أحدث المشاركات

بكاء على الاطلال» بقلم أحمد بن محمد عطية » آخر مشاركة: أحمد بن محمد عطية »»»»» مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»» قراءة في مقال يأجوج و مأجوج ... و حرب العوالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» الطفل المشاكس بقلمي» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»»

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 25

الموضوع: درّاجة هوائية .. ( قصة قصيرة )*

  1. #1
    الصورة الرمزية محمد فتحي المقداد أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 995
    المواضيع : 180
    الردود : 995
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي درّاجة هوائية .. ( قصة قصيرة )*


    دراجة هوائية..


    قصة قصيرة
    بقلم ( محمد فتحي المقداد)*

    دراجة هوائية قديمة مركونة في المستودع, وهي من بقايا مجدٍ وعِزٍّ كان لها, في مرحلة تطوّر أهل القرية من امتطاء الحمير, إلى الدراجات الهوائية التي كانت بمثابة "الرولز رويس" لمن يركبها في تلك المرحلة الغابرة, بعد أن تقمص شخصية كلاي التي لبست اسمه محمد علي, فإذا ناديته كلاي فإنه يجبك, وكذلك إذا ناديته محمد, ويفتخر باللقب المحبب إلى نفسه,
    حاول أولاده جاهدين بيعها لمصلحي الدراجات بثمن بَخْسٍ كَخُردَةٍ, للتخلص منها ولكن الوالد وضع عليها فيتو حفظه كل أفراد العائلة بعدم الإقتراب منها أو المساس بها, وأصبحت خطاً أحمر كمثل بعض العرب القابعين تحت مظلة الأميركان.
    لم يحاول أحد من العائلة استجلاء الأهمية لها من الوالد, إلاّ ما كان يخطر ببالهم أن والدهم يوماً سيعود لإصلاحها وإعادة تأهيلها من أجل ممارسة الرياضة, التي وضع برنامجاً لها, على ضوء نصائح الطبيب المتكررة والملحّة للتخفيف من الوزن الزائد, الذي فرض على الجسم زيادة الكولسترول, والضغط, والسكر الذي طهرت بوادر ارتفاعه إثر صدمة نفسية برسوب أحد الأبناء في الثانوية العامة.
    الوالد كان ينوي دخول التاريخ من خلال تلك الكركوبة المتهالكة, من خلال نواياه غير المعلنة, بالتبرع بها للمتحف الوطني, وأن يُكتَب اسمه على لوحة صغيرة بجوارها , على اعتبار أنها أثر نادر لارتباطها في ذهنه بثلاثين سنة, منذ ذلك اليوم الذي كان سيؤدي به إلى السجن في العاصمة.
    اشتراها من سوق الحراميّة في شارع الثورة, بسعر مغرٍ بالنسبة لأسعار مثيلاتها في السوق, و بَدَتْ له كأنها جديدة من الوكالة, وبعد مفاوضات حصل على تنزيل السعر بما يتناسب مع ميزانيته, وطلب من البائع بكتابة ورقه يتعهد فيها البائع أنها غير مسروقة, ودوّن فيها المعلومات الضرورية المدوّنة في البطاقة الشخصية, وتوكل على الله, بعد أن جرّبها وتأكد من صلاحيتها وجودتها التي تستحق الثمن الذي دفعه بها, وهي أول ثمرة لعمله لمدة شهر كامل في سوق الهال.
