أحدث المشاركات
صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 23

الموضوع: تعبيرات عاشت .. لعمالقة غابت

  1. #1
    الصورة الرمزية محمد جاد الزغبي شاعر
    تاريخ التسجيل : Jan 2006
    العمر : 46
    المشاركات : 705
    المواضيع : 83
    الردود : 705
    المعدل اليومي : 0.11

    افتراضي تعبيرات عاشت .. لعمالقة غابت

    تعبيرات عاشت .. لعمالقة غابت ( مع التنقيح )

    ( قمت بكتابة هذا الموضوع كمحاولة أولى سابقا فى عام 2005 , وكانت فكرته تتلخص فى أن أقدم للقارئ تعبيرات عاشت على ألسنة الصحابة وجيلهم , ومع هذه التعبيرات أروى الموقف الذى قيلت فيه بحيث يصاحب كل تعبير .. موقفه .. تلك المواقف الذى غابت عنا طويلا بالتغييب والتغريب
    ونشرت الموضوع بالفعل فى عدد من المنتديات وعلى مدونتى الشخصية , وانتشر منها إلى غيرها من المنتديات عبر النقل المتتابع مما يشي بحب القراء للتحرى خلف رجال هذا العهد الكريم ,
    وبعد مرور هذه السنوات حتى عامنا هذا 2012 م , وبعد أن طالعت ما لم أطالعه وقت كتابة الموضوع من المراجع التاريخية ومناهج البحث فى التاريخ الإسلامى وجدت أن الموضوع على صورته الأولى المنشورة فى المنتديات لا يفي بالغرض , وحيث أن الهدف الرئيسي هو إعلاء شأن الصحابة والتذكير بهم وبتاريخهم الصحيح , ودفع الشبهات عنهم كان لزاما علىّ إعادة كتابة الموضوع بأكمله من جديد وعبر خطة بحث جديدة أيضا أكثر توسعا وأدق مصادرا وأكثر تحريا للحوادث التاريخية من مصادرها الأصلية بأسانيدها الصحيحة , ومن ثم كشف الروايات الزائفة التى علقت بتاريخ الصحابة وانتشرت انتشارا مذهلا عبر أقلام وكتابات المعاصرين دون تصحيح
    ولهذا سيجد القارئ أن الموضوع بهذا العنوان " تعبيرات عاشت ... " مكرر , مرة مع الموضوع القديم ومرة مع هذه الإعادة الموسعة للموضوع والتى أرجو أن تحل محل اهتمام النسخة القديمة لتصحيح أخطائها فضلا على زيادة وتكثيف المعلومات على نحو لم يرد فى النسخة الأولى
    والله ولى التوفيق ونسأله أن يجعل أعمالنا كافة مخلصة لوجهه الكريم
    )

    مقدمة

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين , وتتم اللهم الرضوان على آل بيته وصحابته أجمعين , وألحقنا بهم فى الصالحين , انك ولى ذلك ومولاه .. اللهم آمين

    لا يشك عاقل أوتى من الحكمة مقدار حبة الخردل , طبيعة العصر الذى نعيشه اليوم , وكيف أن الفتن التى أخبر عنها المعصوم عليه الصلاة والسلام صارت تتسلل إلى بلاد الإسلام عبر العصور , حتى أصبحت اليوم منا فى كل بيت وفى كل موطن وفى كل خطوة قدم !

    وما كان انتشار الفتن بهذا الشكل المريع والذريع إلا لسبب واحد وحيد ..

    هو أن الفرد المسلم أهمل تربية نفسه التربية الإسلامية الصحيحة , وفرّط حتى فى ما هو فرض عين من العلم فرضه الله على كل مسلم ومسلمة كى يقيم به حياته , ولما غفل المسلمون عن أنفسهم كانوا أولى بالغياب عن ذويهم ومن هم تحت ولايتهم فَضَلّ الأبناء بعد الآباء وتوارثت الأجيال الجديدة ظلمات بعضها فوق بعض ..

    والجهل والتجهيل كان له النصيب الأوفر فى أسباب ذلك كله , فكما قال العلماء أن الجاهل يتلاعب به إبليس تلاعب الصبيان بالكرة ! "[1]" , وما هناك أحد أشد على إبليس من العلماء لأنهم أهل الخبرة بطرق دخوله على الناس , وهم دعاة الناس إلى كل خير .. رغم ما يلاقونه فى سبيل ذلك

    يقول إمام السنة أحمد بن حنبل رضي الله عنه
    :
    ( الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه ضال قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين...)

    ولولا بشارة النبي عليه الصلاة والسلام بوجود العلماء ــ وإن كانوا قليلا ــ العلماء الربانيون الذين يحييون الدين فى قلوب الناس , لكانت النهاية المحتومة على أمة الإسلام ..

    ولأن مصيبة الأمة الكبري بعد مصيبتها فى وفاة النبي عليه الصلاة والسلام كانت من باب أولى فى اندراس العلم باندراس العلماء وموتهم , فقد أصبحت الساحة بتوالى العصور والدهور أشبه بالملعب المفتوح أمام شياطين الإنس والجن فأصبحنا فى زمن لا يُحرم فيه الحرام ولا يُحل فيه الحلال ,

    ثم كانت طامة الطوام التى حذر منها علماء الإسلام ألا وهى أننا لم نكتف بالكف عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر , بل أصبحنا نأمر بالمنكر وننهى عن المعروف ! ,

    بل كان ما هو أكبر من ذلك إذ أصبح أصحاب الحق فى خجل من الجهر بالحق , وكأننا فى زمن الجاهلية الأولى ! , أما أصحاب الباطل فقنوات الإعلام مفتوحة لهم يجهرون بباطلهم فى تبجح ليس له مثيل , ولو أنهم مارسوا هذا التبجح فى عصور مضت كانت للعلماء عزة العلم فيها قائمة , لأخذهم الناس بالنواصي والأقدام

    وغياب طلبة العلم والعلماء من قبلهم وغياب الهمة فى تحصين النفس بتحصيل العلم , هو ما حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام فى الحديث الصحيح الذى أخرجه مسلم فى صحيحه قال :

    ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من الناس , ولكن يقبضه بقبض العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جهالا أفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )

    وفى الحديث الصحيح أيضا حذر النبي عليه الصلاة والسلام من أئمة آخر الزمان , هؤلاء الأئمة الذين يدعون إلى النار فمن استجاب إليهم قذفوه فيها !

    ولا شك أن هذا هو حالنا اليوم , وكيف لا .. وغالبية المسلمين اليوم مسلمون بواقع بطاقات الهوية !

    أما أوامر الإسلام ونواهيه , وفرائضة وسننه , وأحكامه وشرائعه , فهى فوق الرفوف لا تجد من يطبقها إلا قليلا , ولو وجدت من يطبقها فأغلبهم ــ إلا القليل ــ لا ينصرف عقله ومجامع قلبه إلى تلك الفرائض فيؤديها ويرعاها حق رعايتها بل ولا يهتم بغرس مبادئ الشريعة فى نفوس أبنائه ومن يعول , ولا يهتم حتى بإطعامهم من حلال أم من حرام , وكأنما يشعر بأعماقه أن الدنيا هى آخر المبتغي !

    ولعمرى كدنا نشعر أن الإسلام فى نفوس المسلمين اليوم أصبح كما وصف القرآن الكريم أهل الشرك فى وراثتهم للشرك عن آبائهم بالتقليد الأعمى ..

    يقول عز وجل

    [بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ] {الزُّخرف:22}

    فغاب الدين وغابت العقيدة عن القلوب , ولو كانت حاضرة لحضرت الغيرة على الدين فى القلب والروح , ولاهتم الآباء بغرس مبادئ الدين فى نفوس أطفالهم قبل حتى أن يغرسوا فى أفواههم لقيمات الطعام , ولاهتموا بنشر الدين الصحيح النقي الخالى من شوائب البدع فى محيط معارفهم ..

    باختصار ..

    لو كان الدين فى القلوب لقاموا بأهم فرض فى الإسلام ــ تلك الفريضة الغائبة ـــ أن ينكروا المنكر ويأمرون المعروف ..

    وقد غاب عن الكثيرين ــ مع الأسف الشديد ــ مفاجأة غير سارة ,

    إذ يتواكل الأغلب الأعم على خيرية هذه الأمة التى فضلها الله تعالى على سائر الأمم , ويعتز بأنه من أهل الأمة المحمدية التى شرفها الله تعالى بأن تكون خير الأمم وأعزها وصاحبة الشهادة على غيرها , وذلك مصداقا لقوله تعالى :

    ( كنتم خير أمة أخرجت للناس )

    لكن وعلى عادة الناس فى أيامنا هذه لا يكملون نص الآية ولا يتدبرون , فالله عز وجل لم يجعل خيرية هذه الأمة مطلقة هكذا بلا ضوابط , والمفاجأة فى نص الآية وتفسيرها أن المرء منا نحن أمة الإسلام لا يكون من تلك الأمة إلا بحقها وبشرطها الذى اشترطه الله عز وجل وأكد عليه النبي عليه الصلاة والسلام , هذا الشرط ينقسم إلى شقين .. يتضحان من نص الآية الكريمة :
    [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ] {آل عمران:110}

    أولهما : الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ,

    وهذا الشرط يعتبر أهم الفرائض فى الإسلام بعد أركانه الخمس , ولا يقبل من مسلم إلا أن يؤديه على شروطه ولوازمه ورخصه , وكما بينه النبي عليه الصلاة والسلام فى الحديث الصحيح :
    ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ومن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان )

    فتغيير اليد هنا لازمه امتلاك السلطة فيكون لولى الأمر عموم الولاية فى تغيير المنكر بالقوة , وتكون تلك الخصلة مقصورة فى بقية الناس على من يملك وحسب , بمعنى كل إمرؤ فيما تحت يده من أهل وولد , فإن رأى المنكر فى غيرهم من آحاد الناس فعليه باللسان أن ينكر المنكر ويحض على تركه فإن استعصي عليه ذلك فينكره بقلبه ويقول اللهم إن هذا منكر لا يرضيك

    ثانى اللوازم : أن المفسرون قالوا فى تفسير الآية بأن خيرية أمة الإسلام جاءت من كونها أكثر الأمم خيرا لغيرها بمعنى هى السابقة فى الدعوة إلى الخير وهى الأمة الوحيدة التى شرع الله لنبيها القتال فى سبيل نشر الدعوة وهى خصيصة من خمس خصال خص بها الله عز وجل نبيه محمدا ..

    من هنا كان لزاما وواجبا وفرض عين على كل مسلم أن يبذل جهده لهداية غيره للإسلام بأى وسيلة من الوسائل , وأقل هذه الوسائل أن يتخلق بأخلاق الإسلام فى معاملته مع أهلل الملل الأخرى حتى يريهم من نفسه خيرا فيرون الخير في دينه وفيه , وكم من مسلم فى الغرب أسلم بسببه العشرات بناء على موقف رأوا فيه أمانته أو صدقه أو غير ذلك من الخصال الحسنة ..

    والقصص فى هذا الشأن أكثر من أن تحصي , ومنها الداعية المسلم الشهير يوسف استس , والذى كان قسا أمريكيا ومن عائلة كلها قساوسة ومبشرين للنصرانية , وكان يعمل عندهم سائقا .. أحد المسلمين , أى أنه رجل عامى ليس من أهل العلم إلا أنه كان مسلما حقا ,

    فأسلموا جميعا على يديه , وسبحان الله الهادى .. لينقلب حال يوسف استس إلى النقيض فيصبح من أشهر الدعاة إلى الإسلام وفرّغ قلبه للدعوة وحدها فانطلق فى بلاد آسيا وأوربا حاملا مشعل الإيمان ليسلم على يديه الآلاف ,

    وأجر هؤلاء جميعا ليس له وحده فقط , بل للسائق المسلم البسيط الذى تمكن فى مناقشات بسيطة من إدخال يوسف استس وعائلته إلى الإسلام !
    ومن هذا أيضا أن يقوم المرء بمحاولة هداية المسلم ــ إن لم يجد غير المسلم ــ إلى ترك البدعة , وما أكثر البدع فى حياتنا المعاصرة , ولا شك أن تبصير المسلم المعاصر بالتوحيد الخالص فى ظل الجهل العميم , هو من فرض العين على من يعلم ولو أقل العلم ..

    والمرء منا لو تسبب فى هداية رجل واحد سواء إلى الإسلام أو إلى السنة ــ إن كان مسلما على بدعة ــ , فإن هذا خير له من حمر النعم , كما نص الحديث وفى رواية خير له من الدنيا وما فيها ..

    والأدلة الصريحة على أن خيرية الأمة مشروطة بهذين الشرطين ما نقله لنا ابن كثير وغيره فى تفسيره قال :
    { يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم فقال ( كنتم خير أمة أخرجت للناس)
    قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف ، عن سفيان ، عن ميسرة ، عن أبي حازم ، عنأبي هريرة: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس) قال : خير الناس للناس ، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام .
    وهكذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ،وعطاء ،والربيع بن أنس ،وعطية العوفي( كنتم خير أمة أخرجت للناس) يعني : خير الناس للناس
    والمعنى : أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس ، ولهذا قال ( تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)
    قال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا شريك ، عن سماك ، عن عبد الله بن عميرة عن زوج درة بنت أبي لهب ، عندرة بنت أبي لهبقالت : قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ، فقال : يا رسول الله ، أي الناس خير ؟ فقال : " خير الناس أقرؤهم وأتقاهم لله ، وآمرهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر ، وأوصلهم للرحم } "[2]"

    وفى الحديث الصحيح :

    ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر , أو ليوشك الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم تدعون فلا يستجاب لكم )

    ولهذا فى هذا إجابة لمن يتساءل دوما , أنه يكثر من الدعاء فلا يُستجاب له !!

    وعن جرير رضي الله عنه مرفوعا ( ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع لم يغيروا عليه إلا أصابهم الله عز وجل بعذاب ) رواه أحمدوغيره

    وهذا الحديث من أصرح النصوص فى وصف حالنا اليوم , وكيف لا وقد أصبحت الدعارة فنا والكفر فكرا وفلسفة , والعدوان على ذات الله عز وجل إبداعا , وسب الأنبياء والصحابة اجتهاد فى الرأى !

    وتقصير أمة الإسلام اليوم فى الدعوة إلى الله أمر لا ينكره إلا الأعمى ,

    فلم يعد الأمر يقتصر على وجود غير المسلمين الذين لم يسمعوا قط بالإسلام أو أولئك الذين سمعوا به مشوها , بل امتد الأثر إلى ما هو أعظم فى بلاد الإسلام ذاتها , حيث يقبع فى القري والأنحاء القاصية من كل بلد فى بلادنا قرويين بسطاء لا يعرفون الفاتحة بل ولا يعرفون عدد ركعات كل صلاة !

    وهؤلاء وهؤلاء سواء الجهلة أو أولئك الذين لم يسمعوا بالإسلام أصلا , لا شك ولا ريب أن ذنبهم فى رقبة أهل القبلة جميعا ,

    ومن عجائب الأمور أن أهل الباطل يبذلون فى الدعوة إلى باطلهم جهدا جهيدا لا نبذل نحن عشر معشاره , ووفقا لما نقله الشيخ الدكتور عبد الرحمن السميط , أحد الدعاة العظام فى إفريقيا , أن حركة التنصير فى إفريقيا جمعت تبرعات تعادل 460 مليار دولار خلال عام 2009 فقط لبذلها فى نشر النصرانية وإغراء الأفارقة بالمال كى يدخلوا فى النصرانية ..

    ومعهم جنبا إلى جنب تبذل إيران أموالا لا تقل فداحة , وجهودا لا تقل عن هذا فى نشر التشيع والرفض فى نفس الوقت الذى تعج فيه بلاد السنة بأموال طائلة تفوق مجموع ما لدى الغرب من ثروات ويتم صرفها فى اللهو والملذات , ولا يقتصر الأمر فى ذلك على الحكومات فحسب , بل يمتد إلى الأفراد أيضا فكم من ملياردير دفع المبالغ الطائلة لقاء ساعة لهو واحدة فى ملاهى لندن ولاس فيجاس !

    وقد يسأل سائل هل فرض عين على كل مسلم بسيط أن يتكلف عنتا فى السفر إلى إفريقيا مثلا أو غيرها ليدعو إلى الله ؟!

    والجواب كلا بالطبع , فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها , ولكن الواجب على مسلم حتى يتخلص من وزر التقصير أن يبدأ بمن يعول , فيحصن أبناءه وزوجته ويجعل للدين نصيبا مفروضا من حياته بدلا من أن يجعله طقوسا خالية من الروح والخشية الواجبة لله تعالى , ثم يبدأ بعد ذلك بمحيط معارفه , وكلٌ فيمن يستطيع الوصول إليه يدل على الخير ويدعو إلى الفضائل وينصح فالدين النصيحة ..

    ومن لم يكن من أهل فليكفل طالب علم ويقوم على معاونته فله أجره كأجر العالم , تماما كمن جهز غازيا فى سبيل الله له مثل أجره ومن استخدم قدراته فى إنشاء البرامج والمواقع التى تخدم الدعوة فلا شك أنه أدى واجبه ما دام مخلصا فى ذلك لله , ومن لم يستطع فلينقل عن غيره من العلماء , العلوم النافعة فينشرها بشرط التثبت وحسن اختيار من ينقل عنه حتى لا يكون نقله وزرا عليه

    أما إن كان المسلم من أهل العلم وأهل الفكر وأهل القلم
    ..

    فهذا مصيبته أعظم إن اتخذ علمه لهوا وسمعة ورياء وطلب به الدنيا وهو أقصر الطرق إلى الآخرة , والله تعالى لم يجعل هذا الفضل الرهيب المترامى لأهل العلم هباء , بل جعله مشروطا أيضا أن يكون تعلم العلم ونشره لله وحده فإن كان رياء وسمعة وطلبا للرياسة والشهرة كان علمه حجة عليه يوم القيامة .. ,

    فكل من امتلك العلم عليه أن ينشر علمه بين الناس حتى لو لم يكن يمتلك إمكانيات نشره مطبوعا , فالله قد يسر للعالمين من وسائل النشر اليوم ما يجعل أمر النشر الإلكترونى سهلا ميسورا .. ومن يستخدمون الإنترنت اليوم أضعاف من يقرءون ,

    أى أن الله عز وجل يسر لنا ما لم يتح لغيرنا فى العصور السابقة من الوسائل التى تجعلنا نوصل كلمة الحق والدعوة بأبسط السبل ..

    الهوامش :
    [1]ــ تلبيس إبليس لابن الجوزى ــ طبعة دار ابن الهيثم
    [2]ــ تفسير سورة آل عمران ــ تفسير ابن كثير ـ طبعة دار
    الإيميل الجديد للتواصل
    gadelzoghaby@hotmail.com

  2. #2
    الصورة الرمزية محمد جاد الزغبي شاعر
    تاريخ التسجيل : Jan 2006
    العمر : 46
    المشاركات : 705
    المواضيع : 83
    الردود : 705
    المعدل اليومي : 0.11

    افتراضي


    ولا شك أن أول سؤال قد يتبادر للذهن ــ إذا اقتنع بهذا الكلام وأراد العمل ـــ هو كيفية البدء فى أداء الفريضة الغائبة , وأداء هذا الواجب الذى غفلنا عنه ,
    وإجابة هذا السؤال نستنبطها بسهولة ويسر من الحديث الصحيح الذى صححه الألبانى والذهبي وغيرهما :
    ( سؤل رسول الله صلي الله عليه وسلم .. أى الصدقة أفضل ..
    فقال عليه الصلاة والسلام : أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى ــ بمعنى ما كان زائدا عن حاجة أهل البيت ــ وابدء بمن تعول
    )

    وشاهدنا من هذا الحديث هو العبارة الخطيرة الأخيرة فى الحديث ( وابدء بمن تعول ) , فكثير من الناس يغفل عن أن كفاء أهل بيته وإكرامهم وصلتهم هى من أبر الصدقة وأفضلها عند الله عز وجل , بدلا من تركهم عالة يتكلفون الناس
    ولا شك أننا لو صرفنا هذه القاعدة إلى العلم لتكشفت أمامنا قضية خطيرة للغاية !

