قصتي مع عمر
ها هي الإجازة قد انتهت وغداً هو أول يوم دراسي للتلاميذ .. جلست أفكر ماذا يمكنني أن افعل في أول يوم ... لقد فكرت جيداً وقررت أن أحمل في يدي مجموعةً من الورود ، استقبل كل تلميذٍ بوردةٍ جميلة ،تجعلهم يتفاءلون خيراًَ بهذا العام
في اليوم التالي ... ذهبت إلى المدرسة بعد أن جهزت نفسي جيداً ،واشتريت باقتين من الورود الملونة الجميلة .. ووقفت أنظر في ساحة المدرسة إلى التلاميذ وهم سعداء بعودتهم يجرون ويمرحون وقد كان منظرهم يوحي ببراءة الطفولة المكبوتة داخلهم ... كنت أبتسم لكل من ينظر لي وأداعب من يقترب منى وأمسح بشعر أحدهم وأقبّل آخر .. حتى رن الجرس
وكنت قد أخذت أسماء طلابي للصف الثالث الأساسي (2 ) وتوجهت مسرعة إلى الفصل
وهناك وقفت منتظرة التلاميذ الذين يأتون إلى الفصل كنت أرحب بكل منهم ، أقبّله وأعطيه وردةً جميلة وأُجلسه في الفصل .
وبعد أن اكتمل العدد جلست أرحب بهم وأُعرّفهم على نفسي .. وأشعرتهم بأنني سأكون لهم معلمة ً وأماً وأنا في خدمتهم في أي وقت وسأستمع لهم جيداً في أي مشكلة تواجههم في المدرسة أو خارجها.
ثم اتفقنا معا ومن خلال اقتراحات التلاميذ على ما سيكون من قواعد لعامنا الجديد يجب الالتزام بها ....
مثل :
_المحافظة على النظام العام في الحصة .
_المحافظة على النظافة الشخصية ونظافة الفصل .
_عدم الخروج من المقعد أو الفصل إلا بإذن .
_عدم مقاطعة الزملاء أو المعلمة .
_عدم الإجابة بدون إذن .
_مساعدة بعضنا البعض .
_عدم الفتنة .
_الالتزام بالزي المدرسي .
_عدم التأخر عن الدوام المدرسي .
وبعد أن حددناها ،اتفقنا على كتابتها على لوحةٍ حتى تكون نبراساً ودستوراً لنا طول العام .

بعد ذلك بدأت أقص عليهم قصةً جميلةً تحمل قيماَ واتجاهات تدور أحداثها في الغابة ... وتتحدث عن نهاية الظلم وأهمية الاتحاد والتعاون للقضاء عليه ، كنت أمثل أدوار الشخصيات فيها وأنتقل هنا وهناك وأغير من نبرات صوتي لتناسب الشخصيات و المواقف ،و هم مشدودون جداً.... وأرى انفعالاتهم مع الأحداث ترتسم على وجوههم ، وأنا متأكدة لو أن زلزالاَ حدث في المدرسة حينئذ ما انتبهوا له .
بعد الانتهاء من القصة بدأت أوجه أسئلةً بسيطة تدور حول المعنى العام لهذه القصة ، والعبر المستفادة منها ، ومن خلال إجابات التلاميذ لاحظت أن هناك تلميذاً يجلس في المقعد الثاني يجيب عن الأسئلة بثقةٍ واضحة أحسست أن هذا التلميذ ستكون له قصة معي هذا العام ... وبصراحة لا اعرف من أين جاءني هذا الإحساس ولكن هذا فعلاً ما شعرت به .
اقتربت منه وسألته: ما اسمك يا بني؟؟؟
قال لي: اسمي عمر ....
رحبت به وشكرته على أدبه وحسن إجاباته .
سر عمر كثيراً من التشجيع الذي ناله في اليوم الأول وأخذ يبتسم وينظر إلى من هم حوله من التلاميذ .
وفي أول يوم قمت فيه بمراجعة المهارات اللغوية للغة العربية والتي سبق دراستها .. شفوياً ثم كتابياً ، كنت أتوقع أن يكون عمر من أوائل الطلاب الذي سيجيبون عن الأسئلة ويسرعون لتصحيحها .. قلت ربما هو من التلاميذ بطيئي الكتابة !!!
لكنني فوجئت أن عمر يجلس ويُكتّف يديه ولا يكتب شيئاً ... ماذا حدث يا عمر ؟؟؟ هل أصابك مكروه؟؟
لماذا لا تكتب؟؟!!
لكنه لم يجبني .. وسكت ثم وضع اللوم على القلم ....