    في ذات يوم. بعد أجمع رأيه واتخذ قراره, بعبور بوابة التاريخ, والتخلص من دراجته الأثيرة عليه, توجه لإدارة متحف المدينة, استقبله المدير أجمل استقبال, شرب فنجان قهوته, و ابتسامة مصطنعة لم تفارق وجه المدير الذي بدا كوجه تمثال روماني, أو مومياء فرعونية, كلّ قليل يتطلع إلى ساعته, كأنه يطلب من الضيف أن يظهر حاجته وسبب زيارته, و أعرب عن انشغاله بمواعيد رسمية تتعلق باجتماعات مع الجهات العليا, بينما في الحقيقة كان ينتظر خلوّ المكتب ليجلس مع السكرتيرة, التي ارتبط بعلاقة حميمة منذ أن سعى بتعيينها بعقد عمل مؤقت, ونصب كمائنه وراء حاجتها مساعدته لها, وهي بدورها بحاجة أن تساعد عائلتها الفقيرة.
    " كلاي" تنحنح وتوجّه بالكلام للسيد المدير: شاكراً له حُسن الاستقبال ثانية, وأخبره بأنه يملك تحفة أثرية يريد التبرع بها للمتحف, على اعتبار أنها تراث وطني وقومي يجب المحافظة عليه من الضياع والاندثار, والوقوع بيد لصوص الأنتيكا وتهريبها إلى خارج البلد, تصبح كمعظم آثارنا وكنوزنا المنهوبة.
    يستفسر المدير: عن ماهية التحفة؟.
    بصراحة يا سيدي, هي بسكليت قديمة, لا زلتُ محافظاً عليها من عبث أولادي, ورميها مع النفايات أو التصرف بها.
    يَزُمّ المدير شفتيه, ويحدق بنظرة استغراب من حديث "كلاي", ويبدي فيما بينه وبين نفسه شكّاً بسلامة قوى الرجل العقلية, وقد اربدّ وجهه بغضب بدت ملامحه عليه, وهو يتمالك نفسه من الانفجار, عندما ظنّ أن الرجل يستهزئ به. وراح يفرك يديه بحركات عصبية, ويفرقع أصابعه, وقال: شكراً لك, ولكن ألا ترى أن هذا التبرع لا يليق بمتحفنا الوطني.
    دافع "كلاي" عن رأيه, بقوله: هذه الدراجة أثرية من الجيل الأول الذي ظهر في قريتنا, أيام كان يُشار لنا بالبنان, وننال من الحسد ما يجعلنا نصاب بأعتى الأمراض, ويومها كان تعدادها بحدود أصابع اليدين, أول مرة ركبتها في دمشق أيام الشباب و الولدنة, ورحت أجوب بها الشوارع المليئة بالسيارات, وبينما أنا في منحدر شديد وبعده بقليل منعطف يؤدي إلى طريق الربوة, فقدت السيطرة عليها ,أصيح بأعلى صوتي على المشاة أن ينتبهوا كي أتفادى الاصطدام بهم.
    بينما أنا على هذه الحال و الحيرة من أمري, فوجئت بذلك الرجل الذي يتكئ عكازته, ويعتمر قبعة ( كسليت) غامقة على رأسه, ونظارته المتربعة على أنقه والذي بدا لي ساعتها كأنه جبل قاسيون, فاصطدمت به, ووقع أرضاً, ووقعت فوقه, ارتمت الدراجة إلى الطرف الآخر من الطريق, وحكمة الله أن السيّارات كأنها حجبت عن الطريق في هذه اللحظة.
    المدير يتبرم بالحديث : نعم , وبعد ذلك, أرجوك أوجز..أوجز ..!!
    أشكرك, ولكن لابد أن تأخذني بحلمك وسعة صدرك, من أجل المصلحة العامة, بينما نحن على هذه الحال, نهضت بسرعة وأمسكت يد الرجل وأرجعت له نظارته وقبعته, وأمسكت بيده وأنهضته, تململ ببطء شديد بسبب حجمه الكبير, وكرشه المتدلي أمامه – الحمد لله على السلامة – يا سيدي, كرامة لله لا تؤاخذني, على شنيع فعلتي هل أصابك مكروه؟.