    أن هناك من العلماء الجهابذة الذين يغمر فضلهم أصقاع الأرض والناس , وفضل علمه غائبا عن أهل بيته , إما لانشغاله بتلاميذه وإما عن انشغاله بطلب العلم إلى الحد الذى أهمل فيه تنشئة أهل بيته , فتركهم نهبا لعصر الفتن , لا سيما لو وضعنا فى اعتبارنا أنه ليس من الضرورى أبدا أن يكون أبناء العالم من هواة طلب العلم , ولهذا رأينا أمثلة محزنة لعلماء كبار جاء من بعدهم خلوف أضاعوا ما كسب آباؤهم , والذنب هنا ليس على الأبناء وحدهم إلا إذا كان الأب قام بدوره كاملا فى تعليمهم ,

    ولهذا فإن دور الإنسان المسلم ــ لا سيما بعصرنا الحالى ــ تجاه أبنائه وأهله هو أوجب الواجب فى تلك الفريضة , فريضة الدعوة , وفريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ,
    ولن يكون هناك معنى أبدا لجهاد الرجل فى الدعوة بين الناس بينما هو تارك أبناءه على حالهم من جهل أو ضلال , فالقاعدة أن نبدء بمن نعول ..
    والعلم المطلوب والدعوة المطلوبة هنا ليست فقط هى تعليم الفرائض وحدها , بل الأمر يتعدى ذلك لأن أركان الإسلام الواجب تعليمها للأبناء هى ــ كما وصفها النبي عليه الصلاة والسلام ــ الأركان , بمعنى أنها أساس البناء لكنها بالطبع ليست البناء كله , ولا يوجد عاقل يضع أساسا لبيته ثم لا يكمل البناء حتى يصير منزلا مسكونا ..

    والبناء الإسلامى المطلوب هو المُثل العليا , لأن تعليم الأبناء وتعليم الناس سيرة المثل العليا وطريقهم المستقيم يوفر كثيرا من الجهد والوقت فى تعليم الفضائل , لأن تعليم السير الذاتية لجهابذة الفضيلة يكفي وحده لغرس الفضيلة فى نفوس المتعلمين بأفضل مما لو كنا غرسناها كل واحدة على حدة بتعليم نظرى دون مثال كتطبيق عملى ..

    ولما كان المُـثل العليا الوحيدة الكاملة فى أمتنا هى نموذج الصحابة رضوان الله عليهم ..
    ولما كنا مأمورين أمرا نبويا مباشرا باتباع الصحابة رضوان الله عليهم باعتبارهم خير القرون وخير البشر بعد الأنبياء والرسل عليهم السلام ,

    صار مما لا شك فيه أن تدارس وتدريس سيرهم الذاتية من أوجب الواجب فى الدعوة إلى الله .. خاصة لو أضفنا إلى هذا ما نعانيه فى عصرنا الحالى من الهجمات الحقودة على الصحابة الكرام , ومحاولة طمس هوية الأمة بالطعن فيهم فى ظل جهل عميم بحقيقة سيرتهم وحقيقة تاريخهم مع انتشار الشبهات والروايات المطعون فيها وفى صحتها عنهم رضي الله عنهم ..

    ولا شك أن السبب فى انتشار تلك الروايات المغرضة يرجع إلى جهل بعض كـُـتابنا بعلم الحديث والنقل ــ مع الأسف الشديد ــ فقاموا بحسن نية بنقل الروايات عبر كتب التاريخ القديمة ومصادره الأصلية دون تدبر أو وعى أو علم بطرق النقل وكيفيته , وكيفية التمييز بين الرواة الثقات العدول وغيرهم , واعتبروا أن مجرد ورود هذه الروايات فى كتب التاريخ كافيا للتصديق والتسليم بها , وقد وقع فى هذا الفخ عشرات المؤرخين المعاصرين دون أن ينتبهوا لحقيقة ساطعة أن أصحاب وعلماء التاريخ قديما كانوا جميعا من أهل العلم بالحديث وكتبوا كتبهم بأسلوب علماء الحديث أى بالإسناد المتصل مثل تاريخ الطبري وتاريخ يعقوب بن سفيان الفسوى وتاريخ المدينة لابن شبة وتاريخ خليفة بن خياط , أو بطريقة نقد المتون مثل البداية والنهاية لابن كثير ,

    والصنف الأول من العلماء جعلوا الحكم على الروايات صحة وضعفا لمن يأتى بعدهم من النقاد ولم يلزموا أنفسهم بذكر الروايات الصحيحة وحدها وأخلوا ذمتهم فى ذكر جميع الروايات عن طريق ذكر أسانيدها .. ولهذا كان ينبغي للمؤرخين المعاصرين إدراك ذلك والاشتغال بعلم الحديث وعرض الروايات على الإسناد للإنتقاء من الكتب ما يصح وما لا يصح "[1]"

    هذا بالإضافة إلى الأمية الكاملة التى تضرب بجذورها فى أعماق المسلمين فلا يكادون يعرفون من الصحابة إلا الخلفاء الأربعة !
    فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام أمرنا بصريح الحديث أن نهتدى ونقتدى بآثاره وسنته وسنة خلفائه وصحابته , فكيف السبيل إلى هذا ونحن نجهل أسماءهم أصلا !

    أما خطة البحث فى هذا الكتاب إن شاء الله , فهى كالتالى :
    أولا : سنبدأ فى إلقاء الضوء على علم الحديث , وهو العلم المختص بالنقل والرواية ونقد المرويات , وشرح كيفية براعة المسلمين وفضلهم فى ابتكار هذا العلم الشريف الذى تفردت به الأمة الإسلامية عن سائر الأمم التى من قبلها , وتمكنت بفضل هذا العلم الدقيق , أن تحفظ شريعة الإسلام قرآنا وسنة وعلما عن طريق النقل المتواتر جيلا بعد جيل , وكيف أن هذا العلم الرهيب الذى أبهر المستشرقين رغم حقدهم الظاهر حتى قال جولدسيهر المستشرق اليهودى متغيظا ( ليهنأ المسلمون بعلم حديثهم )
    لأنهم ما استطاعوا النفاذ بالشبهات إلى علوم الشريعة مع وجود علم الحديث المختص بتنقية النقل فضلا على نقد المتون وتوفيق تعارضها
    هذا العلم غفل عنه المعاصرون ولم يعطوه حقه فتردوا فى مهاوى الضلال , لأن الفاقد لأبجديات علم الحديث ــ إذا كان من المتصدين لعلم الشريعة أو التاريخ ـــ لا شك أنه سيقع فى الضلال المبين حيث أن هذا العلم الشريف هو الوسيلة الوحيدة لتميز الصحيح من الضعيف فى روايات الحديث ومرويات التاريخ أيضا ..

    ثانيا : سنلقي الضوء باختصار غير مخل على قيمة وقدر ومقدار الصحابة , وما هى عقيدة المسلم الواجبة تجاه هذا الجيل العملاق الذى حمل الرسالة إلى أصقاع الأرض ,
    ثم نلقي الضوء على أهم الشبهات التى تناولوا بها سيرة الصحابة رضي الله عنهم , وحاولوا الطعن فى مكانتهم باستخدام روايات التاريخ الضعيفة فى أحداث الفتنة الكبري التى عصفت بالأمة الإسلامية عقب استشهاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه , وسنبين بالمصادر الموثقة حقيقة هذه الفتنة وما جرى فيها ونبين أيضا الروايات الكاذبة التى نالت من شرف الصحابة بفعل المغرضين من الرواة المبتدعة ..
    وسبب التركيز على شرح حقيقة أحداث الفتنة الكبري أن شرحها فى بداية الكتاب سيوفر علينا مشقة التعرض بالتصحيح لأحداث التاريخ فى أثناء معالجة تعبيرات الصحابة ومواقفهم رضي الله عنهم , ولأننا سنحتاج إلى روايات الفتنة الكبري الصحيحة فى معرض شرح هذه المواقف , فكان لزاما التعرض لها فى البداية قبل الشروع فى الموضوع الأصلي للكتاب

    ثالثا : سنبدأ بعد ذلك بإذن الله فى عرض التعبيرات المأثورة عن الصحابة الذين سنختارهم ومعها سنعرض مواقفهم المصاحبة لهذه الأقوال ..

    وفى هذا الكتاب لن نتناول سيرة الصحابة على نحو ما هو معهود فى السيّر , وإنما سنكتفي بأن نختار من أقوالهم ومواقفهم المأثورة سبيلا لإحياء فضائلهم ومآثرهم فى قلوبنا ومحاولة التدبر فى تلك الأقوال وهاتيك المواقف لنستخلص العبرة والعظة منها , عسي أن نستطيع أن ندفع عنهم وندفع بهم إلى قلوب الناشئة ليخرجوا متحصنين بسيرتهم الصحيحة عما افتراه الظالمون .. فلا يؤثر فيهم ما أثر فينا

    وسيكون الطريق إلى ذلك مأخوذا من السيرة النبوية الصحيحة وحدها إن شاء الله وكذلك موثوق الروايات التاريخية وحدها ,
    وسنبدأ بالنبي عليه الصلاة والسلام .. فنعرض لبعض أبرز مواقفه ..
    ثم بالعشرة المبشرين بالجنة , سادة الصحابة رضي الله عنهم , ثم نتبعهم ببعض مواقف أهل بدر ثم أهل بيعة الرضوان , ثم بقية المشاهد ..
    ذلك أن التفاضل بين الصحابة كان على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم يجرى على هذا المنوال وفقا لقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
    ( كنا نفضل الناس على عهد النبي عليه الصلاة والسلام بأبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علىّ ثم سائر العشرة ثم سائر أهل بدر ثم أهل بيعة الرضوان ثم أهل أحد والخندق ثم بقية المشاهد , ثم نترك أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم ) "[2]"

    وهذه المستويات من التفضيل هى عقيدة أهل السنة والجماعة "[3]" منذ ذلك الحين وهى التى عليها معقد الإجماع , ولم يشذ عنها إلا أهل البدع .. عافانا الله منها ومن أهلها

    والله الموفق والمستعان

    الهوامش :
    [1] ــ روايات الكذابين فى التاريخ الإسلامى ــ د. خالد كبير علال ــ بحث منشور بموقعه على الإنترنت
    [2]ــ رواه السيوطى فى تاريخ الخلفاء
    انظر التعليق رقم14 https://www.rabitat-alwaha.net/molta...3&postcount=14
    [3]ــ راجع شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي بتحقيق العلامة الألبانى
    التعديل الأخير تم بواسطة عبد الرحيم بيوم ; 21-10-2012 الساعة 10:06 PM

  3. #3
    الصورة الرمزية محمد جاد الزغبي شاعر
    تاريخ التسجيل : Jan 2006
    العمر : 46
    المشاركات : 705
    المواضيع : 83
    الردود : 705
    المعدل اليومي : 0.11

    افتراضي



    (1)
    معجزة علم الحديث
    ( أعظم عملية مخابرات فى تاريخ الإسلام )

    من المعروف بالطبع أن مجال المخابرات ـــ بسبب السينما والقصص ـــ لحقه تشويه رهيب تسبب فى أن نظرة العامة للمخابرات ورجالها نظرة بالغة السطحية وفيها من إنكار فضل هذه الأجهزة الشيئ الكثير ,
    فى الوقت الذى تمثل أجهزة المخابرات بالنسبة لكل دول العالم تقريبا درعا لا يُستغنى عنه ومجرد الخلل فيه يهدد الأمن القومى للبلاد بشكل يتفوق على سائر أنواع التهديد حتى التهديدات العسكرية ,
    يعود ذلك إلى أن أجهزة المخابرات هى العقل الإستراتيجى المفكر للإجراء السياسي بكافة أنواعه , وهى وإن كانت هيئة غير سياسية إلا أنها هيئة تتحكم فى القرار السياسي عن طريق تقديم سبل اتخاذ القرار ونتائجه وتترك الخيار للقيادة السياسية
    وسبب الظلم والسطحية التى تتعرض لها أجهزة المخابرات يتمثل فى سببين :
    الأول : طبيعة عمل المخابرات الذى يكون النجاح فيه قرين الكتمان التام ولا يكون الإعلان قرينا إلا للفشل

    الثانى : ما سبق بيانه من أن السينما والأقلام القصصية أعطت انطباعا للعامة بل ولبعض الخاصة أن عمل المخابرات عبارة عن رصاص يتناثر , وطائرات تصطدم فى جو إثارة يمكن تصوره فى الحبكة الدرامية , لكنه ليس كذلك فى واقع المخابرات

    فعمل المخابرات فى الأصل هو عمل هادئ بعيد عن سائر أنواع العنف وعندما يلجأ للعنف ـــ لطبيعة بعض العمليات ـــ فإن هذا العنف يتم تضييقه إلى أقصي الحدود
    ويتبقي العقل المفكر والمحلل والمعلومات الدقيقة هى صلب مجال المخابرات , الذى يُخرج منها للقيادات السياسية نتائج مذهلة قد تغير مسار شعوب بأكملها , أو تقلب ميزان القوى فى العالم كما حدث فى الحرب العالمية الثانية التى شهدت من الضحايا ما يفوق ستين مليون شخص ومع ذلك كان الفيصل فى النتيجة النهائية لعمل العقول الذى سقطت فيه المخابرات الألمانية أمام المخابرات السوفيتية والبريطانية , وتغير مسار الحرب ضد الألمان والمحور رغم فارق القوة المذهل بين الحلفاء والمحور لصالح المحور ,
    فألمانيا أسقطت أوربا بأكملها وحصرت بريطانيا داخل حدودها واستعدت لغزوها , كما ألهبت اليابان ظهر الإتحاد السوفيتى وأسقطت مستعمراته , بالإضافة إلى أن ألمانيا سبقت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى السلاح النووى وكان سباق التسلح لصالح الألمان بفارق خطوتين كاملتين ..
    ومع ذلك وعن طريق عدة عمليات مخابراتية رئيسية للإنجليز والسوفيات تمكن الحلفاء من تغيير نتيجة الحرب لصالحهم فى غضون شهور تعد على الأصابع , وكان أخطر هذه العمليات :

    * عملية تجسس بريطانية ما زالت تفاصيلها غائبة حتى اليوم , تمكنت فيها بريطانيا من إقناع هتلر ببدء عملية بارباروسا أو ذى اللحية الحمراء لغزو الإتحاد السوفياتى رغم أن هذا الأخير عقد اتفاقية عدم إعتداء وفرت لهتلر التحرك بحرية تجاه بريطانيا , ولم يقتصر الأمر عند هذا فقط بل ورطت المخابرات البريطانية هتلر وعن طريق نفس الجاسوس المجهول بأن يوقف القتال فجأة وهو على بعد أربعين كيلومتر من موسكو مما كان له الفضل فى نهاية عملية غزو السوفيات بعد أن دخل فصل الشتاء وتكفل الجليد السوفياتى بتدمير الجيش الألمانى ماديا ومعنويا
    فى نفس الوقت وعن طريق عملية مخابرات لا تقل كفاءة أوهمت المخابرات البريطانية هتلر أنها لغمت شواطئها بغاز النابالم الحارق عبر براميل منتشرة بطول الشاطئ تحيله إلى جحيم لو حاولت البحرية الألمانية مهاجمة الشواطئ البريطانية "[1]"

    وارتعد هتلر للفكرة وعدل عن مهاجمة الشواطئ البريطانية رغم أنها كانت مجرد خدعة متقنة فلم تتمكن بريطانيا من تنفيذها لاتساع شواطئها وإستحالة توفير الطاقة المطلوبة لذلك ,

    * بعملية مخابرات أخرى متقنة وبأوامر شخصية من وينستون تشرشل رئيس حكومة الحرب قامت المخابرات البريطانية بتسريب معلومات غير صحيحة للمخابرات اليابانية عن نية الأمريكان الهجوم على اليابان فقامت اليابان وبمنتهى الحماقة بمهاجمة أسطول الولايات المتحدة فى بيرل هاربر كضربة وقائية كان من نتيجتها إعلان دخول أمريكا للحرب وهو الهدف البريطانى الذى عجز تشرشل عن تحقيقه دبلوماسيا فنفذه مخابرتيا بامتياز

    * كان درة عمليات المخابرات البريطانية ما قامت به إحدى أشهر وحداتها من الإستيلاء على الأرشيف البحري الألمانى بالكامل وبالتزامن مع هذه العملية تمكنت من ضرب مصنع الماء الثقيل الذى يعد مكونا رئيسيا من مكونات القنبلة الذرية ثم أتبعت عمليتها بنسف القطار الذى تم تعبئة الماء الثقيل فيه لمنع وصوله , وبهذا تأخر الألمان عدة خطوات فى سباق التسلح الذرى بعد أن كانوا على وشك تنفيذ القنبلة

    * قامت المخابرات السوفياتية بتجنيد ريتشارد سورج أشهر الجواسيس فى العالم "[2]" والملقب بالأستاذ والذى تمكنت شبكته من تغيير مسار الحرب اليابانية السوفيتية بمعلومة عدم وجود نية لليابان فى مهاجمة الحدود السوفياتية ليطمئن السوفيات فيقومون بنقل نصف مليون جندى من الجبهة اليابانية لمواجهة الألمان على الجبهة الأوربية

    وهكذا نكتشف أثر وخطورة ما تفعله المعلومات التى تجمعها أجهزة المخابرات وتضمها لبعضها البعض ثم تدخل مرحلة التحليل ثم أخيرا مرحلة القرار الذى غالبا ما يكون شديد التأثير على مصير الأوطان فى السلم أو الحرب "[3]"

    ويمكننا تلخيص نقاط عمل أجهزة المخابرات فى النقاط التالية
    :

    * أنها عمل يعتمد فى المقام الأول على جمع المعلومات أيا كان نوعها ومهما كانت تافهة أو تبدو بسيطة غير مؤثرة , فكل معلومة مهما كانت بساطتها هى معلومة بالغة الأهمية عندما يتم توظيفها فى مكانها الصحيح ,

    * تأتى بعد ذلك مرحلة فحص المعلومات القادمة من سائر المصادر الداخلية والخارجية لمراجعتها والكشف عن صحتها وتصنيفها بواسطة أقسام مختلفة فى أجهزة المخابرات

    * بعدها تأتى مرحلة التجميع والتنسيق بين مختلف المعلومات وضمها إلى بعضها البعض للخروج بنتيجة أو معلومة جديدة يصل إليها رجال المخابرات بالتحليل العقلي للمعلومات وفقا قواعد معروفة وتبدو الحقائق التى تتوصل إليها الأجهزة كأنها ضربٌ من التنبؤ الخارق

    ولهذا السبب فإن معيار التميز الذى يميز جهاز مخابرات عن آخر هو الرجال , وظل هذا العامل قائما بالرغم من التقدم التكنولوجى الساحق الذى ساد عالم اليوم , وهو عامل مساعد نعم , لكن العامل الرئيسي براعة وحسن تدريب العنصر البشري وسرعة تفاعله مع العمليات وفق ظروفها , وقد رأينا ما فعلته المخابرات المصرية ونجحت فيه ببراعة كاملة فى خداع أقوى ثلاثة أجهزة مخابرات فى العالم , الأمريكية والإسرائيلية والسوفياتية عندما حققت مفاجأة حرب أكتوبر كاملة رغم وجود تقدم تكنولوجى هائل بين وسائل جهاز المخابرات المصري والوسائل التقنية الممنوحة من المخابرات المركزية لإسرائيل وأخطرها خدمة مراقبة القمر الصناعى للحشود وتحركات وحدات القتال , وهى حركة كان حتميا أن تظهر للقمر الصناعى الأمريكى قبل بدء الحرب مما يقلب ميزان المعركة لصالح إسرائيل , فما كان من المخابرات المصرية إلا أن قامت بالحصول على مسار القمر الصناعى الأمريكى وتحديد ساعات وجوده فوق الجبهة وتم إصدار الأوامر لوحدات النقل بإتباع خط سير مدروس بعناية علمية عن طريق خبراء الرصد , بحيث لا تتحرك الوحدات إلا فى فترات غياب القمر !

