قولٌ على قول
سأحاول في أسطر مختصرة أن أمرّ سريعاً على القراءة النقديّة لأديبتنا الفذّة الأستاذة نادية بوغرارة على قصّة ( اعتراض ) للأديب الأستاذ الفرحان بو عزّة ، لا مرور ناقد بل مرورُ من يودّ أن يسير والناقدَ لينهلَ منه .
يبدو للوهلة الأولى أنّ نقد الأستاذة يتبع المنهج التأثريّ الانطباعيّ ، لكنْ بقليلٍ من التأمّل فيه نجد أنه تناول النصّ بوعي نقديّ على مستوياتٍ عدّة .
- ( عنوان خاطف نجده في استقبالنا ، نحاول أن نلتقط منه سراجا ينير لنا تغلغلنا في ردهات القصة ، أهو بمعنى الاعتراض عن الشيء من " اعترض " أم اعتراض الشيء ، من " عرَض" أم معنى آخر من معاني الكلمة الكثيرة ؟؟ لا شيء في العنوان يوجهنا لهذا أو لذاك )
البدء بالوقوف على عتبة العنوان ، وطرح احتمالات لمعناه اللغويّ ، في محاولة للاستعانة به في الوصول إلى بنية دلاليّة ما في النصّ . وخيّل إليّ أنّ الأستاذة استسلمت بسرعة ، ولم تغص إلى الأعمق ، لكن تبيّن بعدُ أنها أجّلت استنطاق العنوان إلى آخر قراءتها النقديّة للنص في خطوة ذكيّة مترويّة ، حيث تقول : (و بعد كل هذا نعود إلى العنوان من جديد " اعتراض " لنجد - من وجهة نظر شخصية - أن النص لم يساعد كثيرا في تمييز المعنى الحقيقي والدال للعنوان، ومع ذلك يمكننا فهمه على أنه اعتراض البطل على غواية شيطانه لكن يميل القارئ إلى أن الكاتب كانت له خيارات أوسع لاختيار عنوان أنسب و أقرب ) .
ثمّ نتابع السير مع الأديبة الناقدة :
- تداخلت في القراءة النقديّة المستويات المختلفة للمقاربة النقديّة للقصّة القصيرة جداً ، ولا ضيرَ في ذلك ؛ إذ للناقد أن يُقدّم مستوىً ويؤخر آخر ، أو يُداخل بينها .. فالنقد عمليّة إبداعيّة أيضاً ، والأسلوب من ملامح الإبداع ..
- (بدأ القاص بنقاط متتالية كأنما يقتطف المشهد من مسرح الحياة الحافل ... ) هنا كانت الناقدة تنظر إلى النص على المستوى البصري ، النص على الورق ، لترى وظيفة علامات الترقيم في أداء الدلالة والمعنى ، لكنها لم تتناول من علامات الترقيم إلاّ النقاط ! على ما لعلامات الترقيم من قيمة دلالية في القصّة القصيرة جداً .
- (تهت / تسقط / فارغة / فئران / رذيلة ، كلها كلمات أدخلتنا في جو سوداوي ، وكأن البطل في محنة يتأمل حاله فلا يجد ما يسر، وينظر في أحوال الناس فلا يرى بصيص نور " حاولت أن أتملص منه ، كان يلازمني ، يسكن معي ، يشاركني في سريري .." من هذا الذي كان يحاول التخلص منه ،ويلتصق به التصاقا ؟؟ خياله ؟؟ ظله ؟؟ صورته ؟؟ رفيقه ؟؟ كل ذلك محتمل ، لكن الأكيد أنه غير مرغوب فيه ( ما أصعب أن نُجبر على قرب من لا نحبّ !! ) :
" تركته نائماً وخرجت خلسة ، لكن اللئيم كــان يقظاً ، يقراً بعينيه سقف البيت على مهل .. "
في محاولة يائسة بائسة للفرار من سيطرة الرفيق ، يكشف لنا الكاتب بعضا من أسرار القصة ،
ونشرع في مقت ذلك القرين ، اللئيم كما وصفه الكاتب ، لا ينام عن مراقبة صاحبه ،ولا يمل من مضايقته ، يقرأ سقف البيت على مهل مستهترا بقلق البطل . )
الناقدة هنا على المستوى الدلاليّ ، تستنطق الكلمات والعبارات لتخرجَ دلالتها النفسيّة والاجتماعيّة .