    فأجاب العجوز: لا , الحمد لله جاءت سليمة, وكنت ظننتها نهايتي, من كان له عُمُرُ لا تقتله شَدّة.
    ما إن لملنا حالنا, إذا بدورية الشرطة تقف إلى جانبنا, نزل المساعد مع عنصرين واستفسر عما حدث, طلب بطاقاتنا الشخصية, هزّ برأسه, و همّ بإصدار أوامره بأن نصعد إلى السيارة, لولا أن العجوز أعرب له بأن لا يريد الإدعاء كونه سليماً ومعافى, ولكن الحق العام لا بد من كتابة الضبط هناك في قسم الشرطة وأخذ الأقوال, ووضع بصماتنا بإقرارنا بصحة أقوالنا.
    نظر المساعد للعجوز وهو يلوّح بهويّته, وهو يهزّ برأسه, كمن يتوعد: إذن أنت؟ كم سمعت بك يا محمد الماغوط.
    -أصيب العجوز بحالة هستيرية من الخوف, وهو الشيء الذي يملكه من المحيط إلى الخليج, ولديه في أعماقه" احتياطياً" من الخوف أكثر من السعودية وفنزويلا من احتياطي النفط, ويقول لنفسه: في الزنزانة عرفت الخوف لأول مرة, وانطبعت روحي بوشم التوجس من العالم, وهرب مني الأمان ربما للأبد, كل شيء يخيفني, حتى لو كان فاتورة الكهرباء, لذلك تراني مسكوناً بالذعر-.
    كرامة للوطن الذي أسقيته كأسك, وضيعة تشرين وغُرْبَة, فإنني سأترك سبيلك وهذا الحيوان من هنا لكي لا أزعجك شاعرنا, وأقبل عليه تقبيلاً, ومصافحة وتمنى له الصحة والعافية, وركب السيارة بعد أو ودعه.و الماغوط يكاد قلبه يخرج من بين أضلاعه, وحتى أن دقات قلبه كادت تسمع من مترين, وهو يرتجف, ويتلعثم الكلام بفمه.
    تابع الماغوط طريقه إلى مقهي أبي شفيق, المكان الحميمي الأثير لدى الشاعر على مدار ثلاثين عاماً, في القترة الصباحية, وقد كتب فيه معظم أعماله وروائعه.
    تمتنت علاقتي بالشاعر وكنت كلما أذهب للعاصمة, أضع في برنامجي زيارة إلى ذلك المقهى المتربع على كتف الربوة, وهو يطل على بردى, يعانقه بحنان في الربيع وحتى أواخر الصيف, وأصبح مزاراً لي فقط من أجل المكان وإن لم أجد الماغوط في فترات غيابه لمرض أو سفر.
    كل هذا السرد, والمدير يتلظى ويتأفف: وما المثير في ذلك, الحوادث كثيرة, ففي كل ساعة يقع مائة حادث؟.
    نعم سيدي, ولكن ثروة قومية وأدبية بمثل قامة الشاعر يجب أن نحافظ على دقائق حياته وكل تراثه, كما فعل الألمان مع غوته, والفرنسيين مع فولتير, والذين كرمتهم أممهم بجعل بيوتهم متاحف ومزارات, و الماغوط لا يقل عن أي من هؤلاء وغيرهم, وخصوصاً أن نصون تراثه من الضياع.
    المدير:على كُلٍّ اكتُبْ لي طلباً حتى أوقِّعَه وأرفعه للوزارة, لاتخاذ القرار بذلك.
    ربّنا يطوّل بعمر ك يا سيدي, خرج من عنده, جاء بالطلب, وناوله للسكرتيرة التي دخلت بيدها الطلب, تناوله من يدها ومزقه ورماه في سلة الزبالة, وأطلق العنان لضحكته التي دوّت في أرجاء المتحف, التي أجفلت التماثيل الكئيبة المدمنة الرتابة والهدوء جامدة كجمود القبور, إلا من ضحكات السكرتيرة وهي تقضي معظم وقتها تحتسي العواطف على وقع ألحان جسدها الملتهب.
    طال .. وطال انتظاره مجيء الموافقة, انقطعت آماله , ووري جثمانه هناك في المقبرة.. رحمه الله.