    وهناك قسم يعد هو أخطر أقسام المخابرات الذى يقوم بفحص وتمحيص المعلومات , فليس معنى وجود جاسوس أو عميل لجهاز معين فى بلد أخرى يقوم بإرسال المعلومات فيقبلها جهاز مخابراته على علاتها , بل إنها تخضع لغربلة وفحص شديد الدقة والأساس فى تلك العملية أن كل معلومة مفترض فيها الخطأ وكل عميل يُـفترض فيه الشك أو خطأ التقدير

    وقد رأينا ما فعلته معلومة واحدة مدسوسة من المخابرات البريطانية على المخابرات اليابانية أدت إلى اتخاذها قرار نسف بيرل هاربر على نحو أدى فيما بعد لضرب لهيروشيما ونجازاكى كرد فعل انتقامى من الولايات المتحدة لضحايا فى بيرل هاربر

    وعمل المخابرات بهذا التعريف معناه فحص المعلومات واستبعاد المدسوس والخاطئ منها وانتقاء الصحيح فقط , هو عمل يمكننا أن نقول بإطمئنان أن الحضارة الإسلامية سبقت إليه أجهزة المخابرات الحديثة بعشر قرون على الأقل , وفى عصر كانت وسيلة التنقل فيه هى قوافل الجمال ووسيلة التواصل هى الرسائل التى تظل شهورا قبل وصولها ووسائل الإتصال فيه معدومة تقريبا , وفوق كل هذا كان العصر عصر صدق وحسن نية يصعب أن يوجد فيه من يتخذ الشك كقاعدة والثقة هو الإستثناء وهى قاعدة أساسية كما رأينا فى مجال المخابرات

    الهوامش:

    [1]ــ استلهمت إسرائيل هذه الفكرة الجهنمية ونفذتها بالفعل أمام شواطئ قناة السويس لمنع أى محاولة للقوات المصرية للعبور , وقامت المخابرات المصرية بالحصول على عينة من سائل النابالم لدراستها وبعدها وبعملية معقدة تمكنت من الحصول على خرائط توزيع أنابيب النابالم من مكتب موشي ديان شخصيا ودون أن ينكشف أمر حصول المصريين عليها وقامت وحدة من الصاعقة المصرية فجر يوم المعركة بتعطيل تلك الأنابيب بربط الخراطيم المنفذة للسائل وسدت أفواه الخراطيم فى نفس الوقت بمادة لاصقة , وعندما حاول الإسرائيليون إستخدامها عند العبور كانت صدمتهم مذهلة
    [2] ــ تم كشف شبكة ريتشارد سورج فى اليابان وحوكم وأعدم ولا زالت مراجع المخابرات فى سائر أنحاء العالم تمنحه مقعد أبرع الجواسيس جنبا إلى جنب مع عميل المخابرات المصرية رفعت الجمال الذى يتفوق على سورج فى أنه مارس عمله طيلة ربع قرن ولم يكتشف أمره قط , وهذه حالة لم تتكرر إلى اليوم
    [3]ــ بسبب معلومة وصلت للمخابرات الأمريكية عن وجود أزمة قمح فى مصر فى الخمسينيات تمكنت الولايات المتحدة من إستغلالها لتهديد مصر بوقف تزويدها بالقمح كورقة ضغط تمنعها من بناء السد العالى , وتم اكتشاف مصدر المعلومة ومحاكمته
    { لمزيد من التفاصيل راجع ـ القضية رقم 1 ـ مخابرات عامة , عبد الله إمام }

  4. #4
    الصورة الرمزية محمد جاد الزغبي شاعر
    تاريخ التسجيل : Jan 2006
    العمر : 46
    المشاركات : 705
    المواضيع : 83
    الردود : 705
    المعدل اليومي : 0.11

    افتراضي


    عملية فحص وتمحيص السنة النبوية

    أكثر ما يستفز المرء فى هذه الأيام , ما يتردد بين الفينة والأخرى من نظريات وأفكار يحملها بعض الجهلة ليطعنوا فيها على صحة بعض الأحاديث الثابتة فى السنة النبوية بمبررات مختلفة , فتارة يكون الطعن بعدم اتفاق الحديث مع العقل , وتارة أخرى لتضاد الحديث مع القرآن أو مع حديث آخر ثابت ..
    وداعى الإستفزاز هنا هو الشعور الطبيعى بمدى حماقة الطاعنين إزاء إقرار صحة تلك الأحاديث الذى أتى من علماء ورجال الحديث السابقين بعد جهد يفوق طاقة البشر ووفق قواعد يعجز عنها علماء العصر الحالى رغم توافر التطور التقنى والتقدم التكنولوجى ,
    فعلماء السلف الذين تكفلوا بتحقيق الحديث وبيانه , لم يتركوا شاردة ولا واردة تخطر ببال إنس أو جن إلا ووضعوها بأذهانهم وهم يمارسون عملهم وهى قدرة عقلية مذهلة على افتراض الإحتمالات لم نرها إلا بعصرنا الحالى مع تقدم الحضارة البشرية ونشأة مجال المخابرات التى تقوم على معالجة القضايا الوطنية من أكبر إحتمال لأصغر رد فعل ولا تترك شيئا للظروف

    وإزاء هذا الجهد الخرافي يستشعر المرء الكمد عندما ىتصدى بعض المدعين فيهدموا فى لحظة واحدة كل هذا النتاج الفائق
    ولنعرض لمراحل تحقيق السنة بشكل مبسط عارضين جهد علماء الحديث { المحدثون } وطريقة تحقيقهم وتحريهم لصحة الحديث أو بيان حالته لنعرف أقل ما ينبغي معرفته من فضل هؤلاء العمالقة الذين أقر بفضلهم وبراعتهم الأمم المخالفة للإسلام من فرط الإنبهار "[1]"

    بداية الإنتباه لضرورة تنقية السنة


    الإسلام يقوم فى بنائه الأساسي على القرآن والسنة ومنذ بزوع فجر الدعوة الإسلامية وهى تتعرض للأعداء الذين تتنوع سبل عداءاتهم وتزداد كلما تقدم الإسلام بدعوته خطوة ,
    فبداية وقف كفار قريش بالمرصاد للدعوة وحاربوها بشتى السبل , وعندما نجحت الدعوة فى الإنتقال الجوهرى للمدينة المنورة ظهر فى المدينة عداء اليهود والمنافقين , ثم خطا الإسلام خطوته الأخيرة لاكتمال التشريع بفتح مكة ودانت جزيرة العرب عقب طرد اليهود من المدينة وإخراج المشركين من جزيرة العرب

    وعندما انتقل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى , ظهر العدو الثالث وهم بقية قبائل الشرك التى أرادت إستغلال وفاة الرسول عليه السلام لهدم الدولة الناشئة ثم توسعت الدولة الإسلامية فأسقطت الإمبراطورية الفارسية والرومية معا فظهر منهما العدو الخامس والسادس من أبناء تلك الإمبراطوريات التى رأت دولتها تنهدم على يد القبائل الوافدة بدين جديد ,

    ثم ظهرت الفتن وأصحاب الأهواء والطامعين ليظهر العدو السابع والثامن .. وهلم جرا ,
    وكانت مواجهة الإسلام لتلك العداوات على وجهين , وجه القوة المسلحة والذى نجح فى إسقاط سائر الدول المناهضة ورد سائر الغزوات التى استهدفت الإسلام حتى اكتملت الإمبراطورية الإسلامية على رقعة هائلة من الأرض أيام الدولة الأموية الباذخة فحكم الوليد بن عبد الملك دولة تمتد من الصين شرقا حتى الأندلس غربا , وكان موسي بن نصير على وشك أن يواصل إتمام ما فتحه طارق بن زياد فيفتح سائر بلاد أوربا حتى بلاد الترك ثم يعود لمقر عاصمة الخلافة الأموية دمشق من الناحية الأخرى ليصبح البحر المتوسط بحرا عربيا خالصا ,
    لولا عدة أسباب سياسية جعلت الوليد بن عبد الملك ثم خليفته سليمان يعدلان عن ذلك "[2]"
    وعندما اتضح لمختلف أصحاب العدوات محاربة الإسلام بالقوة المسلحة , حتى بعد الضعف الذى اعتري الخلافة العباسية فى العصر العباسي الثانى , لجئوا إلى ابتكار هدم الدين ذاته من داخله لأن العقيدة السليمة هى التى وقفت خلف هذه الإنجازات التى ما تحققت لدولة على مدار التاريخ الإنسانى قط إلا للدولة الإسلامية "[3]"
    وبدأت حرب هدم الدين من داخله مبكرا جدا ولم يكن مضي على وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أقل من أربعين عاما عندما تدخلت اليهود برجلهم عبد الله بن سبأ لابتكار فتنة التشيع والقول بالرجعة والبداء " [4] " وما إلى ذلك من العقائد الباطلة التى لم ينتبه إليها المسلمون إلا بعد أن أتت ثمرتها بالفعل
    وكان أخطر ما لجأت إليه مختلف الفرق التى تبطن الكفر وتظهر الإيمان , هو وضع وتلفيق أحاديث منسوبة للرسول عليه الصلاة والسلام , بعد أن عجزوا تماما عن التشكيك بالقرآن الكريم المروى بالتواتر والثابت بمصحف واحد اجتمع عليه المسلمون فى عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه

    فكان الطريق مفتوحا أمامهم لرواية الأحاديث المكذوبة المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام لتحقيق ذات الغرض وهدم أركان الشريعة الصحيحة , ويكفي لإدراك مدى خطورة هذا الأمر أن نعرف وضع السنة فى التشريع , وهو وضع مؤسس للشريعة يأتى بعد القرآن الكريم مباشرة كمصدر مفسر له بالإضافة إلى كون السنة مصدرا مستقلا مشرعا فى الأحكام التى لم يتناولها القرآن مفصلة
    ولم تكن كارثة تزييف الأحاديث فى بدايتها مؤامرة منسوجة ومنتظمة وإما بدأت بشكل محدود انتبه إليه التابعون فى حياة بعض الصحابة , عقب تفجر الفتن فقرر الأئمة ضرورة التيقن من رواة الأحاديث جميعا قبل اعتمادها صحيحة , وجاء فى مقدمة صحيح مسلم "[5]" أن الإمام بن سيرين قال { لم يكونوا يسألون عن الإسناد , فلما ظهرت الفتن قالوا سموا لنا رجالكم }

    وكانت هذه الخطوة هى الخطوة الأولى للتيقن من صحة الحديث "[6]"

    ثم تعددت الجهات التى تزيف الأحاديث وانتشرت كالنار فى الهشيم وتنوعت بين دس خارجى من اليهود والفرس , وبين دس داخلى من أصحاب المصالح والحكم , وكل منهم يضع الحديث يؤيد به فرقته أو طائفته , ولأن الصحابة رضوان الله عليهم انتقلوا بين مختلف الأقطار فقد تعددت منقولات الحديث فى شتى أنحاء البلاد الإسلامية من اليمن للشام ومن خراسان للشمال الإفريقي , فاختلط الصحيح بالزائف وأصبح الأمر كجبل يجثم على صدور العلماء والفقهاء إزاء مناخ شاسع الإتساع يبدو مجرد التفكير فى تنقيته ضربٌ من ضروب الوهم والمستحيل , لا سيما مع ظروف العصر التى تجعل العالم المحقق ربما يقضي بضع سنوات راحلا بين أنحاء الخلافة ليتيقن من صحة حديث واحد !

    لكن من قال إن هذا الطراز من الرجال فى ذلك العصر الذهبي كان يعرف المستحيل ,
    ففور ظهور أبعاد الأزمة اجتمعت كلمة الأمة حكاما ومحكومين مع المحدثين فى سائر الأقطار ووضع كل منهم لبنة فى علم جديد مبتكر غير مسبوق إسمه علم الحديث وأخذوا فى وضع تصانيفه وأسسه وقواعده التى ساروا عليها فتحولت مع الوقت وجهد العلماء طبقة وراء طبقة إلى علوم متعددة للعلم الأم وهو علم الحديث واختص كل جماعة منهم بفرع أشبه بالأقسام الحديثة لأجهزة المخابرات ,

    فقسم يختص بالتحرى الشديد عن صفات وترجمة كل راوى أو ناقل للحديث ويضع آراء معاصريه فيه وهل هو ثقة يؤخذ حديثه أم لا وفق قواعد علم الجرح والتعديل الذى برز فيه وتألق يحيي بن معين والذهبي والرازى وبن عساكر والحافظ المزى والبخارى ,
    وقسم ثان اهتم بمصطلح الحديث حيث تناول فيه المحدثون شرح مدلولات الألفاظ فى رواية الحديث بمنتهى الدقة تحريا لعدم الخلط وأول من صنف فى هذا المجال القاضي أبو محمد الرامهرمزى فى كتابه { المحدث الفاصل بين الراوى والواعى }
    وقسم آخر اهتم بتصنيف الحديث نفسه وأفرد لذلك كتبا مستقلة تحوى الصحيح الثابت فقط من سنة النبي عليه الصلاة والسلام , وهى كتب نشأت بجهد المحدث عن طريق تحريه شخصيا للحديث المروى والتيقن من عدالة وأمانة كل راوى فى سلسلة السند "[7]" ومن هذه الكتب المرجعية صحيح البخارى وصحيح مسلم وصحيح بن حبان وصحيح بن خزيمة ..
    ولم يكتف علماء الحديث بأن يصنف عالم الحديث الحافظ كتابه فى الصحيح , ثم يعتمدون كتابه هذا بلا تدبر , بل العكس هو الصحيح ,

    فرغم جلالة مقام البخارى ومسلم وغيرهم إلا أن علماء الحديث المعاصرون لهم ومن تلاهم تتبعوا كل حديث أورده أصحاب الصحاح وتأكدوا من صحته ولهذا جاء اعتماد علماء الأمة للصحيحين لا غبار فيه , بينما لم يعتمد علماء السنة صحيحى بن حبان وبن خزيمة لأنهم حققوا الكتابين فوجدوا فيهما الأحاديث الضعيفة وغير الثابتة مما يعنى عدم استطاعة بن حبان وبن خزيمة أن يقيما شرطهما بتحرى الصحيح وحده , وبالتالى نزلت مرتبة الكتابين إلى ما دون مرتبة كتابي البخارى ومسلم

    فضلا على الكتب الأخرى التى تناولت الحديث بأشكال معالجة مختلفة كالمسانيد وهى أن تسند الأحاديث إلى الصحابي الذى رواها فيفرد العالم فى مسنده الصحابة على شكل أبواب وفى كل باب يسجل أحاديث كل صحابي مع ذكر السند
    وعلة ذكر السند أن يترك لمن بعده طريقة التحرى عنها بمصادر أخرى , وأول المسانيد كان مسند مسدد بن مسرهد , وأشهر المسانيد هى مسند الإمام أحمد بن حنبل ,

    وقسم آخر اهتم بتصنيف الأحاديث على أبواب الفقه ككتب السنن
    وقسم ثالث جعل همه البحث خلف وضع القواعد التى تعالج أى تناقض أو غرابة تشوب الأحاديث النبوية , لشرحها وبيانها فتفرع من هذا القسم علم غريب الحديث وعلم مختلف الحديث وعلم الناسخ والمنسوخ فى الحديث , وأشهر من تصدى لمختلف الحديث كان الإمام بن قتيبة فى كتابه تأويل مختلف الحديث الذى اهتم بمحو التناقض الظاهرى بين دلالات الأحاديث النبوية , وأشهر من صنف فى غريب الحديث هو الإمام بن الأثير , بكتابه الشهير النهاية فى غريب الحديث والأثر , وكان الإمام الشافعى هو أول من أسس وبين أصول الفقه كما بين أصول الحديث وبيان الناسخ والمنسوخ فيه [8]"

    فوضعوا للتنسيق بين الأحاديث المتعارضة مائة وواحد وجه للتوفيق بينها , ولم يقتصر الأمر على ذلك , بل إنهم قرنوه بمعالجة كل تناقض تمت إثارته وحتى التناقضات التى لم تظهر قاموا هم بابتكار ما قد يظهر من تناقضات وضعوا لها الحلول !

    وقسم آخر اهتم بالأحاديث الموضوعة الشهيرة حيث تفانى بعض المحدثين فى تصنيف الكتب المحتوية على أشهر الأحاديث الموضوعة والمكذوبة ليقطعوا الطريق على انتشارها وأشهرها اللائئ المصنوعة لابن الجوزى

    بالإضافة لعشرات الفروع الأخرى التى تأسست بمرور الزمن ,
    وكل جيل من العلماء يضيف لمن سبقه ضابطا آخر يزيد من دقة التحرى فى الحديث ويشدد فى قبول الصحيح ورد الضعيف , حتى انقشع غبار الأزمة نهائيا وجاء العصر الحديث حاملا معه آثار جهد عملاق قلّ أن تجده مثيله فى إصراره , فشربت الأجيال الجديدة السنة النبوية صحيحة لا تشوبها شائبة من لغط أو غلط ,

    بعكس الحضارة الغربية التى فشلت فى الحفاظ على تراثها الدينى والتاريخى فورثته مشوها ومنوعا ليس فيه كتاب واحد صحيح , بينما الحضارة الإسلامية قرآنا وسنة وتاريخا ليس فيها رواية واحدة ـ لا أقول كتابا كاملا ـ بل رواية واحدة ضعيفة أو موضوعة لم يتصد لها عالم أو أكثر بالبيان والتحقيق , وحفل تاريخ السلف بعشرات الإختلافات والمناقشات بين العلماء فى مختلف العصور على صحة رواية أو بطلانها ولم تنته المناقشات إلا بالوصول إلى القول الثابت فيها

    شواهد الدقة المذهلة فى تحقيق السنة

    أورد هنا بعض شواهد الدقة فى التحقيق لبيان مدى الجهد والمعاناة التى تكبدها السابقون والتى لا زلت أصر على أنها جهد مستحيل حتى لو تم بعصرنا الحالى الذاخر بوسائل الإتصال العالمية ,
    ففي العصر الحديث وفى وجود أدوات الإتصال مسموعة ومرئية ووجود شبكة الإنترنت التى ربطت العالم من سائر أطرافه , لو أننا كلفنا باحثا للقيام بمهمة بحثية تخص موضوعا واحدا ـــ كما يحدث فى الرسائل العلمية لدرجة الماجستير والدكتوراه ـــ ووفرنا له سبل المعاونة الموجودة فإنه يستغرق فترة لا تقل عن أربع سنوات ليصل لنتيجة البحث ويقدمه كاملا , وغالبا ما يكون البحث رغم الجهد قاصرا بموضع معين تبينه مناقشة الرسالة , وهناك بعض البحوث النظرية فى كليات الحقوق استغرق فيها الباحثون ست عشرة سنة كاملة ليتقدموا ببحوثهم العلمية

    وهناك من أمضي عمره كله تقريبا فى البحث بالمراجع ليتمكن من إخراج كتاب واحد , مثال ذلك المؤرخ المعروف محمد عبد الله عنان الذى قضي قرابة أربعين عاما ليتم مؤلفه الجامع عن الأندلس { دولة الإسلام فى الأندلس }

    وفى الجانب الآخر قد يستغرق جهاز المخابرات قرابة ست أو سبع سنوات ليؤكد معلومة واحدة أو ينفيها , وهناك بعض التحريات التى تتم للمرشحين للمناصب الحساسة تستغرق فترة من ستة أشهر لثلاثة أعوام لاتخاذ قرار نهائي بصلاحية هذا المرشح من عدمه ,

    كل هذا الوقت فى ظل خدمات التكنولوجيا ودعم العلم التقنى الخادم لتلك الأغراض
    فلنا أن نتخيل كيف قام علماء السنة فى العصور الإسلامية الأولى بتأليف كتبهم ووضع القواعد الموثقة لعلم الحديث , لا سيما فى الفرع المسمى { علم الجرح والتعديل } والذى كانت مهمة العالم فيه أن يقوم بالتحرى الدقيق عن كل محدث أو راو أو ناقل لحديث أو قول صحابي أو تابعى "[9]" ويسجل اسم الراوى وصفته وكنيته وما انتهت إليه التحريات بشأنه ليكون هذا الكتاب مرجعا لمن أراد التحقق من صحة أى رواية بمعرفة مستوى هذا الراوى

    ونعطى فكرة عن أحد أهم المؤلفات فى هذا المجال وهو تاريخ دمشق للعلامة بن عساكر , فقد تمت طباعة هذا الكتاب بأسلوب الطباعة الحديثة فى حوالى 93 مجلدا , حجم المجلد الواحد منها يتراوح بين 500 و900 صفحة تقريبا , وقد احتوى هذا المرجع على ترجمة لشخصيات دمشق على ثلاثة مستويات
    الأول : ترجمة كل رجال دمشق المقيمين فيها
    الثانى : ترجمة كل من استقر بدمشق وكان وافدا إليها من بلد آخر , عندئذ يقوم بن عساكر بالرحيل إلى بلده الأصلي والتحرى عنه ووضع صفته وحكمه عليه
    الثالث : ترجمة لكل من مر بدمشق مجرد مرور وهو فى رحلة إلى غيرها من البلاد

    وهنا نتوقف قليلا ونتأمل , ونسأل الأسئلة التالية :

    * إذا كان متوسط عدد صفحات الكتاب بأسلوب الطباعة الحالية يتراوح بين ستين وتسعين ألف صفحة فى 93 مجلدا , فكم يكون حجمه بأسلوب الكتابة على المخطوطات والذى كتبه مؤلفه العملاق على شاكلته , مع ملاحظة أن الصفحة الواحدة من صفحاتنا الحالية من الممكن أن تحتوى من المخطوطات بأسلوب الكتابة القديم على عدد عشرة مخطوطات كاملة تقريبا

    * من أين أتى بن عساكر بالوقت الكافي لجمع مادة كتابه وهو حجم مهول يحتاج عمرا كاملا لمجرد تسجيله , فكيف قام بن عساكر بالتحرى عن كل رجال دمشق وخارجها والسفر إلى مواطن المستقرين والمارين بها ثم تسجيل كل هذا فى الحجم الرهيب من المخطوطات ؟!