- ( أهو الشيطان ؟؟ أهو نفسه الأمارة بالسوء ؟؟ ) : تساؤلٌ استفهاميّ على المستوى الافتراضيّ في محاولة لمعرفة المقصود من الضمير المتصل ، والضمير المستتر .
- ( التفت بسرعة ، وجدته يتعقبني .. وفي غفلة منه ، انعرجت إلى درب ضيق ،لملمت ملابسي في فمي وجريت هارباً ، وهو يصيح من ورائي .. ـ انتظر .. أنسيت عشرتنا يا هذا ..؟ يستميت البطل في الهروب من غريمه ، ويجدّ في التخفي عنه ، و اللئيم مستمر في غيه ،لا يتعب ولا يرجع ، بل أكثر من ذلك يحاول أن يستفزه بذكر العشرة ) : عودة إلى المستوى الدلاليّ لاستنطاق الكلمات والعبارات .
- ( توقفت أستجمع قوتي .. فجأة ، نط أمامي غاضباً ومعاتباً.. حاولت الهرب . يبدو أنه مصر على الالتصاق بصاحبه ، غير آبه بإرادته و اختياره و ميوله . كنت أظن أن كلمة " نط " عامية ، واستغربت استخدامها في النص دون ما يشير لعاميتها ،لكنني حين عدت للقاموس وجدتها كلمة فصيحة لكن معانيها بعيدة قليلة عن المعنى المراد في النص ) : في المستوى الجماليّ هنا وقفة خجولة أمام كلمة نطّ ومعناها الموظّف في النصّ . ولعلّ الأستاذة الناقدة لم تبسط للنصّ في هذا المستوى ، فقدرت عليه وقفات جماليّة أخرى مُتاحة ، كما في قوله : وشاح الموت – قفزت كلّ ملابسي فوقَ ركبتي ..
- ( الناس يمرون ، يتوقفون ، يضحكون ، يتصايحون ، صرخت فيهم أين هو ؟ قالوا : من ..؟ قلت الشيطان .. قالوا : أنت ..؟ هذا هو مصير من باع نفسه لشيطانه ولهواه ، أضحوكة ومصدر إزعاج ،ركام قمامة ، ممسوخ الهوية و مهان الكرامة ) : تقف بنا الناقدة هنا في المستوى الرؤيويّ عندَ رؤيتها القيميّة والخلقيّة للحدث . وستقف بنا مرة أخرى في هذا المستوى حيث تقول قبيل نهاية القراءة : " نسأل الله العافية لكل مبتلى و لكل ضعيف أمام شهواته والمغريات .. هو ذلك الصراع الأبدي بين الخير والشر ، بين هوى النفس والخير الكامن فيها ، صراع كتبه الله تعالى على عباده ليميز الخبيث من الطيب، القوي من الضعيف "
- ( يصرخ البطل في الناس يسأل عن قرينه الذي اطمأن فاختفى ، لكن أثره باق باد على هيئة المحزون وحالته ،فكان أن تلبسه قرينه فأصبح هو نفسه شيطانا في نظر الناس ، حين قالوا :
" : أنت ..؟ وهي قفلة مميزة للنص ، توحي بأن الصراع الذي ظننا طوال القصة أنه بين طرفين ،ما كان إلا صراعا داخليا تنقسم فيه ذات البطل إلى طرفي نقيض ، باعث مقاوم و باعث يغري بالرذيلة ) : وقفة أخرى في المستوى الجماليّ عندَ ركنٍ مهم – وربما الأهمّ – من أركان القصّة القصيرة جداً وهي القفلة أو الومضة ، وتعود مرة أخرى إلى هذا المستوى في قولها : " قصة قصيرة في حيزها الزمني ، لكنها مستمرة في الحياة تتكرر كل يوم " .
- ( الأديب الفرحان بوعزة ، أرجو أن تتقبل قراءتي لنص رأيت فيه " سارتر" في حلة مغربية خاصة .. ) : المستوى الأخير الذي تنتقل إليه الأستاذة الناقدة هو المستوى التصنيفيّ ، حيث رأت أن النصّ يُمكن أن يوضع في تيار فني أو فكريّ معيّن .
أديبة : شاعرة و قاصّة وناقدة ، تحمل حساً شفيفاً ، وهمّاً أخلاقياً ثقيلاً ، وثقافة متنوّعة ثرّة وتملك قلماً غنيّاً كريماً ، تلك هي أختنا الفاضلة الأستاذة نادية بوغرارة ، حفظها الله تعالى .