    ---------------------- انتهى
    بصرى الشام
    22 -9 – 2012م






  2. #2
    الصورة الرمزية سامية الحربي أديبة
    غصن الحربي

    تاريخ التسجيل : Sep 2011
    المشاركات : 1,578
    المواضيع : 60
    الردود : 1578
    المعدل اليومي : 0.35

    افتراضي

    إذا كانت القامات الأدبية كالبردوني والماغوط لم يحظوا هم أنفسهم بتكريم فما بالك بمتعلقاتهم! شكراً جزيلاً على هذه القصة التي رمزت للكثير. تحياتي.

  3. #3
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.86

    افتراضي

    ولكن ثروة قومية وأدبية بمثل قامة الشاعر يجب أن نحافظ على دقائق حياته وكل تراثه, كما فعل الألمان مع غوته, والفرنسيين مع فولتير, والذين كرمتهم أممهم بجعل بيوتهم متاحف ومزارات, و الماغوط لا يقل عن أي من هؤلاء وغيرهم, وخصوصاً أن نصون تراثه من الضياع.
    جسّدت ما يعانيه الكثير ممّن يستحقّون الاهتمام بهم ولا يحظون بذلك !
    قصّة هادفة عكست واقعا مريرا ومعاناة من يحرصون على معالم وخاصيّة تتناولها أيدي الآخرين وعقولهم باللامبالاة والتّهميش، وتزرع الأسى في النّفوس
    بوركت أستاذ محمّد
    تقديري وتحيّتي

  4. #4
    الصورة الرمزية محمد فتحي المقداد أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 995
    المواضيع : 180
    الردود : 995
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غصن الحربي مشاهدة المشاركة
    إذا كانت القامات الأدبية كالبردوني والماغوط لم يحظوا هم أنفسهم بتكريم فما بالك بمتعلقاتهم! شكراً جزيلاً على هذه القصة التي رمزت للكثير. تحياتي.


    أستاذة غصن
    أسعدك الله
    وماذا يفيد المبدعين تكريمهم بعدد وفاتهم ,, وهم قد عانوا
    من الفقر و التهميش في حياتهم..
    دمت بكل تقدير

  5. #5
    الصورة الرمزية محمد فتحي المقداد أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 995
    المواضيع : 180
    الردود : 995
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كاملة بدارنه مشاهدة المشاركة
    جسّدت ما يعانيه الكثير ممّن يستحقّون الاهتمام بهم ولا يحظون بذلك !
    قصّة هادفة عكست واقعا مريرا ومعاناة من يحرصون على معالم وخاصيّة تتناولها أيدي الآخرين وعقولهم باللامبالاة والتّهميش، وتزرع الأسى في النّفوس
    بوركت أستاذ محمّد
    تقديري وتحيّتي

    الكاملة - كاملة
    أسعدك الله
    التهميش اصبحت علامة فارقة في حياتنا الثقافية
    دمت بكل تقدير

  6. #6
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.74

    افتراضي

    نظرة منصفة فيمن حولنا تكشف لنا ما يعاني الإبداع الحقيقي من تهميش رموزه وتغييبهم عن واجهة اللحظة ليظهر الأقزام

    نص اشتكى فصدق من واقع يعانيه من يستحقون التكريم

    أهلا بك ايها الكريم في واحتك

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  7. #7
    الصورة الرمزية وليد عارف الرشيد شاعر
    تاريخ التسجيل : Dec 2011
    الدولة : سورية
    العمر : 60
    المشاركات : 6,280
    المواضيع : 88
    الردود : 6280
    المعدل اليومي : 1.40

    افتراضي

    نص بديع وأسلوب تهكمي ساخر بنكهة الماغوط ينضح ألمًا من خلف الابتسامات التي أورثها ..
    نعم سيدي المبدع .. في بلادنا لو كان غوتة لقوبل وأغراضه وموروثاته بنفس الضحكة العالية وبذات السكرتيرة .
    كنت هنا وخرجت مستمتعا بالقص موجوعا لما أثرت
    أحييك صديقي المبدع الجميل ولك كما تعلم ذات الود ومعه حشود ورد

  8. #8

  9. #9
    الصورة الرمزية محمد فتحي المقداد أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 995
    المواضيع : 180
    الردود : 995
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي


    ملاحظة :( نبهني أحد الأخوة لوجود بعض الأخطاء الكيبوردية, قمت بمراجعة النص ولكنني كنت قد فقدت ميزة التعديل ,, نشرته ثانية)








    دراجة هوائية..