    وقد رأينا فى المثال السابق كيف أن محمد عنان استغرق أربعين عاما ليؤلف كتابه عن الأندلس البالغ ثمانية مجلدات فقط ومادته مجموعة من كتب مطبوعة ومتوفرة

    * كيف خطرت فكرة هذا المرجع البالغ الضخامة بعقل مؤلفه , وهى فكرة لو خطر معشارها على عقل أنشط الباحثين اليوم لتوقف يأسا قبل أن يخطو فى مشروعه خطوة واحدة ؟!

    * قام بن عساكر بتصنيف مؤلفه هذا منفردا سواء بالتحرى وجمع مادة الكتابة أو النسخ والتسجيل , رغم أننا لو ألقينا نظرة على أحد مفكرينا المعاصرين العمالقة مثل محمد حسنين هيكل الذى تخرج مؤلفاته السياسية ضخمة وموثقة إلى أعلى درجة لوجدناه يستعين بفريق عمل كامل فى مصر وآخر فى لندن مهمتهم جمع المادة العلمية والوثائق وتصنيفها ومع هذا يستغرق لكتابة الكتاب الواحد من عام لعامين وقد أخرج موسوعته المعروفة { حرب الثلاثين سنة } من أربعة أجزاء فى عشر سنوات

    والمشكلة أننا تعرضنا لمؤلف واحد من هذه المؤلفات الضخمة التى تم تصنيفها لتسجيل التحريات عن رجال الرواية فى سائر الأقطار , وهناك على شاكلة مرجع بن عساكر مراجع لا تقل أهمية مثل تهذيب الكمال للحافظ المزى وسير أعلام النبلاء للذهبي , وسلسلة تاريخ البخارى الكبير والأوسط والصغير , والطبقات الكبري لابن سعد الواقدى وهو أول مصنف فى هذا العلم , والأهم من ذلك أن قول العلماء فى شخص معين أنه ثقة أو أنه ضعيف أو كذاب لا يؤخذ من عالم واحد بل يؤخذ الحكم على الراوى من مجموع أقوال علماء الجرح والتعديل وهذه دلالة إضافية على دقة التحري , فإن خدع أحد الرواة واحدا من علماء الجرح والتعديل بادعاء التقوى فلن يستطيع خداع بقية العلماء الذين سيتولون أمره

    ولو ألقينا نظرة على الأحوال التى يتم فيها جرح الراوى وعدم الأخذ بروايته لوجدنا حذرا بالغا غير مسبوق بالذات فى هذا العصر الذى لم ينتشر فيه الكذب أو النفاق , فالراوى لا يتم رد روايته لمجرد إثبات كذبه فى رواية حديث , بل يتم جرحه لمجرد التدليس , والتدليس فى مصطلح الحديث ليس معناه الخداع والكذب بل هو مجرد أن يقول الراوى سمعت من فلان وهو شيخه الثقة , بينما هو سمع الحديث من زميل له عن نفس الشيخ لا ندرى حال الراوى نفسه وإخفاء راوى الحديث للمنقول عنه هنا يعتبر تدليسا , هنا يجرح الراوى بالتدليس لأجل هذا فقط

    بل إن أحد علماء الحديث لم يقبل حديث أحد الرواة عندما رآه يخدع بعيره فيضم ثوبه ويحركه للبعير حتى يظن أن ثوب صاحبه مملوء بالشعير لكى يأتى البعير فلا يهرب , فرفض العالم أخذ روايته لأنه ثبت له كذبه على بعيره فاعتبرها جرحا له
    ولم تقتصر العناية عند الوقوف على أحوال الرواة فحسب ,
    بل كانت أحوال الرواة مجرد فرع من فروع التحقيق التى امتدت إلى نصوص الحديث نفسه بمنتهى الدقة , فلا يوجد عند أهل الحديث التسيب الذى نعرفه اليوم من نقل دون وعى أو ذكر دون تدبر , بل إن الراوى إذا خلط حرفا بحرف وهو ينقل روايته وليس كلمة مكان كلمة , جرحه علماء الرجال باعتباره ضعيف الحفظ حتى لو حافظ على معنى الحديث ومضمونه

    بل إنهم يتتبعون مراحل حياة الراوى أو العالم الواحد فيقال مثلا أن روايته فى سنه الصغيرة كانت أوثق من روايته بعد أن كبرت سنه ويسجلون هذا فى مراجعهم

    ولكى يتم قبول الحديث صحيحا يجب فيه أن تتوافر شروط الحديث الصحيح وهو أن يروي الحديث الثقة العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه بسند متصل من غير شذوذ ولا علة
    فهذا التعريف البسيط أجمل شروط صحة الحديث بضوابط تعجز مباحث أمن الدولة الآن !

    فإن سقط فرد واحد من سلسلة السند يتم تضعيف الحديث وإن كان أحد الرواة ضعيفا وباقي الرواة على أشد الثقة تم تضعيف الحديث أيضا , إلا إذا كان الضعف ناجما عن قلة حفظ وتم ضم هذا الراوى لغيره فيتم وضع الحديث فى مرتبة وسطية وهى مرتبة الحسن

    أما عن طريقة كشف الخداع والتدليس والتحرى فيكفينا أن نعرف أسلوب عملاق من عمالقة الجرح والتعديل وهو يحيي بن معين رفيق وصديق الإمام أحمد بن حنبل , وهو أسلوب يتضح من موقفين يظهر منهما مدى براعة هذا الرجل التى سبقت عصره بقرون فى فنون المراقبة والتحرى

    الموقف الأول : أنه كان يتتبع حلقات الدرس التى يعقدها المحدثون فى المساجد فيجلس مراقبا لكل الحضور من الرواة بعين الصقر , ويتابع كل منهم فى مدى انتباهه للحديث المروى فإن لمح أحد الرواة وقد غفت عينه قليلا من أثر الجهد سجل اسم الراوى ونص الحديث الذى نام فيه , فإذا انتبه الراوى من نومه أو نبهه أحد أصحابه يسجل بن معين الحديث الذى استيقظ فيه نفس الراوى , ثم ينتظر نشاط هؤلاء الراوة فإذا لاحظ أن الراوى النائم روى حديثا عن شيخه ضمن مجموعة الأحاديث التى غفل فيها ـــ حتى لو كان الحديث صحيحا ـــ وكان قد أخذه عن زميل له وأسقط اسم الزميل قال له على الفور { كذبت .. متى سمعت هذا لقد رأيتك نائما } فيسجل التدليس على هذا الراوى ويُجرح لذلك

    الموقف الثانى : كان بن معين جالسا مرة يكتب شيئا ما فى ورقة وكلما دخل عليه شخص ـــ أيا كان هذا الشخص ـــ قام بطى الورقة حتى يقوم عنه مهما كانت ثقته به , فلما جاء أحمد بن حنبل إمام أهل السنة فى زمانه لم يطو بن معين الورقة لأن مكانة الإمام أحمد كانت تعلو مكانة بن معين ذاته , والأمر بينهما أشبه بالشك المتأصل فى نفس كل رجل مخابرات فيتخذ الحذر الغريزى تجاه إبداء أى معلومة ولو كانت معلومة عامة وتراه يتساءل فى شك ,
    لماذا يسأله فلان ؟!
    لكن غريزة رجل المخابرات مع من فوقه رتبة تختفي , فلا حرص مع أهل الإختصاص
    فلما لاحظ أحمد بن حنبل اهتمام بن معين سأله ماذا يفعل فأخبره أن يسجل صحيفة { أى محتوى رواية راو معين ولا تعنى أنها صفحة واحدة بل قد تمتد لعشرات الصفحات وتسمى صحيفة فلان } أبان عن أنس , حتى إذا جاء مدلس فخلط إبان مع غيره قلت له كذبت

    من هذين الموقفين يتضح إلى أى مدى كانت عليه الدقة والتمحيص وراء معرفة الحديث ,
    بالإضافة لما هو أهم , وهو أن المحدثين على مختلف طبقاتهم "[10]" كانوا يتابعون فحص ما انتهى إليه سابقيهم من العلماء , بمعنى أن كتب غيرهم ونتائج بحوثهم فى علم الحديث لم تكن تقبلها الأجيال التابعة من العلماء بل كانت تتحرى عنها بنفس الطريق أو بطرق أخرى , ولهذا فإن كتابىْ مثل صحيح البخارى أو صحيح مسلم برز بروزا شديدا بين الصحاح لأن ثلاثة أجيال من العلماء على الأقل تعاقبت على فحصه بمنتهى الدقة فلم يتركوا فيه حديثا واحدا دون فحص جديد , وهذا رغم جلالة مقام البخارى كإمام أهل الحديث بلا منازع وما عرف الإسلام مثيله فى دقة الحفظ والوعى والتحرى حتى أنه كان لا يضع حديثا فى صحيحه قبل أن يصلي ركعتين عقب إتمام فحصه والتحرى عنه , وقام بتصنيف أحاديث صحيحه البالغة نحو أربعة آلاف حديث من فحص 600 ألف حديث كان يحفظها بأسانيدها وأحوالها عن ظهر قلب ! واختار أصح ما صح منها وترك أيضا من الصحيح كثير طلبا للإختصار

    أى أنه بعد استخدام خاصية الإستبعاد وضع بكتابه ما نسبته أقل من 1 % مما جمعه , وهذا يشي بالضرورة بمدى صعوبة شروطه لاعتماد الحديث إلى درجة دقة مستحيلة ,
    ولذا قبلت الأمة صحيح البخارى ومسلم وأجمعت على صحتهما عقب الحكم عليهما من أجيال العلماء المتتابعة "[11]" , ولذا عندما نجد من يطعن فى صحة حديث بالبخارى ـ بعد كل هذا ـ يحق لنا أن نملأ صاحب الطعن سخرية , فهو لا يشكك فى البخارى وحده بكل دقته وعلمه بل يتجاوز إلى قرابة سبعة أجيال من العلماء تتابعت على كتابه بالفحص واعتمدته

    لا سيما أننا لو عرفنا كنه الأحاديث المطعون فيها بين الحين والآخر بالصحيحين وغيرهما من الأحاديث التى أقر العلماء بثبوت نسبتها للنبي عليه الصلاة والسلام , هى كلها أحاديث توقف عندها العلماء وناقشوها بالفعل قبل قرون , وليس في ما يذكر من طعون أى جديد يلفت النظر فقد استوفاها العلماء معالجة وردا , لكن المشكلة الحقيقية أن من يطعن على تلك الأحاديث لا يكون جاهلا فقط بإجماع العلماء على مدى عصور بصحتها بل يكون جاهلا أيضا بأن شبهاته تلك تم الرد عليها فى كتب لم يكلف نفسه مطالعتها أو البحث فيها عند أهل الإختصاص "[12]"

    غير أن دواعى الإستغراب تنمحى مع تسليمنا المسبق أن الجهل العميم الذى ساد الآن , لا شك أنه يمثل الوسط المنسب لجراثيم الفكر كى تعيث بالعقول فسادا , والوسيلة المثلي لذلك تكمن فى إعادة الهيبة المفقودة للعلماء بين العامة والعمل على نشر سير علماء السلف وبيان فضلهم الذى لا يوفي مقداره قط ..

    هذه إطلالة مختصرة على علم الحديث , هذا العلم الشريف وطريقة نشأته ومدى بلوغ دقته , عرضناها لتكون مدخلا لفهم حقيقة الروايات التى عصفت بالتاريخ الإسلامى فى أنظارنا لفترة طويلة , دون أن أندرى مبانى علم الحديث والنقل ودورها المحورى فى بيان صحيح الروايات وضعيفها ..

    الهوامش :

    [1]ــ نشأت حركة الإستشراق الذى هدفت إلى دراسة الدين الإسلامى دراسة وافية لإستخراج شبهات تهدمه من داخله , وبذل المستشرقون الأوربيون جهدا خرافيا فى ذلك وتصدى لهم علماء المسلمين واحدا بعد الآخر حتى أعلنوا يأسهم , ومن أبرز مقولات الإنبهار التى شهدت بها ألسنة الغرب ما قاله المستشرق الشهير مرجليوث عن علم الحديث وقواعده وهو علم تفرد به العرب وحدهم على سائر الحضارات وحفظوا به دينهم وتراثهم , قال { ليهنأ المسلمون بعلم حديثهم }
    [2]ــ تختلف مراجع التاريخ الإسلامى حول السبب الذى دعا الخليفة سليمان بن عبد الملك لرفض فكرة موسي بن نصير بافتتاح بلاد الغال " فرنسا الحالية " وبلاد الرومان " إيطاليا الحالية " ثم تركيا , ويرجح المؤرخون أن السبب خشية الخليفة على جيش المسلمين من الدخول بأراض مجهولة وفى عمق الإمبراطورية الرومانية
    [3]ــ لم يعرف تاريخ البشرية المعروف دولة قامت وتأسست ومدت سيطرتها على هذه المساحة الرهيبة من الأرض خلال مائة عام فقط إلا الدولة الإسلاميةولم يعرف التاريخ البشري دولة تسيدت الأرض كقطب قوة مفرد لا يقابله قطب مقابل فى العالم إلا فى عصر الدولة الإسلامية , كما لم يعرف التاريخ دولة نشأت وأسقطت قطبي العالم فى زمانها الروم والفرس معا وفى وقت واحد وعلى عدة جبهات إلا الدولة الإسلامية
    [4]ــ راجع { الفصل فى الملل والأهواء والنحل ـ الجزء الثانى ـ بن حزم الظاهرى , وأيضا ـ منهاج السنة النبوية ـ للإمام بن تيمية , وأيضا مذاهب الإسلاميين ـ د. عامر النجار }
    [5]ــ صحيح الإمام مسلم بن حجاج ثانى أشهر الصحاح النبوية قاطبة بعد صحيح البخارى وهم أصح كتابين اجتمعت عليهما الأمة وتعد شروطهما لقبول الحديث صحيحا هى أعلى الشروط دقة وحزما
    [6]ـ تيسير مصطلح الحديث ـ د. محمود الطحان
    [7]ـ سلسلة الإسناد هى ذكر رجال السند بصيغة من صيغ السماع المتعارف عليها وهى حدثنا فلان عن فلان أو أخبرنا فلان
    [8]ــ المقصود بالنسخ فى الحديث هو أن يرد الحديث بحكم معين يتغير بحديث آخر لاحق عليه كما حدث مثلا فى حديث قتل شارب الخمر العائد للمرة الثالثة فقد نسخه رسول الله عليه الصلاة والسلام بالفعل عندما جلد الشارب فى الثالثة ولم يقتله
    ويعد الشافعى هو أول من ابتكر التوفيق بين الأحاديث التى تغير حكمها بأحاديث أخرى وفى هذا يقول الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه { ما عرفنا ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسنا الشافعى } رضي الله عنهم جميعا
    [9]ــ " ينقسم الحديث من حيث مصدره إلى ثلاثة أنواع , الحديث المرفوع وهو كل حديث قاله أو أقره أو فعل فعله أو رواية ورد فيها ذكر النبي عليه السلام بأى وجه , والحديث الموقوف وهو القول المنسوب للصحابي , والحديث المقطوع وهو القول المنسوب للتابعي { راجع الباعث الحثيث فى علوم الحديث لبن كثير ـ تحقيق أحمد شاكر }
    [10]ــ المقصود بالطبقات هى الأجيال , فكل جيل من العلماء أو الأدباء يسمى طبقة , ويتم ترتيب الطقات بحسب قربها من العهد النبوى فتبدأ طبقة الصحابة التى تتفرع لطبقات متعددة حسب السبق فى الإسلام ثم طبقة التابعين فتابعيهم وهكذا
    [11]ــ معظم الشبهات والإنتقادات الموجهة للصحيحين تناولها علماء الأمة بعد البخارى وفندوا الإعتراضات المثارة عليها , وكان أبرز شراح البخارى ومسلم هما بن حجر العسقلانى والنووى الإمامان الجليلان
    [12]ــ يحتوى كتاب " تأويل مختلف الحديث " لبن قتيبة على مجموعة كاملة من الأحاديث الذى استنبط الناس الأقاويل حولها وقام بن قتيبة بمعالجتها معالجة كاملة وهو المتوفي عام 230 هـ , ورغم ذلك تثار نفس الشبهات حول نفس الأحاديث اليوم

  5. #5
    الصورة الرمزية محمد جاد الزغبي شاعر
    تاريخ التسجيل : Jan 2006
    العمر : 46
    المشاركات : 705
    المواضيع : 83
    الردود : 705
    المعدل اليومي : 0.11

    افتراضي


    ( 2 )
    أحداث الفتنة الكبري ( بالروايات الصحيحة فقط )

    لا شك ولا ريب أن أهم المطاعن التى حاول المجرمون النفاذ بها إلى مقدار وقيمة الصحابة , والتشكيك فيهم وفى عدالتهم الثابتة بالقرآن والسنة , لا شك أن أحداث الفتنة الكبري كانت مدخلهم الأكبر لتناول هذا الجيل بما ليس فيه , وهذا عن طريق استغلال الفتنة الكبري بطريقين وهما :
    الأول : الروايات الموضوعة المكذوبة المفتراة على الصحابة رضوان الله عليهم والتى تنال من عدالتهم وصدقهم .. وهى كلها روايات ساقطة أسقطها علماء التاريخ والنقل

    الثانى : تأويل بعض الأحداث الحقيقية وحملها على محامل غير حسنة وبسوء ظن غريب يجعل القارئ يشعر أنه ليس أمام جيل ربانى اختاره الله وعدّله من فوق سبع سماوات , بل تجعل القارئ يحكم على هذا الجيل كما لو كان يحكم على أجيالنا المعاصرة التى غرقت فى شهوات الدنيا وشهوات الحكم , وليس لها قطعا تلك النفس المطمئنة التى تميز بها جيل الصحابة جميعا , حتى أن كافة أفعالهم كانت مرهونة بالإجتهاد والسعى لطريق الله وحده , وحتى لو أخطئوا فيها فهو إجتهاد ليس يلزم منه إسقاط العدالة لأن النية الحسنة ثابتة لهذا الجيل كله , وهم ليسوا بمعصومين عن الخطأ ,
    وسنبين باختصار غير مخل , مدى فضل هذا الجيل , وكيف أن التشكيك به جاء من المغرضين القاصدين إلى هدم مصادر الدين الإسلامى عن طريق الطعن فى من نقلوا لنا هذه المصادر , ومن هنا تأتى خطورة الأمر , كما سنبين حقيقة ما جرى فى الفتنة الكبري ونميز سقيم الروايات من صحيحها لنقف على حقيقتها ..

