ينعكس ضوء القمر على صفحة هذا البحر الهادئ الصامت والنجوم من حوله كعقد لؤلؤ انفرط فتناثر متلألأ ليزيد من رونق السماء وبهاءها
في هدأة الليل وسكونه وبينا نحن في القارب إذ نسمع نغمة الموج الحالمة الذي طالما أحبها وأرخى سمعه لها إذا ضاقت عليه الأرض بما رحبت
في ذاك المكان الموعود كان اللقاء..
بقي يحرك المجداف ليدفع القارب بين دفعات المياه المتلاطمة في تلك النظرة الشاردة التي تحكي خفايا النفس أحسست بكل ذرة في داخله00كيف لا؟!وقد أتقنت اللعب بخلق شخصيته الفذة ليمثل الدور بدلا عني في أرض الخيال ,نطلق العنان معا لنعبر محطات الزمان وعلى حصان الشوق نرحل ,لايمكن انتزاعه مني فقد التصقنا كتوأمين ولدا ليخرجا للحياة معا
أدرت رأسي وهو على حالته تلك فقلت بجدية:أما زلت تفكر بجنون؟!
لم يلتفت إلي حتى بل اكتفى بابتسامة جانبية وبنبرة ساخرة:
فليذهبوا للجحيم سألتهم ماتبقى من أعضائهم قبل تحولها للرماد
تبسمتُ وقد ارتفع الحاجبان بعد ماأصابني شئ من الذهول:
ياإلهي!!أو عشقت مص الدماء وأكل البشرية؟؟!!!
ناولني المجداف وهو يلهو بالماء ويهز قدمه وكأنما شعر بالتوتر والانزعاج قليلا: وهل ترغب بتجربتها؟
انفردت على شفتي ابتسامة رغم الملامح الصارمة التي ثبت عليها أثناء حديثي معه:
يالك من عنيد ,تعقَّل , ذاك لن يجديك شيئا
التفتَ إلي وحدق في وجهي بحدة ليراوغ:
أرغب في الرقص على عزف الرصاص .
أبعدت وجهي عنه لأتأمل ضوء القمر وخرجت كلماتي صادقة من قلب محب:
هذه نشوة الانتقام جعلت منك رجلا ثملا لايفكر بالعواقب ,صدقني سيجعلك أسيرا للماضي ,لست صادقا مع نفسك أنت تتجاهل حقيقة مشاعرك ..
لم تتصرف ببرود ناحية من يحبك وكأن الأمر لايعنيك؟!
هل حقا أنك نادم؟
عواطفك الدفينة من الصعب التخلص منها فقد توغلت بداخلك ,فلم تنكرها وتزعم أنك ...
قاطعني بنبرته الحزينة مطأطأ الرأس بأسى :
أعلم أني قسوت عليه ,أحبابي يموتون أمام ناظري ولاأستطيع سوى مراقبة مايحدث , أوتريدني بعدها أن أرتبط مجددا بأصدقاء ليمسوا بنفس المصير حتى يزيد ألمي
غاصت عيني في أعماقه لأنطق بثقة:
أهذا ماتعتقده؟!
إذًا أنت لم تفهم السر الكامن في أغوارك
عقد جبينه متعجبا :
سر؟!!! وأي سر تقصد؟
ابتسمت ونظرت إليه بحنان وشفقة:
سر روحك النقية التي دنستها بأوحال قذرة وأرغمت قلبك أن يزرع بذور الانتقام0
توسعت عيناه من فرط الدهشة وقد صعق مما سمعه ,جلف وتصلب عن الحركة للحظات وهو مشدوق الفم:
كيف ؟! أنت تعلم كل شئ؟! تبا ,أتراك ساحر؟!