    قصة قصيرة
    بقلم ( محمد فتحي المقداد)*


    دراجة هوائية قديمة مركونة في المستودع, وهي من بقايا مجدٍ وعِزٍّ كان لها, في مرحلة تطوّر أهل القرية من امتطاء الحمير, إلى الدراجات الهوائية التي كانت بمثابة "الرولز رويس" لمن يركبها في تلك المرحلة الغابرة, بعد أن تقمص شخصية كلاي التي لبست اسمه محمد علي, فإذا ناديته كلاي فإنه يجبك, وكذلك إذا ناديته محمد, ويفتخر باللقب المحبب إلى نفسه,
    حاول أولاده جاهدين بيعها لمصلحي الدراجات بثمن بَخْسٍ كَخُردَةٍ, للتخلص منها ولكن الوالد وضع عليها فيتو حفظه كل أفراد العائلة بعدم الإقتراب منها أو المساس بها, وأصبحت خطاً أحمر كمثل بعض العرب القابعين تحت مظلة الأميركان.
    لم يحاول أحد من العائلة استجلاء الأهمية لها من الوالد, إلاّ ما كان يخطر ببالهم أن والدهم يوماً سيعود لإصلاحها وإعادة تأهيلها من أجل ممارسة الرياضة, التي وضع برنامجاً لها, على ضوء نصائح الطبيب المتكررة والملحّة للتخفيف من الوزن الزائد, الذي فرض على الجسم زيادة الكولسترول, والضغط, والسكر الذي ظهرت بوادر ارتفاعه إثر صدمة نفسية برسوب أحد الأبناء في الثانوية العامة.
    الوالد كان ينوي دخول التاريخ من خلال تلك الكركوبة المتهالكة, ونواياه غير المعلنة بالتبرع بها للمتحف الوطني, وأن يُكتَب اسمه على لوحة صغيرة بجوارها , على اعتبار أنها أثرٌ نادرٌ لارتباطها في ذهنه بثلاثين سنة, منذ ذلك اليوم الذي كان سيؤدي به إلى السجن في العاصمة.
    اشتراها من سوق الحراميّة في شارع الثورة, بسعر مغرٍ بالنسبة لأسعار مثيلاتها في السوق, و بَدَتْ له كأنها جديدة من الوكالة, وبعد مفاوضات حصل على تنزيل السعر بما يتناسب مع ميزانيته, وطلب من البائع بكتابة ورقه يتعهد فيها البائع أنها غير مسروقة, ودوّن فيها المعلومات الضرورية المدوّنة في البطاقة الشخصية, وتوكل على الله, بعد أن جرّبها وتأكد من صلاحيتها وجودتها التي تستحق الثمن الذي دفعه بها, وهي أول ثمرة لعمله لمدة شهر كامل في سوق الهال.
    في ذات يوم. بعد أن أجمع رأيه واتخذ قراره, بعبور بوابة التاريخ, والتخلص من دراجته الأثيرة عليه, توجه لإدارة متحف المدينة, استقبله المدير أجمل استقبال, شرب فنجان قهوته, و ابتسامة مصطنعة لم تفارق وجه المدير الذي بدا كوجه تمثال روماني, أو مومياء فرعونية, كُلَّ قليلٍ يتطلع إلى ساعته, كأنه يطلب من الضيف أن يظهر حاجته وسبب زيارته, و أعرب عن انشغاله بمواعيد رسمية تتعلق باجتماعات مع الجهات العليا, بينما في الحقيقة كان ينتظر خلوّ المكتب ليجلس مع السكرتيرة, التي ارتبط مها بعلاقة حميمة منذ أن سعى بتعيينها بعقد عمل مؤقت, ونصب كمائنه وراء حاجتها و مساعدته لها, وهي بدورها بحاجة أن تساعد عائلتها الفقيرة.
    " كلاي" تنحنح وتوجّه بالكلام للسيد المدير: شاكراً له حُسن الاستقبال ثانية, وأخبره بأنه يملك تحفة أثرية يريد التبرع بها للمتحف, على اعتبار أنها تراث وطني وقومي يجب المحافظة عليه من الضياع والاندثار, والوقوع بيد لصوص الأنتيكا وتهريبها إلى خارج البلد, فتصبح كمعظم آثارنا وكنوزنا المنهوبة.
    يستفسر المدير: عن ماهية التحفة؟.
    بصراحة يا سيدي, هي بسكليت قديمة, لا زلتُ محافظاً عليها من عبث أولادي, ورميها مع النفايات أو التصرف بها.
    يَزُمّ المدير شفتيه, ويحدق بنظرة استغراب من حديث "كلاي", ويبدي فيما بينه وبين نفسه شكّاً بسلامة قوى الرجل العقلية, وقد اربدّ وجهه بغضب بدت ملامحه عليه, وهو يتمالك نفسه من الانفجار, عندما ظنّ أن الرجل يستهزئ به. وراح يفرك يديه بحركات عصبية, ويفرقع أصابعه, وقال: شكراً لك, ولكن ألا ترى أن هذا التبرع لا يليق بمتحفنا الوطني.
    دافع "كلاي" عن رأيه, بقوله: هذه الدراجة أثرية من الجيل الأول الذي ظهر في قريتنا, أيام كان يُشار لها بالبنان, وينالنا من الحسد ما يجعلنا نصاب بأعتى الأمراض, ويومها كانت بأعداد لا تتعدى حدود أصابع اليدين, أول مرة ركبتها في دمشق أيام الشباب و الولدنة, ورحت أجوب بها الشوارع المليئة بالسيارات, وبينما أنا في منحدر شديد وبعده بقليل منعطف يؤدي إلى طريق الربوة, فقدت السيطرة عليها بعدما راتخى شريط الفرامل, فأصيح بأعلى صوتي على المشاة أن ينتبهوا كي أتفادى الاصطدام بهم.
