تتقلبُ في سريرها ، تُمازح بوجلٍ وحدتها ، جلستْ تتأملُ ما يحيطها حيثُ لا أحد يُشاركها الفراش ، والليلُ منذ نيف من السنين يلف عباءته حولها ...
تسلقتْ جدار عواطفهِ وتسللتْ إلى قلبه خلسة لتندسَ تحتَ أنفاسه وتهِبهُ بعضَ ما كان ينشده ، هامَ بها وهامتْ به...
يدعكُ بها غربَتهُ حين يُخيمُ السكون أرجاءه فلا يجري في سكونه غيرُ أنفاسهِ تُسابقُ بعضها ، تَجولُ ثم تهدأ تُسلمُ عصا بريد صدره لخيول فكره تدور ويعتلي سروجها حديثه مع نفسه ، يقطعُ الليل جيئة وذهابا حتى تكلَ شفتاه عن لثم سيجارته ويخفت ضياؤها فيعفر ظاهر كفه ببقيتها ...
هي ضالتهُ التي ينشدُها لتساهم في تغير يومٍ لا يختلفُ عن أمسه ، هي من تملكُ إكسيرَ الفرح ، وتَحمِلُ بين أنفاسها عَبقَ الملائكة ، تَمسحُ عن جبينه تعبَ السنين ؛هكذا يُخيلُ إليه أن امرأة في الكون يمكن أن تحمل هذه الصفات.
كانَ كتوماً لا يُطلع أحداً ولا يستشيرُ فيما يُريدُ فعله ، يُعاملُ الأشياءَ بظواهرها ...
نمتْ شجرةُ الحبِ في قلبه ، فكانت إليه من نفسهِ أحبُ وأدنى ..
كان حُبها منظاره لما يرى ولسانه لما يقول، وهبها دفء المشاعر وإخلاصَ القلبِ ، فاستقرتْ في خلدهِ وتمددتْ على طول خارطته ، منحها مفاتح مملكته فتسورتْ من خلفهِ جدارَ الثقة ، عبثتْ في الجوار ثم عادتْ إليه بزهريتها تملؤها وردا ذبلَ بعضه فالورد تخنقه العتمة ، استمر معها لا يخلع مودته عنها ، يغطيها بمزيد من الثقة مع تقادم الأيام ، لم يعريها فتنكشف له وينكشف ما تخبئ تحت أنفاسها ؛ بقية من نصالٍ غادرة طَعنت بها غيره وطُعنت بها ، وزفرة من حقدٍ والقليلُ جداً من الوفاء ...
تُفارقه وتعودُ إليه وصورتها القبيحة يؤطرها برواز ذهبي نقشتْ عليه بعض سورٍ من القران الكريم فلا شيء كتزييف الأشياء تتقنه وتبرع فيه...
يحاولُ كبحَ جماحه ويلم شتاته ليروغَ بعيداً عن مرمى خطاها ، ثم يعود فيغزل لنفسه منها حبيبة عشقها أزلي ...
يراوده حلم يقض مضجعه سلب النوم من عينيه ، يبينُ له حقيقتها فتغريه ببعض الأوراق الملونة المتهرئة تفوح منها بعض الروائح الغريبة ليس سوى أضغاث أحلام ما ترى وما ترى إلا ما أرى...
جمال الأوراق وجهله بكنهها حال دون فضح تلك الروائح المتعفنة ...
ماهرةٌ في إخفاءِ زيفها فجلبابُها المعتقِ سواداً له وجهان ظاهره سَوادُ الحياء ، وباطنهُ سواد الوجه ...
تُعطرُ لقاؤها معه ببعض الأحاديث الشريفة ؛ يستقرُ حاله معها فما أن يختفي مفعول واحدةٍ زرقتهُ بجرعة أخرى ، ماهرةٌ في أكل الكتف بأكملها ، لكنها ما فتئت تنفلتُ من بين أنيابها بعضُ ومضات الشر كالشرر ..
وليته فعل واستنقذ نفسه منها بعد أن اكتشفتَ أن في جوفها أفعى تمتصُ كيانهُ وتُحيلهُ إلى مسخ ...
ظلَ يُمني نفسهُ بإصلاح حالها معتقداً أن أفعاها ستسيبُ مع الأيام ، لكن حدسهُ لم يكن صادقاً ؛ لدغته في وضحِ النهار فأسرع بنصفِ قوتهِ وأمسك بمعولٍ استورثهُ من أبيه يُهشمُ صورتها والإطار ، وهي تصرخ في وجهه آيات القران لا تمزقها ...!
يدركُ ذيلها يصيبهُ ، ينبُشها يحث الخطى صوب راسها ،ولقد أعياه التعب فمسيرته إلى الرأسِ قد تكلفه بقية العمر ...
توقف عند حافة بئر حقيقتها فوجدها على غير ماتصور ، شاهد صوراً من ذئابٍ تتسولُ أزقة حيّها تلتهمُ كسراً من فواضل ماترميه لها في ساعات الليل الأخير..
خرجَ مسرعاً هارباً يخافُ أن تلتفَ عليه من جديد ؛ فالأفعى لاتموت إلا بقطعِ رأسها...
بلا أي شئ ، بلا ثياب ولا كرامة نحيف اليقين والمعتقد ، لا يراه أحد حتى يظنه مسلوباً على أيدي قاطعي طريق استفردوه وخلو سبيله بعد ابراحهِ تعذيبا ...
لم يمتلك لسانهُ القدرة على التعبير ليفصحَ للناس علته فشماتة الأصحاب أشدُ مما وقع عليه ...
رضى بالقدر فالغصة أخرسته ، سترَ حالها وحاله ، أن الله يُحب الساترين ..
نكصَ عائداً من حربه الضارية مع النفاق والخداع ، ناده مسخ خلعَ الحقُ أضراسهُ فبانَ لسانهُ متدلياً لايملك القدرة لارجاعه حيث يحبس بني البشر ألسنتهم..
قال له بصوتٍ أجش: يالك من أحمق لم تركتَ صورتكَ معلقة بكلاليب العهر في أزقة النخاسة ؛ تكفينا أوصافكَ لا نحتاج الى اجتهاد لنستدل عليك ...
أهلا بك معنا فنحنُ من فصيلةٍ واحدة ...أعرفكَ بنفسي (أبن الشارع)...
لالا أنا لستُ منكم أنا رجل قادم من النهار والشمسُ تعرفني سأثبت لك ذلك ،
فتشَ بيَن أضلعه عن هويته لم يجد شيئاً ..أعادَ يديهِ يَسترُ عورته ؛ فضحك المسخ منه عاليا : أي شيء تريد إخفاءه لقد سرقوا منك كل شئ ؛ فالحال سيان ..
استدار حيث الوجهة الى المحك ليستبين حاله أخيرا ؛ فالشمس قد لاح سفيرها ؛ الفجر يبزغ مبشراً بها...
سار حتى نهاية الطريق ....
عندما بزغت الشمس ؛ تلاشت أشلاؤه....
محمد مشعل الكَريشي / 12-9-2012