    نظرة إلى قيمة الصحابة ,
    من مصائب الأمة اليوم دون شك , أنها استجابت نوعا ما لدعوة أهل الطعن فى الصحابة ونظرت إلى الروايات التاريخية المزيفة التى رواها رواة التاريخ غير العدول على أنها روايات صحيحة رغم أنها تحمل مطاعن فى أشرف جيل للإسلام وهو الجيل الذى حمل الرسالة وكان وسيلة إيصالها لأقطار الأرض وإيصالها للأجيال وراء الأجيال
    والأمر لا يخلو من حماقة وغباء مطلق ,
    ففي البداية مثل هذه المطاعن كيف يمكن قبولها ومن رواها هم الكذابون المعروفون بحقدهم ضد هذا الجيل مثل رواة الشيعة , بالإضافة إلى ما هو أطم أننا غفلنا عن القرآن الكريم الذى يمثل الثبوت المطلق والدليل المنفرد بذاته على تزكية هذا الجيل كله ,
    فأهملنا دليل القرآن فى تزكيتهم وقبلنا دليل الزنادقة ,
    والطعن فى جيل الصحابة قديم وموجود فى كتب التاريخ التى نقلت لنا الروايات جميعها , وأخضعها أهل التحقيق لتحقيقهم وبينوا زيفها , غير أن الجهل العام فى عالمنا المعاصر دفع العلمانيين والشيعة ومن تابعهم فى حرب الإسلام إلى استغلال رواج تلك الروايات ليصلوا إلى أغراضهم فى التشكيك بهم والتشكيك بهم يعنى التشكيك فى الدين الذى نقلوه , وهذا هو الهدف الوحيد لكل طاعن بالصحابة

    لكن المشكلة أن بعض الكتاب والمفكرين ومعظم العوام ذهبوا إلى تلك المرويات فقبلوها وكتبوا عن تلك الاتهامات الموجهة للصحابة ونشروها وهم ليسوا من أهل الصنعة ولا الخبرة حتى يميزوا بين الروايات الصحيحة والروايات العرجاء
    والأهم من ذلك أنهم غفلوا عن جلالة هذا الجيل وتعاملوا معهم كما كانوا من أرباب هذا العصر الذى نعانى منه , بينما الصحابة عاشوا فى عهد النبوة حيث كان ولا زال جيلهم بشهادة الله عز وجل ونبيه عليه السلام أفضل أهل الأرض بعد الأنبياء والرسل ,
    فلا يوجد مثيلهم أبدا لا فى الزهد ولا فى الإيمان ولا فى التقوى وأمثالهم تهرب منهم الذنوب وتتنافر مع طبيعتهم , وهم وإن كانوا غير معصومين فهذا لا يعنى إطلاقا أن نتصور فى أحدهم إقدامه على ذنب عامدا متعمدا لأجل دنيا
    فلما نظر هؤلاء المفكرون إلى الصحابة نظرتهم إلى أى جيل وعالجوا عصرهم كما كان عصرا عاديا من السهل أن تجد فيه أطماع الحكم وشهوات الدنيا , تسربت بناء على ذلك إلى النفوس تلك النظرة الخاطئة عن هذا الجيل الفريد
    فازداد تعلق العامة بهذه الروايات وأصبح من قبيل الثقافة العامة أن تجد تلك المطاعن منتشرة بينهم , رغم أن فتن الحكم ومطالب الدنيا لم تكن تمثل فى عرف الصحابة شيئا يذكر ولا يوجد دليل أو شبهة دليل صحيح تقول بذلك
    و إذا نظرنا للقرآن الكريم وتأملنا بالعقل وحده كيف انتشر فى ربوع آياته تزكية هؤلاء الأطهار لعلمنا أن الأخبار المنقولة بخلاف ذلك إنما هى من الإفك المبين , وهذا ما ينبغي لكل عاقل أن يدركه لأننا نقارن هنا بين الدليل من القرآن والدليل من مروجى الأخبار فكيف ندع الأول ونأخذ الثانى !

    يقول عز وجل ,
    [لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحشر:8}
    والآية قطعية الوضوح والصراحة فى أن المهاجرين جميعا هم من نصر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وشهد لهم الله تعالى الذى يعلم سرائرهم أنهم هم الصادقون فهل من الممكن أن نقبل بعد هذا بتشكيك مشكك فى عدالتهم ؟!

    ويقول أيضا :
    [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة:100}

    وهذه الآية جمعت الجيل كله المهاجرون والأنصار ومن تلاهم من بعد الفتح فأسبغ عليهم الله تعالى الإحسان وشهد لهم بأنهم أصحاب الجنة والرضوان
    ويقول أيضا :
    [لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {التوبة:117}

    وهذه الآية الكريمة تتحدث عن غزوة تبوك التى خرج فيها النبي عليه الصلاة والسلام بكل صحابته للقتال , ولم يسمح لأحد بالتخلف , فأنزل الله تعالى بحقهم هذه التوبة ومعنى هذا أنها شملت اثنى عشر ألف صحابي خرجوا مع النبي عليه الصلاة والسلام من المهاجرين والأنصار ومسلمة الفتح ولم يستثن القرآن الكريم أحدا منهم قط , حتى الثلاثة من الصحابة الذين تخلفوا بلا عذر , أنزل الله توبته ومغفرته عليهم لينضموا إلى إخوانهم فقال جل شأنه
    [وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] {التوبة:118}

    ولم يقتصر القرآن الكريم على وصف هؤلاء الأطهار بل وصف حال من سيأتى بعدهم من أجيال وجعل الإيمان رهنا فقط بالذين اتبعوهم بإحسان فاستثنى بذلك الله عز وجل كل إنسان خاض لسانه فى هذا الجيل , حيث يقول تعالى
    [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {الحشر:10}

    أى أن وظيفتنا نحن الذين تبعناهم أن نقول ربنا اغفر لنا ولهم ولا نجعل فى قلوبنا غلا لأحد منهم قط ,
    وهذا هو الأمر الطبيعى البدهى لأن إيماننا ما كان له أن يتحقق لو لم يصمد هؤلاء النفر مع النبي عليه الصلاة والسلام ويحملوا أمانة الرسالة ويبذلون الدم والنفس والأهل والمال فى سبيل إعلاء كلمة الحق ,
    وفى ذلك يقول الإمام علىّ رضي الله عنه مخاطبا شيعته من على منبر الكوفة كما فى نهج البلاغة "[1]" :
    ( ولقد رأيت أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم فما رأيت أحدا يشبههم منكم ولقد كانوا يصبحون شعثا غبرا ويقبضون على مثل الجمر من ذكر معادهم كأن بين أعينهم ركب المعزى ـــ يعنى علامة السجود ـــ )

    فجاءت الأجيال بعد ذلك وتحت مختلف الأغراض تحمل هم الطعن والتشكيك فى هذا الجيل الفريد بل وفى حق أعلامهم كأبي بكر وعمر وعثمان وعلىّ رضي الله عنهم , والعاقل لا يحتاج ردا على تلك الشبهات التى يثيرها المغرضون , والذين ارتضوا لأنفسهم أن يقفوا فى خندق واحد مع العلمانيين والمستشرقين أعدى أعداء الإسلام لكى يمارسوا معهم نفس الفعل فى الطعن واللعن على أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام
    فالعاقل لابد له أن يقرن هذه الأقوال بآيات القرآن الكريم لكى يطرح عن نفسه أى حاجة لتفنيد أى شبهة بحق أى صحابي , فليس بعد قول الله قول

    بالإضافة لما هو أهم وهو أن النظر إلى هؤلاء الطاعنين ممن يدعون الإسلام يكفي وحده لاكتشاف هويتهم , لأنهم ـ كما قلنا ـ وقفوا فى خندق واحد مع أعداء الإسلام ومجرد الاتحاد فى الغرض والفعل يكفي لرفض أى قول لهم بحق أى صحابي
    وما أصدق قول الإمام أبي زرعة الذى قال:

    ( إذا رأيت الرجل يطعن فى أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فاعلم أنه زنديق , ذلك أن الدين عندنا حق وإنما أداه لنا هؤلاء الصحابة والذين يطعنون فيهم أرادوا أن يجرحوا شهودنا والجرح بهم أولى وهم زنادقة )

    وكعادة جميع الأفاكين يأتون بشبهات عرجاء وبأحداث ملفقة ليتمكنوا من التشكيك فى الصحابة , فيأتون لآيات القرآن الكريم التى نزلت فى المنافقين فيسقطونها على أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ؟!
    ومن ذلك
    [وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ] {التوبة:101}

    والسؤال المنطقي أين وجه الدلالة فى الآية لكى يطعنوا بها على الصحابة , فنعم كان هناك منافقون بالمدينة يعلم النبي عليه السلام بعضهم والبعض الآخر لا يعلمهم
    أما الذين علمهم فهم عبد الله بن سبأ وشيعته , وأما الذين لم يعلمهم فهؤلاء هم جيل المرتدين الذى منعوا الزكاة فحاربهم أبو بكر رضي الله عنه ,
    ونلفت النظر إلى أننا جئنا بآيات محكمات واضحات فى تزكية المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة فلو كان بينهم استثناء لبينه الله أو بينه النبي عليه الصلاة والسلام
    بينما نجد النبي عليه السلام شدد فى الوصية على مدح أصحابه سواء فرادى بأسمائهم أو بمجموعهم ومن ذلك قوله عليه السلام
    ( الله الله فى أصحابي ........ الحديث )
    وقوله عليه السلام ( لعنة الله على من سب أصحابي )
    وقوله عليه السلام ( لا يدخلن النار أحد بايع تحت الشجرة .... الحديث )

    بخلاف الأحاديث المستفيضة فى مدح أعيان الصحابة مثل العشرة المبشرين زعماء الصحابة وأيضا بقيتهم مثل جليبيب وعمار والمقداد وأبو ذر وأبو هريرة وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومعاوية وعشرات غيرهم
    ومن الأدلة العقلية الصريحة أن الله عز وجل قال فى كتابه
    [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ] {آل عمران:110}

    فهذا المدح العظيم للأمة الإسلامية ورد أول ما ورد فى حق الصحابة وجيلهم الفريد , وقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه مدح ثلاثة أجيال أولها جيل الصحابة وتابعيهم من بعدهم ومن بعدهم وهى القرون الثلاث الأولى خير القرون للأمة الإسلامية والتى صارت فيها كلمة الله هى العليا
    فلو لم تكن هذه الزمرة هى خير أمة فمتى كنا خير أمة إذا ؟!

    فإذا عجز الأفاكون أمام النصوص الصريحة الصحيحة ذهبوا سريعا إلى الروايات المكذوبة الموضوعة مستغلين جهل الناس بمصداقية الروايات وكيفية الكشف عنها وجهلهم بمنهج كتابة التاريخ الإسلامى فى المصادر الأصلية كما سنرى

    الهوامش :
    [1] ـ ليس معنى استدلالنا بنهج البلاغة هنا أنه مصدر صحيح ثابت إلى الإمام علىّ , ولكنه مصدر مختلف ومنحول عليه وما يوجد فى الكتاب من الأقوال الصحيحة النسبة للإمام لا يتعدى عشر محتواه , والباقي موضوع ليس له إسناد أصلا إلى الإمام , لا اسناد متصل ولا حتى منقطع , ونحن نستشهد به على سبيل الإحتجاج على الخصوم الرافضة بكتبهم التى يعتقدون صحتها , وعلى رأسها نهج البلاغة , ونستدل على الرافضة بالذات لأنهم أكبر المشككين فى الصحابة وهم أصحاب الروايات الزائفة عنهم

  6. #6
    الصورة الرمزية محمد جاد الزغبي شاعر
    تاريخ التسجيل : Jan 2006
    العمر : 46
    المشاركات : 705
    المواضيع : 83
    الردود : 705
    المعدل اليومي : 0.11

    افتراضي


    منهج كتابة التاريخ الإسلامى


    الجريمة الكبري التى تمت بحق التاريخ الإسلامى أن بعض المؤرخين والمثقفين المعاصرين أخذوا عن تاريخ الطبري , واعتبروا مجرد ورود الروايات فيه معناها أن الطبري يعتقد صحتها وهذا غير صحيح حيث نص الطبري فى مقدمة تاريخه على أنه جمع كل الروايات التى أتت إليه وبين إسنادها ومصادرها وترك للمحققين من بعده النظر فى صحتها وتلخيصها
    وهذه جريمة تتابعت على مر الزمن لأن التاريخ مثله مثل الحديث النبوى خضع للتحقيق والتصحيح والتضعيف عن طريق تفنيد ونقد المصادر الأولى
    ولو أخذنا تاريخ الطبري مثالا وهو المرجع الأم الأكبر فى مجاله فإن مرويات الكذابين من الشيعة الإخباريين أحصاها الدكتور خالد كبير علال فزادت عن ثلاثة آلاف رواية باطلة سندا ومتنا وأصحابها أربعة فقط من رواة الشيعة المطعون فيهم
    والمشكلة الكبري أن تلك الروايات تعالج الفترة الأكثر حساسية فى التاريخ الإسلامى وهى الفترة من وفاة النبي عليه الصلاة والسلام إلى استشهاد الإمام الحسين رضي الله عنه [1]
    وانتشرت تلك الروايات المغلوطة بين العامة وبين أقلام المثقفين المعاصرين باعتبارها من المسلمات التاريخية رغم أن العلماء قديما وحديثا بينوا مدى بطلانها

    وما حدث فى الفتنة يمكن تلخيصه فى الآتى :
    أولا : أجمع المسلمون بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام على تولية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لسابقته وفضله وولايته أمر الصلاة فى حياة النبي عليه السلام عند مرضه حيث أصر النبي عليه السلام على أن يتولى أبا بكر الصلاة وقال فى ذلك حديثا شهيرا ورد بعدة طرق منها كما فى البخارى
    ( يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر)
    وقد روى البخارى حادثة السقيفة التى نجمت عنها مبايعة الصديق بالرواية الصحيحة حيث تم الاتفاق على البيعة بلا منغصات , وقبلها جميع الصحابة فيما بعد بالشورى حيث أن النبي عليه الصلاة والسلام ترك الأمر فى الحكم والخلافة شورى بين المسلمين وانتهى بذلك عصر النبوة والعصمة
    وعليه فالروايات المزيفة التى تروى عن رواة الشيعة كأبي مخنف لوط بن يحيي الأزدى أن هناك خلافا وصراعا دب على السلطة كلها عبارة عن ترهات دسها هؤلاء الإخباريون ولم تثبت قطعا بأى سند صحيح , وقد لجأ المؤرخون لرواية الطبري ونقلها بعضهم وهى رواية منقولة عن الشيعي أبي مخنف الذى أجمع المحدثون على أنه من أهل الكذب [2]
    والرواية الصحيحة الواردة فى البخارى تغنى كل طالب حق عما سواها
    وفضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه أكبر من أن يسعها مقام الكلام , فيكفيه أنه كان ثانى إثنين إذ هما فى الغار وخصاله وفضائله التى بينها النبي عليه الصلاة والسلام لا تكاد تحصي وقد نصر الله به الإسلام أولا وآخرا , حيث شهد له النبي عليه الصلاة والسلام بأنه الوحيد الذى لم يكن فى إيمانه تردد ولا تلعثم
    ولقبوه الصديق يوم أن كان الذى بادر إلى تصديق النبي عليه الصلاة والسلام فى رحلة الإسراء والمعراج مع إنكار القوم لها ,
    وهو الذى دعا أساطين الصحابة فيما بعد للإسلام كما نصر الله به المستضعفين حيث بذل ماله كله فى سبيل الله وفى ذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام
    ( ما نفعنى مال مثلما نفعنى مال أبي بكر )

    وعندما تولى الخلافة وبدأت أحداث الردة وارتجفت الأرض نارا من حول المسلمين ما بين ردة القبائل داخل الجزيرة وبين طمع الروم فى حرب المسلمين أيضا
    ولكن كان هناك أبو بكر ,
    صاحب العزيمة التى لا تلين والثقة التى لا تنضب فحارب المرتدين فى نفس الوقت الذى نفذ فيه أمر النبي عليه الصلاة والسلام فى إنفاذ جيش أسامة بن زيد إلى حدود الروم وردعهم , رغم ما يعنيه هذا من خطورة عندما تبقي المدينة بلا جيش فى مواجهة المتربصين , وقال فى ذلك كلمة تكتب بماء الذهب
    ( والله لو لعبت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين فى المدينة ما تركت أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام )

    ثم شكل القيادات والسرايا والبعوث وأخمد نار الفتنة فى الجزيرة ولم يتوان بعدها أو يستريح بل شكل الجيوش الإسلامية لفتح فارس والشام , فكانت البداية التى تواتر عقدها بعد ذلك فى عهد الفاروق
    وتوفي رضي الله عنه ودفن إلى جوار النبي عليه الصلاة والسلام طاهرا مطهرا , وقد لعبت الروايات الشيعية دورا فى محاولة تشويه صورته بأسلوب ساذج فأثاروا الشبهات حوله وتكفل العلماء بالرد عليها تفصيلا[3]

    ثانيا : قبيل وفاة أبي بكر رضي الله عنه أوصي بعد استشارة أصحابه على تولية عمر بن الخطاب رضي الله عنه خليفة للمسلمين فناقشه فى ذلك بعض الصحابة لما يعرفون من شدة عمر فى الحق فأقنعهم أبو بكر بأنه يترك عليهم خير خلق الله فى زمانه كما هو فى رواية بن سعد فى الطبقات الكبرى [4]
    وخرج كتاب البيعة لعمر مع عثمان بن عفان رضي الله عنه وقرأه على الناس وهم جميعا حاضرون فقبلوه وتولى الفاروق أمر الأمة فكانت أزهى عصور الخلافة
    حيث سقطت فى عهده دولتى فارس والروم معا وكانت الجيوش الإسلامية تحارب على الجبهتين معا , فسقطت فارس فى يد كبار مجاهدى الجبهة مثل المثنى بن حارثة وخالد بن الوليد قبل انتقاله لجبهة الشام وأيضا سعد بن أبي وقاص قائد جبهة الفرس فى موقعة القادسية ونهاوند
    وسقطت الروم وافتتح بيت المقدس على يد مجموع الجيوش الإسلامية فى الشام بقيادة خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص وزياد بن أبي سفيان ومعاوية شقيقه
    أما فى العدل فحدث ولا حرج حيث لا زالت سيرة عمر بن الخطاب تمس الأفق فى عدله وورعه , بل تجاوزت سمعته فى العدل والإنصاف حدود دولة الإسلام إلى الغرب حيث أنصفه الأوربيون فوضعوه ضمن أعظم مائة شخصية فى الإسلام [5]
    وفى التنظيم الإدارى قدم للخلافة الدواويين وأنشأ عدة أنظمة إدارية للعطاء والخراج فحقق فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام فى الحديث الصحيح
    ( لم أر عبقريا يفري فريه )

    وفضائله ومآثره كثيرة جدا وكلها تشي بفرط عدله وحياديته فى الحكم وتبجيله وتوقيره للصحابة رضي الله عنهم ,
    وأيضا تناولته الروايات الشيعية بالتنقص وخصّـته بكثير من هذا الغثاء والسبب الرئيسي إنما يعود لأنه كان الخليفة الذى فتح الله على يديه إمبراطورية فارس وأطفأ نار المجوس فلم تقم لهم قائمة بعدها ,
    ولا ننسي أن نشير إلى رواية غير صحيحة تداولتها كتب التاريخ قديما وحديثا وهى رواية لا تثبت , وهى قصة إسلام عمر بن الخطاب حيث تقول القصة الشهيرة أنه أتى يريد قتل النبي عليه السلام فى دار بن الأرقم فسمع أن أخته فاطمة بنت الخطاب أسلمت وزوجها فحول وجهته إلى بيتها وضربها على وجهها فلما سال الدم رق لها وطلب منها أن يري صحيفة القرآن , وعندما رآها وقرأ ما فيها دخل فى الإسلام "[6]"
    هذه الرواية لا تصح ولم تثبت سندا رغم شهرتها الواسعة لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسلم ــ وفق الرواية الأكثر قبولا ــ فى بطحاء مكة عند الكعبة على يد النبي عليه الصلاة والسلام بعد حوار قصير بينهما
    ونلفت النظر هنا إلى نقطة هامة للغاية وهى أن الشيعة استغلت هذه الرواية الشهيرة عن ضرب عمر لفاطمة شقيقته , لكى تُسقط الرواية على فاطمة الزهراء رضي الله عنها فاخترعوا أسطورة أن عمر ضرب الباب على فاطمة رضي الله عنها وكسر ضلعها وذلك لإجبار على بن أبي طالب على البيعة لأبي بكر

    وكأن عمر وأبا بكر وغيرهما من الصحابة أعضاء فى حكومة ثورية كالتى يشهدها عالمنا المعاصر !
    ونحن لا نحتاج قطعا إلى أن نثبت زيف هذه الأسطورة التى تمثل عارا على جبين الرافضة إلى اليوم حيث أنها أظهرت علىّ رضي الله عنه بصورة العاجز عن الدفاع عن زوجته أمام اعتداء مباشر , !
    ومن الملاحظ أن عددا من مراجع الشيعة اليوم مثل محمد حسين فضل الله المرجع الشيعي اللبنانى شعروا بخزى هذه الرواية التى ينشرونها بين عوامهم لمجرد تشويه صورة عمر رضي الله عنه بما لا يقبله العقل ولا يقره النقل فأنكروها إنكارا شديدا

