد والمُعْتَقُ والمُنْعَم عَلَيه (2) .
كما أن هذا الحديث مقتطع من سياقه الذي به يتوضح المعنى ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في طريق رجعته من مكة إلى المدينة ، عندما تكلم مجموعة من الناس في علي عندما رجعوا من اليمن ، فقال النبي ذلك لينبه على فضل علي ومنزلته .
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر ذلك وهو في مكة في حجة الوداع في يوم عرفة ، وإنما ذكره في طريق رجوعه إلى المدينة في غدير خم في الجحفة وهي تبعد عن مكة مائتين وخمسين كيلو مترًا تقريباً ، دليل على أن المقصود من كلامه لم يكن لإعلان علي إماماً وخليفة من بعده ، وإلا قال ذلك في يوم الحج حتى يكون المسلمون على علم بذلك ، بل كان كلامه خاص بأهل المدينة لأن الذين تكلموا في علي كانوا من أهل المدينة .
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم وهو أفصح العرب ، ولو أراد الإمامة والخلافة لعلي لذكر ذلك صراحة دون أن يقول كلاماً يحتمل معان عدة ، كأن يقول : هذا علي خليفتي من بعدي , أو علي الإمام من بعدي .
والحديث الآخر الذي تستدل به الشيعة هو ما رواه البخاري في صحيحه عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى تَبُوكَ وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا فَقَالَ أَتُخَلِّفُنِي فِي الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ قَالَ أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي . (3) .
وسبب قول النبي ذلك لعلي أنه لم استخلفه على المدينة تكلم المنافقون بما يسيء لعلي ، وقالوا : ما تركه النبي إلا لثقله عليه . فعند ذلك أدرك علي الجيش وأراد الغزو معهم قائلاً : يا رسول الله أتخلفني في الصبيان والنساء ؟ فقال له رسول الله : ألا ترضى أن تكون بمنزلة هارون من موسى , غير أنه لا نبي بعدي .
والحقيقة أن هارون عليه السلام لم يخلف موسى عليه السلام في بني إسرائيل ، لأن هارون مات قبل موسى ، فكيف يخلفه ؟ وإنما خلف موسى يوشع بن نون .
ووجه الشبه في الحديث في استخلاف علي وهارون هو أن موسى عندما أراد الذهاب إلى الطور للقاء الله تعالى ترك هارون وراءه في أمور بني إسرائيل ، وعندما خرج النبي إلى تبوك ترك علي وراءه في أمور المدينة .
كما أن هارون لم يكن وصياً لموسى بل كان نبياً ووزيراً بنص القرآن ، ولذا فقياس حال علي على حال هارون قياس مع الفارق (4) .
وبالرجوع إلى ( نهج البلاغة ) الذي كان مرجعية الحوار الصريح ، تبين أن الإمام علي رضي الله عنه لم يقل ولم يدع لنفسه نصاً إلهياً في إمامته ، بل إنه يذكر ويؤكد أن الخلافة شورى بين المسلمين ، فإذا اتفق الناس على رجل فسموه إماماً كان ذلك رضا .
كما تبين أنه لم يقل بردة الصحابة ، بل إنه أثنى عليهم ومدحهم ، كما لم يقل أن عمر بن الخطاب اعتدى على فاطمة وأسقط جنينها وأدى ذلك إلى موتها فيما بعد ، كما هو منتشر في الوسط الشيعي ، كما تبين أنه لم يأخذ الخُمس في خلافته ، وأنه لم يبنِ الحسينيات وإنما كانوا يعرفون المساجد .
وخلاصة القول بأن :
أصول الدين لا تثبت إلا بنص قطعي الثبوت والدلالة .
والإمامة لا نص قطعي الثبوت والدلالة عليها .
فإذن الإمامة ليست أصلاً من أصول الدين ، ولا يبنى عليه إيمان وكفر ، ولا جنة ولا نار ..
ـــــــــــــــــ
(1) ينظر السلسلة الصحيحة ، الألباني ، ج4 ، ص330 .
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر ، ابن الأثير ، ج5 ، ص210 .
(3) صحيح البخاري كتاب المغازي ، باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة .
(4) ينظر تفاصيل شرح الحديثين في كتاب سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، علي محمد الصلابي ، ج2 ، ص325 ـ 365 .