عدت إليه مرةً أخرى بعد أن أعطيته قلماً ... وجدته على حاله كأنه متجمدٌ في مكانه
وقفت بجانبه وطلبت منه أن يكتب ولو كلمةً واحدةً في دفتره ...
لكنني فوجئت مرةً أخرى بأنه لا يعرف كيف يمسك بالقلم ... جرب أن يكتب ولكن كانت الحروف مجرد نقشٍ وكلها تُكتب بطريقةٍ غير صحيحة ......الحرف يُكتب من أسفل إلى أعلى ومن اليسار إلى اليمين ويخيل لك وأنت تنظر إلى الكلمة بأنها قطع قماش غير متناسقة وقد خيطت بجانب بعضها البعض لتصبح كلمةً واحدة بطريقة غير مرتبة .
لقد تألمت كثيراً كيف أن هذا التلميذ الذي يبدو عليه الذكاء والفطنة يكون بهذا المستوى كتابياً
وقررت أن أساعده .. هو ومن هم أمثاله من التلاميذ متدني التحصيل
بدأت بإعداد اختبار تحصيلي بهدف تشخيص مهارات القوة والضعف لدى التلاميذ وبعد تحليل نتائج الامتحان تفاجأت أن عددا منهم لا يعرف الحروف أصلا ....
من هنا قررت أن أبدأ .. من الحروف ...لأن معرفة الحروف هي الأساس في الإملاء والقراءة .
وقررت أن أبدأ معهم .. كل أربعاء وخميس من كل أسبوع الحصة السادسة والتي تكون قبل الدوام لأن مدرستنا دوامها مسائي
قمت بإعداد رسائل إلى الأهل أُخبرهم بما سأقوم به .. وأدعوهم لحضور لقاء لمناقشة حال أبنائهم وكيف يمكتنا مع الأخذ بأيديهم خطوةً خطوة .
وفعلا لقد التقيت بمعظمهم في وجود معلمة التوجيه والإرشاد في المدرسة وتحدثت إليهم عن الأسباب التي يمكن أن تكون سبباَ في ضعف أبنائهم أو تدني تحصيلهم ، والتي يمكن أن تكون نفسية أو اجتماعية أو صحية أو ..أو
وأنه يجب أن أفهم بالضبط ما يعتقده الأهل من أسباب ، أو ما أستنتجه أنا أو المرشدة من خلال حديثنا معهم حتى أستطيع أن أبدا بطريقة سليمة وأوفر الوقت والجهد .
وحاولت جاهدةً أن أجد سبباً لعمر .. التلميذ الذي يبدو تفوقه ظاهرا خلال إجاباته الشفوية ولكنه لا يستطيع أن يكتب شيئا ..هذا ما كان يحيرنى فهو مختلف عن غيره ممن هم متدني التحصيل أو بطيئي التحصيل
ما السبب يا ترى ؟؟!!!
بصراحة أنا لم أفهم من والدته سبباً وجيهاً ... ربما كان السبب عدم تلقيه رعاية خاصة ... ممن سبقني من معلمين ؟؟ .. أو ربما هو من الأسرة ؟؟أو حالة نفسية؟؟ أو ... أو ...!!!
وقررت أن أبدأ بكل الاحتمالات أولا أشعرته بجو مناسب من الحنان والاهتمام والتشجيع الخاص .
أكدت له أن أهله يخافون عليه وأنهم يريدونه أفضل التلاميذ .. لهذا يجب أن يسعدهم ويكون كذلك حتى لو تعرض للضرب أو التوبيخ منهم فهم يريدون مصلحته .
أفهمته بأنه فعلاَ تلميذ ذكى وناجح ولكنه يحتاج إلى بعض الخصوصية ليكون الأفضل
وبدأنا .. خطوة خطوة نسير معاً لنصل إلى بر الأمان
بدأنا من الحروف اعتمدت على إعداد دروس بواسطة برامج البوربوينت والألعاب التربوية والمسابقات ووفرت الجوائز الخاصة ...
وقد عمدت أن أعطي كل مرة ثلاثة كلمات إملائية تناسب ما تم معالجته في تلك الحصة الإضافية وإعطاء جوائز لمن يكتب الكلمات صحيحة أو لمن يتحسن ... لاحظت مع الوقت أن هناك نوعاً من التنافس أصبح بين التلاميذ وكذلك نوعاً من التحدي لأنفسهم ...