    وكما قلنا سابقا أن الحقد الشيعي على عمر متأجج بشكل فادح بسبب دوره فى إسقاط فارس ولهذا لعب الفرس الذين تستروا بالتشيع لعبتهم فى اختلاق هذه الروايات التى تناسب طبيعتهم ومجتمعهم ولكنها تتنافي حتى مع أخلاق العرب فى الجاهلية فضلا عن الإسلام

    ثالثا: بعد اغتيال عمر بن الخطاب واستشهاده رضي الله عنه بيد أبي لؤلؤة المجوسي الفارسي لعنه الله , أوصي قبيل موته بأن يكون الأمر شورى فى الستة الباقين من العشرة المبشرين بالجنة , يتداولوا الأمر ويرتضون الخليفة الثالث فيما بينهم
    ومن فرط عدله رضي الله أبي أن يدخل فى الشورى صهره سعيد بن زيد رغم أنه من العشرة وذلك تلافيا للمجاملة التى قد تكون نظرا للقرابة بينه وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فتخيلوا أى حيادية وأى عدل كان يمثله الفاروق رضي الله عنه , فرغم أن سعيد بن زيد من العشرة وفضله معروف ويحق له الدخول فى الشورى والاختيار إلا أن مجرد قرابته من عمر وشكه أن الناس قد تجامله لذلك قام باستبعاده على الفور
    ومن الإشاعات المغرضة التى روجتها الروايات الباطلة أنه أمر بقتل أصحاب الشورى إذا لم يتفقوا وهذا مما يدل على الغباء فى التزوير قبل أن يدل على خبث الطوية , فكيف يجرؤ عمر رضي الله عنه على هذا الأمر بحق كبراء الصحابة , وما هو هدفه من ذلك وهو على فراش الموت
    والرواية الصحيحة الثابتة أنه اختار أهل الشورى وأمرهم أن يجمعوا أمرهم بينهم على خليفة قبل مضي ثلاثة أيام درء للفتنة

    وكان أصحاب الشورى ستة هم عثمان وعلى وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف , وفى أول اجتماع تنازل عبد الرحمن بن عوف وفضل أن يكون حياديا دون تزكية أحد , فارتضي به الخمسة حكما بينهم
    وتنازل طلحة والزبير وسعد لصالح الصحابيين الجليلين عثمان وعلىّ وبقي الخيار بينهما ,
    فقام عبد الرحمن بن عوف بأوسع استفتاء شهدته الخلافة التى ما رأت من قبل انتخاب خليفة على مستوى القاعدة الشعبية بأكملها قبل ذلك , لأن الخلافة كانت تتم بالتشاور بين أهل الحل والعقد فى المدينة ثم تطرح هذه الزمرة الفاضلة ــ التى كانت تشكل مجلسا أشبه بالمجلس التشريعي ـــ اسم الخليفة وتعلنه بين العامة فى المدينة وباقي الأمصار فيتولى الخلافة

    أما فى أمر أصحاب الشورى فقد جاب عبد الرحمن بن عوف بيوت أهل المدينة جميعا لثلاثة أيام يستفتى الناس ويري اختيارهم فاختاروا عثمان بن عفان رضي الله عنه إجماعا , فكانت بيعته البيعة الأولى من نوعها فى شعبيتها وذلك لأنه ما من أحد اختلف على تقديمه لسابق فضله
    وبايع الإمام علىّ مع المبايعين ولا إشكال وعمل كعادته وزيرا مع الخليفة الراشد عثمان كما كان من قبل وزيرا لأبي بكر وعمر وأصبح من المتعارف عليه بين الصحابة والمجتمع الإسلامى أن العشرة المبشرين هم أسياد الصحابة وأفضلهم الأربعة الأوائل بالترتيب ثم يتساوى الستة الباقون ثم يتبعهم فى الفضل أصحاب بدر ثم أصحاب أحد ثم بقية المشاهد ثم يتساوى الميزان مع سائر الصحابة , وفى هذا المعنى قال عبد الله بن مسعود فى رواية السيوطى بتاريخ الخلفاء
    ( كنا نفضل الناس بأبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علىّ ثم سائر العشرة ثم أهل المشاهد ثم نترك الناس لا نفاضل بينهم )
    وكانت سنوات خلافة عثمان امتدادا للعظمة الراشدة التى أقرها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فاستمرت الفتوحات شرقا وغربا واتسعت إلى مدى هائل شمل سائر إفريقية وبلغ خراسان
    وتوسعت المعيشة وازداد الرغد بسبب تدفق الغنائم , ومضت السنوات على عهد النبي عليه الصلاة والسلام واتسعت دائرة المسلمين فشملت أقواما من العجم فيهم ما فيهم سواء من النفاق أو الصلاح
    وافتعل عبد الله بن سبأ وبعض أقرانه من الفرس فتنة عمياء فى مصر والعراق تهتف ضد الخليفة الراشد وتدعو للثورة عليه وخلعه فى مفاهيم كانت جديدة على العالم الإسلامى الذى كان لا يزال يعيش مشكاة النبوة ,
    ومارس رواة الشيعة دورهم المعتاد فألفوا عشرات الروايات عن مطاعن تمس عثمان رضي الله عنه وتروى الفتنة بوجهة نظر لم تكن واقعا ملموسا وأثبت المحدثون وعلماء الأخبار كذبها جميعا [7]

    ولم تكن الثورة على عثمان ثورة كما صورها هؤلاء المؤرخون , بل كانت شغبا قادته شراذم تعد بالعشرات وتتبعها طبقات من الجهلاء والعوام اجتمعوا فى المدينة المنورة وتجمعوا حول دار الخليفة مطالبين بعزله
    هنا ثار الصحابة إلى السلاح لتطهير المدينة من تلك العصابات والدفاع عن الخليفة لا سيما وأن شيئا مما عابه الثوار على عثمان لم يكن أثر واقع , ثم تطورت الأمور بعد رحيلهم واستجابتهم لتهديد الصحابة ليعودوا مرة أخرى إلى المدينة زاعمين أن عثمان أرسل لعامله على مصر عبد الله بن سعد بأن يقتل هؤلاء الثوار وأبرزوا كتابا مفترى على عثمان لا أصل له

    واتضحت أبعاد المؤامرة عندما سألهم الإمام على بن أبي طالب كيف اجتمعتم مرة أخرى وقد ذهب أهل العراق باتجاه العراق وذهب أهل مصر باتجاه مصر , كيف عرف أهل العراق بحكاية الكتاب حتى يعودوا فى نفس التوقيت مع أهل مصر؟!
    وكان واضحا للجميع أن الأمر مدبرا بليل فلبس الإمام علىّ سلاحه وطلب من عثمان أن يمنحه الإذن بالقتال فأبي عثمان بإصرار شديد تورعا من تبعات الدماء وراجعه جميع الصحابة فأصر على الرفض
    ثم طلب عثمان من أولاد الصحابة الذين يبيتون حوله يحرسونه أن يخرجوا إلى منازلهم وأقسم عليهم بطاعته , فاستغل الثوار الفرصة ووثبت شرذمة منهم إلى دار الخليفة فقتلوه وهو يقرأ فى المصحف
    وكانت حادثة الاغتيال غير متصورة فى عقول سائر أهل المدينة , لكونهم لم يفكروا فى أن الأمر سيصل بهؤلاء إلى مثل تلك الجريمة لكن ما لم يحسبه الصحابة أن قادة الفتنة كانوا قد انتظموا وصارت لهم أتباع بالآلاف وكلهم من الغوغاء
    واهتزت المدينة للحادث الجلل وكاد زمام الأمور يفلت لولا أن استجاب الإمام علىّ للبيعة فخرج للمسجد وبايعه الناس وأولهم الصحابة .,

    أما الإفك المبين فكان متمثلا فى عدة روايات اختلقها الرواة الشيعة وكلها مطعون فيها بلا جدال , ومنها على سبيل المثال :
    * أن الصحابة رضي الله عنهم من ثاروا على عثمان لإنكارهم عليه بعض تصرفاته , وهذا من الكذب بلا جدال فلم يكن بين المشاغبين صحابي واحد ولا حتى عامى من أهل المدينة , ومن أكبر الإفك أن من روجوا هذه الشائعة جعلوا سبب ثورة الصحابة أن عثمان رضي الله عنه ساوى بين الصحابة فى العطاء وكان عمر رضي الله عنه قد فرق فى العطاء بين الصحابة القدماء وبين الذين أسلموا بعد الفتح ,
    وهذا المطعن يسقط بمجرد النظر إليه لأنه يتنافي وأخلاق الصحابة فى ذلك العهد وهوان شأن الدنيا عليهم إلى الحد الذى جعلهم يبذلون ما يأتى إليهم من أموال فى سبيل الله ولا يحتفظون لأنفسهم بشيئ !
    فكيف يثور أمثال هؤلاء على المال ,
    هذا بالإضافة لخلو كتب التاريخ الموثقة من أى ذكر صحيح لو برواية واحدة تشير إلى اشتراك الصحابة فى هذا الأمر
    بل الروايات تجزم بأن من وقف للفتنة دفاعا عن عثمان هم الصحابة أنفسهم وعلى رأسهم على وطلحة والزبير وبن عمر وغيرهما "[8] "
    والفتنة كانت سببها المؤامرات التى قادتها تلك الشراذم بعد أن انتشرت أموال الفتوحات وعاش الناس فى رغد , فاستغل مروجوا الفتنة غوغاء العوام فى تأليبهم على الخليفة تطبيقا للنظرية الواقعية وهى أن انتشار المال يكون سببا فى البطر وعدم الرضا , "[9]"
    وقد روى عن عروة بن الزبير قال :
    ( أدركت زمن عثمان وما من نفس مسلمة إلا ولها حق فى مال الله ) "[10]"

    * ومن المطاعن الساذجة أيضا أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان ضعيف الشخصية , وهذا قول استغل المرجون له ما اشتهر عن حياء عثمان رضي الله عنه ولم يفرق هؤلاء بين خلق الحياء وبين الضعف ,
    والثابت من قراءة تاريخ خلافة عثمان رضي الله عنه أنه كان لا يقل حزما وقدرة عن عمر بن الخطاب وأول مظاهر حزمه نجاحه فى الوقوف أمام انقلاب الروم والفرس على الولايات التى فتحها المسلمون , فثارت بعض ولايات العراق وكذلك عاد الروم مرة أخرى لمصر بعد أن أخرجهم عمرو بن العاص وتعرضت الخلافة لهزة مشابهة لتلك التى حدثت فى عهد أبي بكر
    فقام عثمان رضي الله عنه بتجهيز الجيوش ووجهها لنقاط التمرد وقضي عليها جميعا وأحكم قبضة الخلافة على أراضيها ,
    ولم يكتف بذلك بل قام بإنشاء أول أسطول بحري للمسلمين رغم أنهم كعرب كانوا منعدمى الخبرة فى قتال البحر , وعمر بن الخطاب رضي الله عنه بالرغم من قوة قلبه لم يتخذ قرار تكوين أسطول بحري للمسلمين وغزو الروم من الحر لخوفه من هلاك الجيوش أمام خبرة الروم
    فجاء عثمان وبشجاعة القائد كون الأسطول ووجهه إلى المعركة الشهيرة ( ذات الصوارى ) وكان انتصار المسلمين ساحقا بكل المقاييس
    كما أنه كان حازما فى حسابه للولاة والعمال على عكس ما نشره الأفاكون فقد بلغه أن الوليد بن عقبة وهو أحد ولاته شرب الخمر وجاء للشهادة شاهدين فعزله عثمان على الفور وأقام عليه الحد بلا تردد رغم أنه من أقربائه إلا أنه لم يحابيه فى دين الله ,
    بالرغم من أن تهمة شربه للخمر لم تثبت أصلا بشاهدين عدل لأن الشاهدين كانا من المطعون فيهما من أهل الكوفة كما بين ذلك القاضي أبو بكر بن العربي فى كتابه الهام ( العواصم من القواصم ) "[11]"

    * ومن أشهر ما اشتهر عن عثمان رضي الله عنه هو موضوع توليته لأقاربه , ورددته الألسنة بغير تحقيق للأمر , فإذا نظرنا إلى أقارب عثمان رضي الله عنه فهم :
    معاوية وعبد الله بن سعد بن أبي سرح والوليد بن عقبة وسعيد بن زيد وعبد الله بن عامر
    أما بقية ولاة عثمان فهم من باقي الصحابة وبلغ عددهم 17 واليا , بينما أقاربه خمسة ,
    فكيف يمكن أن نعمم الإتهام عليه رضي الله عنه ومن تولى من أقاربه خمسة فى مقابل 17 واليا من غيرهم
    وحتى هؤلاء الذين ولاهم عثمان رضي الله عنه لم يحابيهم لأنه ببساطة وضعهم فى نفس الأماكن التى وضع فيها النبي عليه الصلاة والسلام وعمر وأبو بكر رضي الله عنهما أمثالهم من بنى أمية لأنهم أهل عزة وكرم وشرف وسؤدد ولم يتول منهم أحد الإمارة إلا أدى حقها , فلم يبتدع شيئا جديدا وهؤلاء كانوا أكفاء للولاية وسبقه إلى ذلك من سبقه للحكم
    هذا فضلا على أن هؤلاء الخمسة لم يولهم عثمان فى وقت واحد بل ولاهم على مراحل وعزل منهم الوليد بن عقبة كما تقدم وعندما توفي عثمان لم يتبق من أقاربه أحد فى سدة الإمارة إلا ثلاثة فقط وهم معاوية وعبد الله بن سعد وعبد الله بن عامر
    والثلاثة قاموا بواجب الإمارة على أحق ما يكون , فمعاوية رضي الله استقر له أمر الشام رغم مجاورته للروم وعبد الله بن سعد هو الذى فتح إفريقية
    بالإضافة لما هو أهم وهو أن على بن أبي طالب ولى أقاربه أيضا لأنهم استحقوا التولية , ولم يكن بين ولاة على رضي الله عنه من هو أفضل من ولاة عثمان إلا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

    وكما سبق أن بينا أن هذا الجيل لم تكن فيهم المحاباة والدليل على ذلك ما فعله عثمان مع الوليد بن عقبة رغم أنه من أقاربه
    أما فضل عثمان بن عفان ففيه من السيرة العطرة ما يشرف أى أمة تنتسب إليها مثل الشخصية الفريدة ,
    فيكفيه شرفا قول النبي عليه الصلاة والسلام أن عثمان تستحي منه الملائكة كما ثبت فى الصحيح , ويكفيه أنه كان زوج ابنتى النبي عليه الصلاة والسلام رقية وأم كلثوم وهذا نقطة تشير إلى مكانته الفريدة حتى يرتضيه النبي عليه السلام زوجا لبنتين من بناته
    وأعز الله به الإسلام سواء فى بداية الدعوة أو فى المدينة أو بعد خلافته , ففي خلافته أشرقت البلاد بالرغد وانتشر الإسلام إلى مزيد من أقطار الأرض , وقبل الخلافة كان مناصرا للنبي عليه السلام بنفسه وماله وكان هو الذى اشتري للمسلمين بئر رؤمة التى كانت ملكا ليهودى بالمدينة استخدمها للضغط على المسلمين وابتزازهم فاشتري عثمان منه نصف البئر ثم اشتراه كاملة بعد ذلك ووهبها للمسلمين بلا أجر
    وفى أحد أعوام المجاعة بالمدينة أقبلت إحدى قوافله التجارية للمدينة تسد البصر , فهرع إليه التجار من كل ناحية يرغبون فى شراء بضائعه فأبي بيعها ووزعها كاملة فى سبيل الله وأعلن أنه لا يتاجر فى القوت والناس على جوع وفاقة ,
    وفى غزوة العسرة تلك الغزوة الشريفة التى قال الله عنها فى كتابه :
    [لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {التوبة:117}

    لما حفلت به تلك الغزوة من مشقة فى التجهيز , فجاء عثمان رضي الله عنه فجهز جيش العسرة كله من خالص ماله وانبهر به النبي عليه الصلاة والسلام فقال
    ( ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم )
    كما شهد له النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة وبشره بها على بلوى تصيبه وهى الفتنة , وبسبب هذه البشارة وهذا العهد امتنع عثمان رضي الله عنه من فض الثوار والغوغاء بالقوة وأمر أصحابه بترك السلاح وفدى الأمة بنفسه رضي الله عنه ولم يقبل أن يقتل بسببه صحابي واحد فى الدفاع عنه

    الهوامش :

    [1]ـ روايات الكذابين فى التاريخ الإسلامى ـ بحث للدكتور خالد كبير علال
    [2]ـ مرويات أبي مخنف فى تاريخ الطبري ـ رسالة دكتوراة للدكتور يحيي ابراهيم ـ جامعة الامام بالسعودية
    [3]ـ يراجع رد تلك الشبهات فى كتاب ( حقبة من التاريخ ـ عثمان الخميس )
    [4] ـالطبقات الكبري لابن سعد ـ ترجمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
    [5]ــ العظماء مائة أعظمهم محمد ـ مايكل هارت ـ ترجمة أنيس منصور
    [6] ــ السيرة النبوية الصحيحة ــ د. أكرم ضياء العمرى ــ طبعة مكتبة العلوم والحكم ــ المدينة المنورة
    [7]ـتحقيق موقف الصحابة من الفتنة ـ د. محمد أمحزون
    [8]ـ المرجع السابق ـ خلافة عثمان رضي الله عنه
    [9]ـ عصر الخلافة الراشدة ـ د. أكرم ضياء العمرى
    [10]ـ مصنف بن أبي شيبة ـ الجزء الثالث
    [11] ـ العواصم من القواصم ـ القاضي أبو بكر بن العربي

  7. #7
    الصورة الرمزية محمد جاد الزغبي شاعر
    تاريخ التسجيل : Jan 2006
    العمر : 46
    المشاركات : 705
    المواضيع : 83
    الردود : 705
    المعدل اليومي : 0.11

    افتراضي


    رابعا : تولى الإمام علىّ فى ظل ظروف الفتنة القائمة وكان أهم ما يشغله أن يطهر المدينة من الشراذم التى شاركت فى القتل ثم يبدأ فى البحث والتحقيق عن قتلته للقصاص , لا سيما أن الفاعلين كانوا مجهولين بأعيانهم وكل ما عرفه الإمام علىّ أنهم شراذم من البصرة والكوفة ولكن الرأس المدبر لم يكن واضحا
    وأرسل الإمام علىّ بولاته للأمصار طامعا أن تستتب الأمور أولا قبل الشروع فى تحقيق القصاص
    ولكن طلحة والزبير طالباه بسرعة القصاص خوفا من أن يتكرر انفلات الأمور ويفلت الجناة بفعلهم أو يحتموا بقبائلهم كما حدث فعلا بعد ذلك .
    فرفض الإمام علىّ التعجل لا سيما وأنه كان يفتقد القوة العسكرية اللازمة لتطهير المدينة , فاستأذن طلحة والزبير رضي الله عنهما للخروج إلى مكة وخرجا فعلا وهما ينويان تشكيل جيش يأخذون به القصاص من الذين فروا بفعلتهم إلى الكوفة والبصرة وهناك التقوا مع أم المؤمنين عائشة التى وافقتهم الرأى على ضرورة الأخذ بثأر الخليفة الشهيد بعد أن تزلزل كيانهم من الفعل الشنيع , وبعد أن زج المنافقون بأسماء الصحابة فى مؤامرة تشويه الخليفة الراشد فزوروا خطابات بأسماء على وطلحة والزبير وعائشة تدعو الناس إلى قتال عثمان , وهذا مما زاد من غضب الصحابة رضي الله عنهم
    وخرج جيش طلحة والزبير والسيدة عائشة إلى العراق بهدف إدراك حق عثمان من الذين فروا ولم ينتبهوا إلى أن رءوس الفتنة لا زالوا مندسين بالمدينة وفى قلب الجيش الذى شرع الإمام علىّ فى تشكيله
    ووردت أنباء جيش طلحة والزبير للإمام علىّ فشد الرحال إلى العراق ليري الأمر وأدركهم هناك بعد أن خاضوا جولة أو جولتين وتفهم الطرفان الموقف واتفقا على اتحاد الجيشين والعمل تحت قيادة واحدة
    ومن أعظم الإفك ما رددته الروايات المألوفة من أصحاب الفتن من أن جيش أم المؤمنين خرج بنية الخروج على الإمام علىّ ونقض بيعته , وكيف يكون ذلك وقد خرج الجيش إلى العراق أساسا , بينما الإمام على فى المدينة !
    وبالإضافة لتلك الروايات زاد الرواة إشاعة شهيرة وهى أن طلحة والزبير شهدا شهادة زور أمام أم المؤمنين عند ماء الحوأب وهذا من الإفك المبين الذى لا أصل له فى نقل ولا عقل [1]
    ونعود للقصة الحقيقية حيث التقت أطراف التفاوض لتسوية الأمر وهو ما تم فعلا
    وكما يقول بن كثير (بات المؤمنون بخير ليلة وبات المنافقون بشر ليلة ) [2]