    بينما أنا على هذه الحال و الحيرة من أمري, فوجئت بذلك الرجل الذي يتكئ على عكازته, ويعتمر قبعة ( كسليت) غامقة على رأسه, ونظارته المتربعة على أنقه والذي بدا لي ساعتها كأنه جبل قاسيون, فاصطدمت به, ووقع أرضاً, ووقعت فوقه, ارتمت الدراجة إلى الطرف الآخر من الطريق, وحكمة الله أن السيّارات لم تتواجد في المكان, و كأنها حجبت عن الطريق في هذه اللحظة.
    المدير يتبرم بالحديث : نعم , وبعد ذلك, أرجوك أوجز..أوجز ..!!
    أشكرك, ولكن لابد أن تأخذني بحلمك وسعة صدرك, من أجل المصلحة العامة, بينما نحن على هذه الحال, نهضت بسرعة وأمسكت يد الرجل وأرجعت له نظارته وقبعته, وأمسكت بيده وأنهضته, تململ ببطء شديد بسبب حجمه الكبير, وكرشه المتدلي أمامه – الحمد لله على السلامة – يا سيدي, كرامة لله لا تؤاخذني, على شنيع فعلتي, هل أصابك مكروه؟.
    فأجاب العجوز: لا , الحمد لله جاءت سليمة, وكنت ظننتها نهايتي, ومن كان له عُمُرُ لا تقتله شَدّة.
    ما إن لملنا حالنا, إذا بدورية الشرطة تقف إلى جانبنا, نزل المساعد مع عنصرين واستفسر عما حدث, طلب بطاقاتنا الشخصية, هزّ برأسه, و همّ بإصدار أوامره بأن نصعد إلى السيارة, لولا أن العجوز أعرب له, بأنه لا يريد الإدعاء كونه سليماً ومعافى, رد المساعد: ولو, ولا بد لنا من كتابة الضبط هناك في قسم الشرطة وأخذ الأقوالوذلك من أجل الحق العام , ووضع بصماتنا بإقرارنا بصحة أقوالنا.
    نظر المساعد للعجوز وهو يلوّح بهويّته, وهو يهزّ برأسه, كمن يتوعد: إذن أنت؟ كم سمعت بك يا محمد الماغوط؟.
    -أصيب العجوز بحالة هستيرية من الخوف, وهو الشيء الذي يملكه من المحيط إلى الخليج, ولديه في أعماقه" احتياطياً" من الخوف أكثر من السعودية وفنزويلا من احتياطي النفط, ويقول لنفسه: في الزنزانة عرفت الخوف لأول مرة, وانطبعت روحي بوشم التوجس من العالم, وهرب مني الأمان ربما للأبد, كل شيء يخيفني, حتى لو كان فاتورة الكهرباء, لذلك تراني مسكوناً بالذعر-.
    -كرامة للوطن الذي أسقيته كأسك, وضيعة تشرين وغُرْبَة, فإنني سأترك سبيلك وهذا الحيوان من هنا لكي لا أزعجك شاعرنا, وأقبل عليه تقبيلاً, ومصافحة وتمنى له الصحة والعافية, وركب السيارة بعد أو ودعه.
    و الماغوط يكاد قلبه يخرج من بين أضلاعه, حتى أن دقات قلبه كادت تسمع من مترين, وهو يرتجف, ويتلعثم الكلام بفمه.
    تابع الماغوط طريقه إلى مقهي أبي شفيق, المكان الحميمي الأثير له على مدار ثلاثين عاماً, في الفترة الصباحية, وقد كتب فيه معظم أعماله وروائعه.
    تمتنت علاقتي بالشاعر وكنت كلما أذهب للعاصمة, أضع في برنامجي زيارة إلى ذلك المقهى المتربع على كتف الربوة, وهو يطل على بردى, يعانقه بحنان في الربيع وحتى أواخر الصيف, وأصبح مزاراً لي فقط من أجل المكان وإن لم أجد الماغوط في فترات غيابه لمرض أو سفر.
    كل هذا السرد, والمدير يتلظى ويتأفف: وما المثير في ذلك, الحوادث كثيرة, ففي كل ساعة يقع مائة حادث؟.
    نعم سيدي, ولكن ثروة قومية وأدبية بمثل قامة الشاعر يجب أن نحافظ على دقائق حياته وكل تراثه, كما فعل الألمان مع غوته, والفرنسيين مع فولتير, والذين كرمتهم أممهم بجعل بيوتهم متاحف ومزارات, و الماغوط لا يقل عن أي من هؤلاء وغيرهم, وخصوصاً أن نصون تراثه من الضياع.
    المدير:على كُلٍّ اكتُبْ لي طلباً حتى أوقِّعَه وأرفعه للوزارة, لاتخاذ القرار بذلك.
    ربّنا يطوّل بعمر ك يا سيدي, خرج من عنده, جاء بالطلب, وناوله للسكرتيرة التي دخلت بيدها الطلب, تناوَله من يدها ومزقه ورماه في سلة الزبالة, وأطلق العنان لضحكته التي دوّت في أرجاء المتحف, التي أجفلت التماثيل الكئيبة المدمنة الرتابة والهدوء جامدة كجمود القبور, إلا من ضحكات السكرتيرة وهي في تقضي معظم وقتها تحتسي العواطف على وقع ألحان جسدها الملتهب.
    طال .. وطال انتظار مجيء الموافقة, انقطعت آماله عندما ووري جثمانه هناك في المقبرة.. رحمه الله
    ---------------------- انتهى