وما لفت انتباهي أن التلاميذ ينتظرون يوم الأربعاء والخميس بفارغ الصبر، كنت أذهب مبكرةً إلى المدرسة لأجدهم في انتظاري وكذلك كنت أجد بعض أولياء الأمور ...يأتون ليشكروني على الجهد والعطاء الذي أقدمه لأبنائهم ، أشعر وقتئذ أنني أسعد إنسانة على الأرض عندما أسمع الدعوات منهم .. وأنسى أي تعب أو جهد قمت به وأصمم أكثر على الاستمرار قدماَ
كنت أعطي عمر ومن معه بطاقات لحلها في البيت ، كذلك الواجب كنت أعده مسبقاً في بطاقات عمل ومعظم الوقت كان الواجب يتمثل في التدرب على قراءة بعض الكلمات أو الجمل ليتم بعد ذلك على شكل مسابقة فيمن يتقن قراءتها فعلا وليس حفظاً...
ما فكرت به بعد ذلك هو أنني أريد من عمر أن ينقل ما يكتب على السبورة في دفتره بإتقان وسرعة وبدأت أدربه بالتدريج مع التشجيع والمتابعة
..وفي يوم قلت له : عمر اليوم ستكتب معي عن السبورة هيا وسنرى كم خطك جميل ومرتب
فعلا بدأ يكتب ووجدته قد أنهى كتابة الأسئلة " بدون إجابات " وجاء مسرعا قائلاً :معلمتي لقد انتهيت من الكتابة ... لقد كتبت كل الأسئلة
نظرت إليه مبتسمةً وقلت : نعم لقد أنهيتها ، فعلا أنت تلميذ مجتهد ولكن هذه أسئلة دون إجابات ، سأقرأ لك الأسئلة وأنت حاول أن تكتب حلها ..............
لقد لمست فعلا أن عمر قد تحسن وهاهو يكتب الآن ويأتي متلهفاً ليرى علامته في الإملاء الاختباري لشهر سبتمبر قائلا : معلمتى أرجوك أن تدققي ورقتي الآن .. قلت لماذا ؟؟ قال لأطمئن على علامتي أرجوكِ ، وفعلا قمت بتدقيق ورقته .. للأسف هو لم ينجح في الإملاء ولكنه كتب عدداً من الكلمات صحيحة وباقي الكلمات ينقصها بعد الحروف الزائدة كالمدود مثلاً أو التنوين أو التاء المربوطة .. لقد سررت بذلك فهذا تقدم ملحوظ ... قلت له :عمر أنت تلميذ نبيه فقد كتبت عدداً من الكلمات صحيحة .. وما دمت قد تحسنت إذاً يمكننا معا أن ننطلق لتبقى أفضل في المرة القادمة ،....واستمر التدريب لعمر وأمثاله ...ولقد فوجئت في الإملاء الاختباري لشهر أكتوبر أن نسبة النجاح قد ارتفعت بشكل ملحوظ سررت كثيرا ولم أصدق نفسي وزادني هذا طموحاً للاستمرار ... وها هو عمر قد نجح في الامتحان لهذا الشهر وهو ما كنت أتمنى أن أصل إليه .
وقد أصبح عمر يحب الدراسة ... ويشارك زملاءه في قراءة الدرس في الحصة ...وكل يوم يأتي ليخبرني بأنه يتدرب في البيت أيضاً ليقرأ ويكتب وأن أهله مسرورون منه جداً الآن .
وبعد مدة جاءت أمه لتشكرني ... وتقول لي بأن عمر أصبح شخصاً آخر يحب الكتابة ويريد أن يتعلم وليس له حديث إلا حصة اللغة العربية ومدرّسة اللغة العربية
والآن تقريبا لنا شهرين وما زلت مستمرة لآخر العام معهم إن شاء الله ...
لازلنا في بدايات الطريق مع هذه المجموعة متدنية التحصيل .. ولا بد أن نسير فيه بخطى حثيثة حتى نصل آخره .
من هنا أتوجه إلى كل معلمٍ يحمل ضميراً حياً..إلى كل معلمٍ يؤمن بأن له رسالةً مقدسةً يجب أن يؤديها كاملة لأقول له أن كثيراً من الطلاب مثل عمر .. ربما الظروف التي أوجدته في هذا المستوى .
حاول أن تتعرف على السبب وأن تكون له نِعم العون لا أن تكون مع الظروف ضده .. اتعب قليلاً لترتاح كثيراً اشعر بحلاوة طعم الإنجاز المتميز ، واجبك أن تعطي فرصاً أخرى لهذه الفئة من التلاميذ .. لا تيأس ولا تحبط ولا تقبل لشئٍ أن يحبطك.....الإرادة القوية والعمل الذي يكون رضى الله هو مبتغاه يسعدك في الدنيا والآخرة
هذه أمانة في أعناقنا .. ويجب أن نكون على قدر تحملها وفقنا الله وإياكم إلى ما فيه الخير والصلاح .