ضحكت في سري لأتمتم له وأنا مغمض العينين وأحرك سبابتي نافيا بتحاذق:
كلا , يكفيني النظر إلى عينيك أراها نافذة لأستشف منها آلامك وآمالك ,هي باب أعبر به الجسر حتى أصل لقلبك ,لقد سبرت كل حركة وسكنة تقوم بها فزكنتُ ذلك0
تنهد تنهيدة عميقة وطويلة تكفي لمدة سنة كاملة ,وقد انتكس رأسه ليحجب شعره البني القاتم وجهه المشرق المزهر ليقول بيأس:
لاتظن سوءا , فقط أريد تحقيق العدالة بنفسي ,لن يقتصوا من القاتل لطالما خبأت غضبي تحت ابتسامتي وتصنعت الجذل لأخفي حزني لكنه بلغ مني كل مبلغ لتلمحه العيون0أ
مسكته من ذقنه ورفعت رأسه لتتلاقى العيون في جلسة مصارحة قائلا بنبرة قوية لتهز دوافعه وقلبه المتجمد من تراكم المآسي التي ربضت في ملكوت عرشه الداخلي حتى أصبح من الصعب رفع أنخابها عنه:
" جوزيف " شتان بين العدالة والانتقام لتقتص وإن أجمعوا على قتل المجرم ألا تتحلى بتلك السمة العلوية ,إنها العفو, فالشر ليس متعمقا في النفس الإنسانية وإن بلغت عنفوانها فيه قتلتَ بالخطأ ,وخدعك عدوك اللدود أليست هذه جريمة بذاتها لاتغتفر ,أم تريد انتهاك القوانين خلف مسمى العدالة فتقتل مزيدا من الأرواح ( ككلمة حق أردت بها باطل )
صمت بوجهه الشاحب ليقترب مني متسائلا:
إذا هل يمكنني نزع جذور الشر من أصلها؟!
ابتسمت وكلي أمل:
بالطبع ,حتى لو كان مجرما ثمة شئ جعله يزيغ عن الطريق السوي ليخالف العدالة ويقف ضدهاولكن انظر إلى الجانب الآخر0
نزلنا من القارب لنمشي بمحاذاة الساحل وهو يقول موجها نظره للأعلى:
فهمت تماما بروحه , بنبله , بشيمه ومسامحته للآخرين هذا هو الإنسان يستطيع أن يجعل من المجرم امرءا صالحا إيجابيا ماعليه إلا أن يمسك يده برفق ليخرجه من الوادي السحيق .
توقفت فاحتضنته بدفء وتعلو وجهي فرحة أضاءت لها الدنيا وصفقت لها النجوم:كما عهدتك ذكي فقد فطنت ماأرمي إليه .
نظرت إلى عينيه كادت تجرفني في لجج بحره , سيل من الدموع مالت على وجنتيه الناعمتين لتطير مع النسيم علها تجد ضالتها ,تسمو نفسه معها ويبصر الحقيقة , أهدته السحب قطرات مطر ندية جاعلة من روحه طيرا مرفرفا يعانق الجوزاء .
ابتعدتُ عنه فتشبث بي والبكاء يغالب صوته المكتوم:
سأستعيد صديقي الأول وسأبقى كما كنت مضحيا لأجلكم0دنوت منه لأهمس له مازحا وقد غمزته:
وهل تريد قطع علاقتك بي أيضا؟!
نظر إلي بجنون وآثار الدمع على مقلتيه:
وهل أصابني المس لأفعل ذلك مرة أخرى؟! أنا أثق بك ,
ثم شد على قبضتي قائلا:
علاقتنا كالحبل المتين عندما أعاني تخفف لوعتي , فقدعانيت ُكثيرا بعد فقدهم
.
.
إنه الخلو مع النفس ,وحكايات الخيال ,شخصيات أسطورية نسجتها وعجنت أحاسيسها لنشاهد أحياءا كونت مشاعرهم الدفء في اللحم البشري , لنبث همومنا معهم عندما نعاني , فنتجه سويا نحو الهدى والنور لغد مجهول إلا أنه ممتع فعلا .
لايضوعنَّكم ماترونه هنا , ففي الليل يصيبني شئ من الهوس والجنون
تصبحون على خير أحبتي