  10. #10
    الصورة الرمزية محمد فتحي المقداد أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 995
    المواضيع : 180
    الردود : 995
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ربيحة الرفاعي مشاهدة المشاركة
    نظرة منصفة فيمن حولنا تكشف لنا ما يعاني الإبداع الحقيقي من تهميش رموزه وتغييبهم عن واجهة اللحظة ليظهر الأقزام

    نص اشتكى فصدق من واقع يعانيه من يستحقون التكريم

    أهلا بك ايها الكريم في واحتك

    تحاياي

    أستاذة ربيحة
    اسعدك الله
    هي مأساة عاشها الكثير من الشعراء والأدباء
    ماتوا ومات كل تراثهم معهم ...
    دمت بكل تقدير

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. قصة قصيرة ......... العازف
    بواسطة تعب في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 02-08-2016, 11:13 PM
  2. فارس . كم( قصة قصيرة)
    بواسطة سعد جبر في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 04-06-2016, 09:44 PM
  3. نــهــــاية غــصــن (قصة قصيرة)
    بواسطة عبد الواحد الأنصاري في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 22-05-2016, 09:00 AM
  4. أبــــو لــــثــــمـــة (قصة قصيرة)
    بواسطة عبد الواحد الأنصاري في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 13-11-2005, 01:07 AM
  5. بريق في عيني أمي .. (قصة قصيرة)
    بواسطة نهاد صلاح معاطي في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 03-11-2003, 10:52 PM