    فعندما بلغت أنباء التفاهم بين الطرفين آذان عبد الله بن سبأ وزمرته أدركوا على الفور أن هذا التصالح سيمنح الفرصة للإمام علىّ فى كشف الأمر واستخراج القتلة من جيشه بسهولة بعد استقرار الأمور
    فما ضيعوا وقتا ,
    وعملت كتيبة منهم على اقتحام جيش طلحة والزبير ليلا وهم نيام وأعملوا فيهم طعنا وقتلا ونادوا بأن جيش علىّ غدر بهم وفى جيش الإمام علىّ فى نفس التوقيت فعلت كتيبة أخرى المثل واشتعلت المعركة على حين غرة
    وهذه كل الروايات المثبتة فى شأن وقعة الجمل من كتب التاريخ المحققة
    * يقول الباقلاني ( التمهيد فى الرد على الملحدة ـ 223)
    وقال جملة من أهل العلم إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة على الحرب بل فجأة، وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به، لأن الأمر كان قد انتظم بينهم وتم الصلح والتفرق على الرضا، فخاف قتلة عثمان من التمكن منهم والإحاطة بهم ، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا، ثم اتفقت أراؤهم على أن يفترقوا ويبدؤوا بالحرب سحرة في العسكرين ،
    ويختلطوا ويصيح الفريق الذي في عسكر علي: غدر طلحة والزبير، ويصيح الفريق الآخر الذي في عسكر طلحة والزبير: غدر علي، فتم لهم ذلك على ما دبروه، ونشبت الحرب، فكان كل فريق منهم مدافعاً لمكروه عن نفسه، ومانعاً من الإشاطة بدمه، وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى إذا وقع، والامتناع منهم على هذا السبيل، فهذا هو الصحيح المشهور، وإليه نميل وبه نقول

    * يقول ابن العربي فى ( العواصم من القواصم ص159)
    وقدم علي البصرة وتدانوا ليتراؤوا، فلم يتركهم أصحاب الأهواء، وبادروا بإراقة الدماء، واشتجر بينهم الحرب، وكثرت الغوغاء على البغواء، كل ذلك حتى لايقع برهان، ولا تقف الحال على بيان، ويخفى قتلة عثمان، وإن واحداً في الجيش يفسد تدبيره فكيف بألف

    * يقول ابن حزم (الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/238-239)
    وأما أم المؤمنين والزبير وطلحة - رضي الله عنهم - ومن كان معهم فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها... فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافاً عليه ولا نقضاً لبيعته ... وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا، فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة والتدبير عليهم، فبيتوا عسكر طلحة والزبير، وبذلوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم فرُدِعُوا حتى خالطوا عسكر علي، فدفع أهله عن أنفسهم، وكل طائفة تظن ولا تشك أن الأخرى بدأتها بالقتال، فاختلط الأمر اختلاطاً لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه، والفسقة من قتلة عثمان، لعنهم الله لا يفترون من شب الحرب وإضرامها

    * ويقول ابن كثير (البداية والنهاية 7/5.)
    واصفاً الليلة التي اصطلح فيها الفريقان من الصحابة: وبات الناس بخير ليلة، وبات قتلة عثمان بشر ليلة، وباتوا يتشاورون، وأجمعوا على أن يثيروا الحرب من الغلس

    * ويقول ابن أبي العز الحنفي ـ شرح العقيدة الطحاوية ( ص723)
    فجرت فتنة الجمل على غير اختيار من علي ولا من طلحة والزبير، وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين
    أما القول في أنها خرجت من بيتها،وقد أمرها الله بالاستقرار فيه في قوله تعالى: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولـى}
    فالرد عليه:
    أن عائشة -رضي الله عنها- إنما خرجت للصلح بين المسلمين، ولجمع كلمتهم، ولما كانت ترجو من أن يرفع الله بها الخلاف بين المسلمين لمكانتها عندهم، ولم يكن هذا رأيها وحدها ،بل كان رأي بعض من كان حولها من الصحابة الذين أشاروا عليها بذلــك
    يقول ابن العربي :
    ( وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس، ورجوا بركتها في الإصلاح وطمعوا في الاستحياء منها إذا وقفت للخلق، وظنت هي ذلك، فخرجت مقتدية بالله في قوله:
    { لاخير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس }
    وبقوله تعالى
    { وإن طائفتان من المؤمنين أقتتلوا فأصلحوا بينهما }
    هذا والآية نفسها ترد على من اتهم أحد الطرفين بالخروج عن الإسلام أو الفسق حيث أن نص الآية يقول
    { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] {الحجرات:9[
    أى أن القتال بين طوائف المسلمين لا ينفي عنهما الإيمان فضلا عن الإسلام وهذا أمر منطقي فى حالة اقتتال طائفتين تحسب كل منهما باجتهاد المخلص أنها على الحق
    وقد صرحت عائشة نفسها بأن هذا هو سبب خروجها، كما ثبت ذلك عنها في أكثر من مناسبة وفي غير ما رواية.
    فروى الطبري أن عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - :
    ( وهو والي البصرة من قبل علي بن أبي طالب أرسل إلى عائشة -رضي الله عنها- عند قدومها البصرة من يسألها عن سبب قدومها، فقالت: ( والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم، ولا يغطّي لبنيه الخبر، إن الغوغاء من أهل الأمصار، ونزاع القبائل، غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحدثوا فيه الأحداث، وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر، فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام، والشهر الحرام، ومزقوا الأعراض والجلود، وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم، ضارين مضرين غير نافعين ولا متقين، ولا يقدرون على امتناع ولا يأمنون، فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا، وقرأت:
    {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}
    فنهض في الإصلاح ممن أمر الله عز وجل ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصغير والكبير والذكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به ونحضكم عليه، ومنكر ننهاكم عنه ونحثكم على تغيــــيره

    وهكذا ومن خلال اتفاق أهل التحقيق نفهم أن القتال شجر على غير إرادة الطرفين فيه
    وعبثا حاول علىّ وطلحة والزبير تدارك الأمور فلم يفلحوا حتى انتهت المعركة بسقوط عشرات القتلى بين الفريقين وسيطر الإمام علىّ على الأمور بصعوبة وقام بتأمين أم المؤمنين عائشة وردها سالمة إلى المدينة المنورة ثم التفت إلى جيشه واتخذ الكوفة عاصمة له فى أكبر خطأ ارتكبه الإمام وندم عليه فيما بعد
    لم يكن جيشه يحوى من الصحابة الكثير بل كانت الغالبية العظمى منه من أهل الكوفة وفيهم من شارك بنفسه فى قتل عثمان رضي الله عنه وهؤلاء مثلوا صداعا فى رأس الإمام علىّ لكونهم أهل نفاق فضلا على أن رءوس الفتنة بينهم تقوم بواجبها على أكمل وجه فعاش الإمام علىّ بينهم أسوأ سنوات عمره
    وقد تشوهت وقائع معركة الجمل وحملت اتهامات عديدة لأم المؤمنين وطلحة والزبير ولها من روايات الشيعة الباطلة
    وثبتت أقوال الإمام على بحق الكوفة وأهلها وسبه لهم لعصيانهم له وخذلانهم لأمره وهم يزعمون أنهم شيعته وأحبابه

    فى تلك الفترة بالذات بدأت جذور فكرة التشيع الفارسي العقدى حيث أعلن بن سبأ أن الإمام علىّ كانت له الخلافة حصرا بعد النبي عليه الصلاة والسلام وأنه وصيه كما كان يوشع بن نون وصي موسي عليه السلام
    كما كان بن سبأ أول من أظهر السب والطعن بحق أبي بكر وعمر ونشره بين أهل الكوفة فبلغ هذا الكلام مسامع الإمام علىّ فصعد المنبر وهو يقبض على لحيته ودموعه تسيل على خديه وتبللها وقال خطبته الشهيرة التى بدايتها
    ( ما بال أقوام تتناول حبيبا رسول الله عليه وسلم وصاحباه ورجلىْ الإسلام)
    كما ثبت عنه من ثمانين وجها أنه قال على المنبر( من يفضلنى على الشيخين جلدته حد المفترى)
    وهم بقتل عبد الله بن سبأ لولا أن أقنعه بعض أصحابه أنه من قال ذلك عن طيش فتركه , فذهب هذا الملعون ينشر أول أقوال عقيدة التشيع وهى عقيدة الإمامة والوصاية بالوراثة على الدين وأن الأئمة محددين نصا وأنهم معصومون إلى غير ذلك من الأفكار التى وجدت فى البيئة الفارسية مرتعا كبيرا

    ثم دخل الإمام علىّ فى أمر معاوية رضي الله عنهما , وهى المسألة التى حظيت بأكبر قدر من التشويه على مدى التاريخ الإسلامى حيث حفلت بالأكاذيب التى حققها المحدثون وبينوها
    وأصل الخلاف بينهم لم يكن على الخلافة من قريب أو بعيد ولم يجرؤ معاوية طيلة حياة الإمام علىّ أن يطلب لنفسه الخلافة بل وضع شرط القصاص أمام قبوله بيعة الإمام علىّ
    ورفض الإمام على هذا الشرط وأصر على أن يبايعه أولا ثم يطلب القصاص باعتباره ولى دم عثمان , وكانت وجهة نظر واجتهاد الإمام على هى الصواب وكان معاوية أيضا مجتهدا فيما ذهب إليه وإن لم يكن الحق معه كما كان مع علىّ
    والقتال بينهما احتوته الآية الكريمة :
    { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ } {الحجرات:9}

    فليس معنى وقوع القتال بين جبهتين أن أحدهما فاسق أو كافر بل جعل اله الوصف للفرقتين هو وصف المؤمنين والبغي المذكور فى الآية لا يعنى التكفير من قريب أو بعيد
    يدل على ذلك أيضا ما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام عن الإمام الحسن الذى صالح معاوية فيما بعد فبشر النبي عليه السلام بذلك وقال :
    ( إن ابنى هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين )
    وقال النبي عليه الصلاة والسلام عن الفئتين أيضا :
    (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق )

    والفرقة المارقة المقصودة هى الخوارج الذين خرجوا على الإمام علىّ فى حرب صفين فقاتلهم علىّ فى معركة النهراون وهزمهم والنبي عليه الصلاة قال أن الذى يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق
    معنى هذا أن كلا الطائفتين على ومعاوية كان يجتهدان لبلوغ الحق لا الحكم والدنيا وأن اجتهادهما مأجور والأقرب للصواب هو جانب الإمام علىّ

    فأول التزوير والتلفيق : كان فى اتهام معاوية أنه سعي للحكم وهو ما يثبت من أى وجه وفى أى رواية أنه سمى نفسه أميرا فى مواجهة على بن أبي طالب بل ثبت العكس وهو إقراره بفضله ولكنه طلب دماء عثمان أولا

    وثانى أوجه التزوير: تمثل فى أن رواة الشيعة أوضحوا أن الطرفين كانا يلعنان بعضهما وهو كذب وزور مفضوح حيث رفض الإمام علىّ سب الخوارج أنفسهم رغم ظهور فسقهم فكيف بأهل الشام , وكان يراهم متأولين وينهى أصحابه وجيشه عن سبهم وكان يقول ( قولوا اللهم أصلح ذات بيننا وبينهم )

    وثالثة الأسافي فى التزوير : هى انتشار قصة التحكيم المكذوبة الشهيرة التى تداولتها الألسن وهى من رواية لوط بن يحيي الكذاب المشهور وتحمل طعنا فى معاوية وأبي موسي الأشعري وعمرو بن العاص وما جرى منها فى الواقع شيئا

    فقد نادى معاوية فريق علىّ بالاحتكام لكتاب الله فقبل علىّ على الفور ولم يجادل كما صورته كتب الشيعة وأرسل لهم أبا موسي ومعه عبد الله بن عباس وتقابل عن جبهة الشام معهم عمرو بن العاص ولم يستغرق النقاش طويلا حتى اتفق الطرفان عمرو وأبو موسي على أن يكون أمر قتلة عثمان ـــ لا أمر الخلافة ـــ فى يد جبهة مستقلة من الصحابة الذين لم يشاركوا فى القتال
    وهذه هى الرواية الصحيحة التى رواها الدارقطنى ونقلها عنه القاضي أبو بكر بن العربي فى( العواصم من القواصم ) وبين مدى الافتراء فى الرواية الباطلة للتحكيم والتى قالوا فيها أن عمرو خدع أبا موسي وأنه كان مغفلا وأنهما كان يناقشان أمر الخلافة إلى غير ذلك من الأكاذيب المشتهرة"[3]"
    وقبل عمرو بن العاص بقرار أبي موسي , ولكن الطرفان على ومعاوية لم يقبلا بالحكم وتجدد الخلاف بينهما

    ولكن الخلاف لم تنشأ عنه معركة أخرى حيث استشهد الإمام علىّ بيد عبد الرحمن بن ملجم الخارجى وتولى بعده الإمام الحسن الذى كان حاضرا مع أبيه تلك المشاهد ولقي من أهل الكوفة الإيذاء بما فيه الكفاية فرفض القتال وأرسل لمعاوية للصلح , ولما علم الشيعة من حوله بذلك طعنوه فى فخذه وأهانوه وسموه مذل المؤمنين فصمم على البيعة لمعاوية وهو ما تم بالفعل بعد ذلك لتجتمع الأمة فى عام الجماعة على البيعة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم جميعا

    وقد راجت عدة أكاذيب حول موقعة صفين وبحق الصحابيين الجليلين عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان منها :
    * أن عمرو بن العاص تحالف مع معاوية فى طلب الخلافة مقابل ولاية مصر , وهذا من الكذب الغير سائغ لأن أصل مطالبة معاوية بالخلافة ما ثبت من أى وجه فكيف يتفق معاوية مع عمرو على شيئ لم يتحقق أصلا ولا كان معاوية طالبا إياه فى حياة الإمام على أبدا
    وعن أبي مسلم الخولانى أنه دخل على معاوية فقال له :
    ( أنت تنازع عليا أأنت مثله )
    فقال معاوية :
    ( لا والله إنى لأعلم أن عليا أحق وأفضل بالأمر ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما وأنا بن عمه وأنا أطلب بدمه فاتوا عليا فقولوا له أن يدفع لى قتلة عثمان وأسلم إليه الأمور )
    وتكمل الرواية ( فأتوا عليا فكلموه فأبي عليهم ـ أى رفض عرض معاوية ـ ولم يدفع القتلة ) " [4]"
    هذا مع ملحوظة أن معاوية لم يبدأ بقتال أبدا ولم يخرج على الإمام علىّ بسيفه ولكن رهن البيعة بتنفيذ مطلب القصاص وهو حق مشروع كفله الله تعالى لولى الدم فى قوله تعالى
    [وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا] {الإسراء:33}
    أى أن لولى الدم سلطان فى مطالبته بحق القتيل , وهذا ثابت بحق معاوية ولم يجادل به أحد .
    أما إن قيل أن معاوية ليس هو ولى دم عثمان على اعتبار أن أبان بن عثمان على قيد الحياة وهو أحق بدم أبيه فيرد عليه بأن التشريع الإسلامى فى القصاص جعل ولاية الدم رهنا بالقدرة لا بقرب القرابة , وبالتعبير الدارج أن ولى الدم هو كبير العائلة التى ينتمى إليها القتيل وهذا باتفاق الفقهاء كما نقل بن قدامه وغيره

    أما بشأن عمرو بن العاص رضي الله عنه فهو أحد المهاجرين وأسلم طوعا وينسحب عليه من الفضائل ما ينسحب على سائر المهاجرين , وقد مدحه النبي عليه الصلاة والسلام فى قوله ( نعم المال الصالح للعبد الصالح )
    وقال فيه وفي أخيه سعيد بن العاص ( ابنا العاص مؤمنان )
    فهذا شهادة المعصوم عليه الصلاة والسلام بالإيمان والصحبة والفضل لعمرو بن العاص فاتح الشام ومصر , وتلك الشهادة لا تنقضها روايات الكذابين التى ادعت أنه باع دينه بدنياه

    ومن المختلقات والكذب أيضا أن على بن أبي طالب طلب من معاوية المبارزة فأيهما قتل صاحبه صارت الخلافة إليه ,
    وهذا طعن فى على رضي الله عنه أنه ينازع بالقتال على الخلافة , فواضعو هذه الروايات من الزنادقة لم ينتبهوا أنهم يسيئون إلى على بأكثر مما يسيئون لمعاوية حيث جعلوه فى معرض المنافسة الدنيوية على الخلافة ,
    وتكمل الرواية المختلقة أن عمرو بن العاص هو الذى برز للإمام على وقاتله الإمام وهزمه فلما أحس عمرو بالهزيمة كشف عن عورته أمام على ليتركه ,
    وهذا كله كذب صراح
    وتلك الروايات تناسب أخلاق الأعاجم الذين وضعوا أمثال تلك الأساطير دون أن يدركوا طبيعة المجتمع العربي والذى كان فى الجاهلية فضلا على الإسلام يموت دون كرامته ولا يفقدها
    فلما جاء الإسلام تمم تلك الأخلاق والمكارم , ولو جاز لنا أن نتصور حدوث مثل هذا الفعل من محارب عتيد مثل عمرو بن العاص لكنا بذلك نطعن فى شهادة النبي عليه الصلاة والسلام فيه , بالإضافة إلى أن هذا الفعل ما كان ليفعله عبد رقيق وليس رجل بمروءة عمرو بن العاص وكرامته واعتزازه
    هذا فضلا على أن الإمام على لم يطلب مثل هذه المبارزة من الأساس وهى من مختلقات أبي مخنف

    * من المختلقات أيضا أن معاوية بن أبي سفيان أمر بسب علىّ بن أبي طالب على المنابر وزادوا فى الرواية أن بنى أمية ظلوا مدة خلافتهم يسبون عليا رضي الله عنه سبعين عاما حتى جاء عمر بن عبد العزيز فأبدل ذلك الأمر
    وهذا من ناحية السند ساقط لا أصل له وأورده الشيعي المعروف أبو الفرج الأصفهانى فى كتابه الأغانى , وهو كتاب مسامرات لا كتاب تاريخ يعتد به فضلا على خلوه من الأسانيد المتصلة أو الصحيحة بالإضافة لشيعية صاحبه
    أما من ناحية المتن ,

    فمشكلة تلك الروايات أنها تتفق جميعا فى ضحالة فكر من ألفها , فالذى ينظر إلى صحاح السنة يجد فضائل على بن أبي طالب رضي الله عنه ملئ السمع والبصر وهى مكتوبة ومروية فى العهد الأموى فكيف يسبونه على المنابر ويشجعون العلماء على إبراز تلك المرويات
    هذا فضلا على أن الطاعنين بتلك الروايات يتجاهلون أن الإمام الحسن بايع معاوية بالخلافة راضيا وعهد إليه معاوية بولاية العهد فكيف جاز للحسن أن يسلم أمر المسلمين لرجل غير صالح فضلا على أنه يسب أباه ؟!
    وثبت حتى من كتب الشيعة أنفسهم أن الحسن والحسين رضي الله عنهما كانا يفدان على معاوية كل عام فيستقبلهما بالإعزاز والإكرام , فكيف يستقيم هذا مع أمره بسب أبيهما , "[5]"

    ثم أين بنو هاشم وأين الصحابة من هذا الفعل وهم الجيل الذين امتدحهم الله تعالى لأنهم يأمرون بالمعروف وينكرون المنكر !
    إنما الثابت الصحيح أن السب كان من جهة الخوارج ومن جهة النواصب الذين تخلفت عنهم الفتنة
    أما ما يستشهد به الشيعة اليوم من رواية صحيح مسلم أن معاوية أمر سعد بن أبي وقاص بسب علىّ
    فهذا كذب والرواية فى صحيح مسلم لا تحمل أمرا من معاوية بالسب بل تحمل استفسارا حيث يقول معاوية لسعد
    ( ما منعك أن تسب أبا تراب )
    فأجابه سعد بترديد فضائل على بن أبي طالب وانتهى الحوار إلى هذا الحد فالأمر كان استفهاما من معاوية عن إنكار سعد لسب السبابين فجاء جوابه بالسبب , تماما كما نسأل نحن فى عصرنا الحالى أى داخل جديد فى الإسلام :
    ( ما الذى دفعك للإسلام ؟ )
    فالغرض معرفة السبب وإلا كان هذا السؤال بناء على مقاييس الرافضة يحمل أمرا للمهتدى بالردة عن الإسلام !

    * ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه صحابي ثابت الصحبة ويثبت بحقه من الفضائل , ما يثبت لسائر لصحابة فضلا على أنه كان من كتبة الوحى بين يدى النبي عليه الصلاة والسلام وصح عنه أنه قال عن معاوية :
    ( اللهم اجعله هاديا واهد به ) "[6]"
    وقد حكم بلاد المسلمين عشرين عاما تمر كالبلسم فى تاريخ الإسلام ازدادت فيه الفتوحات واستقر أمر الدولة ,
    وقد قيل لعبد الله بن المبارك ( من أفضل معاوية أم عمر بن العزيز )
    فقال بن المبارك ( تراب فى منخرى معاوية مع رسول الله عليه الصلاة والسلام خير من عمر بن عبد العزيز )
    وهذا لما فى فضل الصحبة من مكرمة جعلها الله سبحانه وتعالى حقا لهذا الجيل الفريد
    أما أخطاؤه ,
    فكان منها أن أخذ البيعة ليزيد من بعده وكان يظنه صالحا وكفؤا للأمر , ولكنه ما أجبر مخلوقا على البيعة لولده , بل عرض البيعة له فقبلها من قبلها ورفضها من رفضها وكان الرافضون أقل فانعقدت ليزيد ,
    ويزيد كان فى حياة أبيه يختلف عن فترة حكمه كما ثبت من شهادة محمد بن على بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية , حيث كان يـُــظهر التقوى والصلاح وله سداد رأى , بيد أنه بعد توليه الخلافة ظهر منه نزوعه للدنيا , وهو من ولاة الأمر الفاسدين فى الخلافة
    بعكس أبيه الذى ثبت فضله من أكثر من وجه ,
    فهذه هى قصة الفتنة من وقائع مصادرها المحققة , بعيدا عن روايات التزييف المعهودة ,
    وموقف أهل السنة والجماعة من خلاف على ومعاوية رضي الله عنهما هو الموقف الواضح أن ما جرى بينهما قتال بين طائفتين من المؤمنين , كان الحق فيه لعلى بن أبي طالب ومعاوية كان مخطئا فى اجتهاده ,
    وأصل عقيدة السنة أيضا هو السكوت عما شجر بين الصحابة , ووضع ما بدر منهم فى الفتنة من أخطاء موضعها الصحيح , فنحن لا ندعى فيهم العصمة لكن بالمقابل نرفض تلويث هذا الجيل بروايات مختلقة تخالف الواقع وتخالف صريح القرآن
    وولايته ضمن الفترة التى امتدحها النبي عليه الصلاة والسلام فى حكم المسلمين حيث كان معاوية أول ملوك الإسلام
    فالحديث الصحيح يقول :
    ( تكون الخلافة بعدى ثلاثون عاما ثم تكون ملكا ثم تكون حكما وجبرية )

    فالممدوح هنا كان الخلافة الراشدة والملك والذم ألحق فقط بالحكم التالى على ذلك ..
    هذه باختصار حقيقة الفتنة الكبري ..
    وحقيقة أحداثها التى ينبغي لأى مسلم اليوم أن يعيها وأن يعي من قبلها فضل هذه الزمرة التى جعلها الله سبيلا إلى بلوغ دينه إلى كافة أقطار الأرض ..

    يتبع إن شاء الله

    الهوامش :
    [1]ـ المصدر السابق
    [2]ـ البداية والنهاية لابن كثير
    [3]ـ مرويات أبي مخنف فى تاريخ الطبري ـ مصدر سابق
    [4]ـ رواها الذهبي فى تاريخ الإسلام باسناد صحيح
    [5]ـ الشيعة وآل البيت ـ إحسان إلهى ظهير
    [6]ـ فضائل معاوية ـ للشيخ محمد أمين الشنقيطى

  8. #8

  9. #9
  10. #10
    الصورة الرمزية محمد جاد الزغبي شاعر
    تاريخ التسجيل : Jan 2006
    العمر : 46
    المشاركات : 705
    المواضيع : 83
    الردود : 705
    المعدل اليومي : 0.11

    افتراضي



    التعبير الأول :

    ( ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يعود الناس بالشاة والبعير , وتعودون أنتم برسول الله إلى رحالكم , والله لولا الهجرة لوددت أن أكون امرأ من الأنصار , اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار )

    القائل :

    من قول النبي عليه الصلاة والسلام [1]

    الموقف :

    جاء فتح مكة بعد طول انتظار من النبي عليه الصلاة والسلام , ومن الصحابة رضوان الله عليهم , وذلك فى 20 رمضان من السنة الثامنة للهجرة ,

    ودخلت إلى الإسلام قريش بعد أن أطلقهم النبي عليه الصلاة والسلام فتسموا بالطلقاء , وبفتح مكة انتهت مرحلة الهجرة بقوله عليه الصلاة والسلام ( لا هجرة بعد الفتح ) , حيث كانت فضيلة الهجرة فى السابقين الأولين من المهاجرين الذين هاجروا للمدينة والأنصار الذين نصروا النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته , وأصبح لتلك الزمرة فضل السبق , مع عموم الفضل القطعى على كافة الصحابة من الله عز وجل وذلك فى قوله تعالى :
    [ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] {الحديد:10}

    وبعد الفتح جلس النبي عليه الصلاة والسلام يقسم بعض العطايا وخص بها المسلمين الجدد من قريش وبعض قبائل العرب التى وفدت إليه , وذلك بنية تألف قلوبهم وترغيبا لهم فى الإسلام , ولم يقسم فى تلك العطايا شيئا للأنصار أو للمسلمين القدامى , وكانت ثقته بهم أنه أوكلهم إلى إسلامهم حيث أنهم ابتغوا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام منذ بايعوه وأخلصوا الدين لله , وحموا نبي الله ورسالته حين اختار المدينة المنورة محطا له ورحالا , فنالت بقدومه شرفا لا يدانيه شرف , ونال الأنصار بذلك مدح الله تعالى ونصرته لهم بنصرهم لله ورسوله عليه الصلاة والسلام ..

    فلما رأى الأنصار تقسيم العطايا لم يصل إليهم , تضايق البعض منهم ــ لا حبا فى المال والدنيا ــ وإنما هى الرغبة فى عطاء النبي عليه الصلاة والسلام وبركة هذا العطاء , وشعر البعض منهم بشعور الغبن أن النبي عليه الصلاة والسلام خص أقواما حديثي عهد بالإسلام , فظنوا ظنا خطأ أن هذا العطاء هو من باب التكريم , لا من باب تألف القلوب ..

    ولو أنهم أدركوا حقيقة هدف النبي عليه الصلاة والسلام من أنه وثق بعمق إيمانهم لرضوا قطعا , وإنما أعطى هذا المعشر حديثي العهد بالإسلام تألفا للقلوب , ولا شك أن الأنصار والمهاجرين أكمل إيمانا من هؤلاء ,

    فذهب بعضهم إلى الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه , وأسروا إليه بما فى نفوسهم , وكان سعد بن عبادة مع سعد بن معاذ رضي الله عنه يمثلان زعامة المدينة قبل الإسلام حيث كانا على رأس الأوس والخزرج ..

    وكانت لدى سعد بن عبادة طبيعة خاصة ,

    حيث كانت فيه حمية وحدّة فى الحق , وكانت له غيرة معروفة للغاية على ما يعتقده حقا فى نفسه , وقد تأكدت هذه الغيرة والنفس المباشرة لسعد بن عبادة فى أكثر من موقف , ويعتبر أشهرها ما علق به عندما حدثهم النبي عليه الصلاة والسلام بضرورة الإتيان بأربعة شهود على حالة الزنا كشرط إقامة الحد ..
    هنا قال سعد بلا ترو وهو مندفع : أترك لكاعا وجدته مع أهلى لا أهيجه حتى آتى بأربعة شهداء ! والله ما له عندى إلا السيف صارما غير مصفح
    فهنا تدخل الأنصار الحاضرين فى مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا معتذرين للنبي عليه الصلاة والسلام :
    يا رسول الله اعذره , إنه رجل شديد الغيرة ما تزوج امرأة قط فجرؤ أحدنا أن ينكحها بعده ..
    فتأملهم النبي عليه الصلاة والسلام ثم قال فى صرامة :
    إن سعدا يغار , وأنا أغير من سعد , والله أغير منى ولهذا حرم على عبده الفواحش ..

    أى أن النبي عليه الصلاة والسلام وإن كان قد عذر سعدا , إلا أنه أوضح للجمع عنده أن سعدا ليس أغير منه ولا من الله على المحارم , ولكن الغيرة لا تعنى الظلم , ولولا الشروط التى وضعها الله سبحانه وتعالى لإقامة الحدود , ما وسع مسلما أن يبقي آمنا من الظلم فى بيته , وليست الغيرة أيضا أن نتعدى حدود الله تحت تأثير الإنفعال , فما شرع الله هذه الشروط لكى يفلت مجرم من عقاب بل شرعها لكى لا يـُــتهم برئ بلا بينة

    القصد ,
    أن هذه الطبيعة الحامية لسعد بن عبادة كانت ملازمة له , لكنه كان فى نفس الوقت ــ على عادة الصحابة جميعا ــ رجّــاعا للحق متى وجده ,
    فعندما اشتكى إليه هؤلاء النفر من الأنصار غار عل قومه الغيرة الطبيعية فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال:
    يا رسول الله ، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم ، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت ، قسمت في قومك ، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء ..
    فقال : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ ( يعنى إن كان هذا موقف قومك فما هو رأيك أنت )
    قال سعد : يا رسول الله ، ما أنا إلا من قومي ..
    فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة
    فخرج سعد ، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة .. فلما اجتمعوا له أتاه سعد ، فقال : قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار ،
    فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال :
    يا معشر الأنصار ما مقالة ، بلغتني عنكم ، وجدّة وجدتموها علي في أنفسكم ؟
    ألم آتكم ضلالا فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم
    فرد الأنصار خاشعين : بلى ، الله ورسوله أمن وأفضل .
    فاستطرد النبي عليه الصلاة والسلام وهو يجوّل بصره بينهم :
    ألا تجيبونني يا معشر الأنصار ؟
    قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المن والفضل
    قال صلى الله عليه وسلم : أما والله لو شئتم لقلتم ، فلصدقتم ولصُدقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطريدا فآويناك ، وعائلا فآسيناك

    انظر أيها القارئ الكريم إلى هذه العظمة فى هذا الموقف الجليل , فالنبي عليه الصلاة والسلام ذكرهم أولا بمنة الله وفضله , ولو كانت نفوس الأنصار من النفوس التى ترغب فى الدنيا وتأخذها الحمية لردوا على مقالة النبي عليه الصلاة والسلام بذكر سابقة جهادهم ..
    لكن ويالعظمة هذا الجيل الكريم ..
    صمتوا وأقروا وأذعنوا أن لله ورسوله عليه الصلاة والسلام الفضل كله , ومع ذلك ورغم صمتهم , قالها النبي عليه الصلاة والسلام وذكر لهم فضلهم وعملهم وحسن سيرتهم مع الله , ولم يغضب من الموقف بل أقر لهم بأن لهم السابقة فى النصر والمواساة بالنفس والمال
    فانظروا إلى عظمة المعلم وعظمة التلاميذ , وعظمة المنهج الذى رباهم عليه النبي عليه الصلاة والسلام ..

    ونعود إلى الحوار البديع حيث استطرد النبي عليه الصلاة والسلام قائلا :
    أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا . ووكلتكم إلى إسلامكم ، ( هنا انكشف أمام القوم حقيقة العطايا , وكيف أنها ليست فى ميزان المكافأة والتكريم والتقدير , بل هى فى ميزان تألف ضعاف الإيمان وحديثي العهد بالإسلام وبالتالى ما كانوا ليرضوا بها لأنفسهم ولا يرضاها لهم النبي عليه الصلاة والسلام )
    ثم قال :
    ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا ، لسلكت شعب الأنصار
    اللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار , وأبناء أبناء الأنصار

    هنا شملت الرعدة جميع من حضروا من الأنصار رضي الله عنهم , وهم يستمعون إلى هذا التعبير الجلل والتقدير الأعظم من النبي عليه الصلاة والسلام , حيث رضي للناس بأن يكون نصيبهم العطايا وخصهم بنفسه الشريفة , بل خصهم بالدعاء الذى تناقلت شرفه الأجيال وهم يغبطون الأنصار على ما أتاهم الله من فضله ..
    فبكى كل من حضر هذا الموقف بكاء شديدا حتى أخضلوا لحاهم , وكان سعد بن عبادة أشدهم بكاء وتأثرا ..

    وهذا الموقف العظيم , نستفيد منه دروسا وعبرا كثيرة ,
    ولو أن أهل الحكمة تأملوا فى مواقف النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته , لما شبعوا منها أبدا فهى منابع فياضة جيلا بعد جيل ,
    ومن أهم ما نتعلمه فى هذا الموقف , درسٌ بليغ للغاية فى العلاقة الإنسانية والأخوة الإسلامية ,
    ألا وهو أهمية المصارحة وعدم كتمان ما تختلج به النفس من الخواطر ,
    سواء كانت تلك المصارحة من المرء مع قرينه كالأخ أو الصديق , أو مع من هو أعلى مقاما كالأب والمعلم , وأن هذه المصارحة تعتبر ضامنة البناء ورفاء الود وهى التى تسد باب النفس والشيطان حتى لا تتوالد الخواطر مع بعضها البعض فتفسد العلاقة مهما بلغ إحكامها ..
    وينبغي لنا ــ كما رأينا فى موقف الأنصار ــ ألا نخجل من خاطرات النفس مهما بلغت عتيا , وعلينا المصارحة بها لأننا لو سكتنا مخافة الحرج أو الخوف أو الهيبة , واحتفظنا لأنفسنا بخواطرها لزادت الوساوس فيما نظنه حقا وبدت العداوة والبغضاء من جراء ذلك , وهذا يستبين لنا جليا لو أننا تصورنا مثلا أن الأنصار طووا نفوسهم على خواطرهم ولم يفصحوا ,

    إذا ما كانوا سمعوا الإيضاح الذى يُجلّى بصائرهم من النبي عليه الصلاة والسلام , وإجلاء البصيرة هنا هو علاج وترياق الوسوسة بسوء الظن ــ مع ملاحظة أن شعور الأنصار لم يكن سوء الظن حاشا لله بل كان شعور العتاب ــ ولكن الغالب فى العلاقات الإنسانية هو سوء الظن , وقد تكون تلك الوساوس لا أصل لها ولا محل , وغالبا ما تكون ناجمة عن سوء فهم لا أكثر
    وكم من علاقة وطيدة هدمها الإخفاء وعدم العتاب أو المصارحة بين المتحابين , ذلك أن الظنون تبدأ وليدا ثم تثمر بعد ذلك مع الكتمان وتوارد الخواطر ..

    مثال ذلك مثلا لو أن طالب علم شاهد من معلمه أو من عالم يتتلمذ عنده موقفا مناقضا للشرع أو للمروءة أو ما شاكل ذلك , لو أنه صارح به معلمه بالأدب الواجب لذهب الشك وسوء الظن بإيضاح هذا العالم , أما إن امتنع طالب العلم عن الإستيضاح فغالب الأمر أنه سيبقي فى ذهنه من ذلك شيئ وربما قاده هذا إلى ظلم مبين لشيخه على مجرد وساوس وخطرات لم يفهمها هذا الطالب
    وقد رُوى عن حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما , أنه كان فى مجلسه فدخل عليه طالب فتوى ,
    فقال له : هل للقاتل من توبة ؟
    فتـفــرّس بن عباس فى الرجل مليا ثم قال له : كلا .. ليست له توبة !
    هنا اندهش من فى المجلس من الإجابة , لكنهم لم يعترضوا أمام طالب الفتوى , فلما انصرف الرجل التفتوا إلى ابن عباس مستفهمين عن مبرر هذه الفتوى الغريبة لأن التوبة مفتوحة أمام كل ذنب وأى ذنب , وقد ورد فى صحيح البخارى قصة القاتل الذى قتل مائة نفس فاستفتى عالما هل له توبة , فقال له العالم نعم , فتاب القاتل ومات على ذلك فغفر الله له ..
    هنا نجد أن تلامذة بن عباس طبقوا النهج النبوى بحذافيره , فهم لم يصمتوا عن سؤالهم ولم يظنوا بشيخهم ظن سوء من قلة علم أو مخالفة للشرع , بل ظنوا الظن الحسن أن هناك مبرر لا يعرفونه وفطن له ابن عباس , ورغم أنهم لم يكتموا سؤالهم , إلا أنهم تحلوا بالأدب الواجب بين يدى العلماء فلم ينكروا على ابن عباس علانية أمام طالب الفتوى وهذا من أوجب الواجب , بل انتظروا حتى انصرف الرجل ثم راجعوا شيخهم ..
    وهنا التفت إليهم بن عباس قائلا : نعم للقاتل توبة , لكن هذا الرجل لم يقتل بعد , بل جاء مستفسرا حتى إذا ما علم أن للقاتل توبة نفذ نيته فى القتل بدون وجه حق , ولهذا أفتيته بما يردعه عن هذا الإثم العظيم ..

    انظروا أيها القراء الكرام إلى مدى اتساع فقه ابن عباس وبصيرته النافذة , فقد أدرك بفراسته هدف الرجل , ولم لم يكن بن عباس وهو من هو فى الفقه , لأفتاه بالحكم الشرعي دون النظر إلى حاله وتسبب فى وقوع الرجل فى إثم القتل فضلا على قتل نفس بغير حق ,
    وهذا يقودنا إلى حقيقة مخيفة فى زماننا هذا بعد أن كثر المتصدون للفتيا دون تأهيل علمى من علم أصول الفقه , هذه الحقيقة هى أن لكل مستفتى خصوصية فيما يسأل فيه , فلا ينبغي للعامى أن يقيس نفسه على فتوى صدرت بحق غيره , كما يفعل العامة هذا الزمان حيث يأخذون من الفضائيات فتاوى لم تصدر لهم خصيصا فيطبقونها علي أنفسهم دون دراية بوجود موانع خاصة لديهم تميزهم عن طالب الفتوى الأصلية ..

    ومن الدروس الخطيرة المستفادة من موقف الأنصار مع النبي عليه الصلاة والسلام , أن المصارحة ــ وإن كانت ضرورية ــ إلا أن هذا لا يعنى أن تتم علانية , بل يجب أن يتم فى السر حكرا على أصحاب الشأن وحدهم , كما رأينا فى موقف سعد بن عبادة رضي الله عنه , عندما انفرد بالنبي عليه الصلاة والسلام فأسَرّ له , فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بأن يجمع له الأنصار وحدهم ــ دون غيرهم كما تقول الرواية عند ابن اسحاق ــ فاستمع منهم وأجابهم باعتبارهم هم أصحاب هذا الخاطر ..
    وهذا يقودنا إلى ضرورة اقتصار المصارحة ــ حتى لو كانت فى حق ــ على أهل الشأن وحدهم , ولو لم يكن هذا ضروريا لكان أدعى للمفسدة الأكبر , فتخيلوا معى لو أن سعد بن عبادة جهر بما يظنه حقا واعتبره ظلما قد وقع عليه وعلى قومه , لكان هذا الإعلان مدعاة لإفساد العلاقة بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام ــ وحاشاهم من ذلك , لكن السرية وفّرت جو الخصوصية الذى سمح للأنصار بتدارك خطئهم على نحو سريع ودون أن يتورطوا فى خطأ أكبر ..
    بالمثل ..
    فى موقف بن عباس رضي الله عنهما , تخيلوا معى لو أن جمع طلاب العلم عنده قام وتكلم بالحق الذى يعرفه , فأنكر على بن عباس علانية أمام طالب الفتوى عملا بإنكار المنكر والأمر بالمعروف , إذا لكانت كارثة حيث سينتبه المستفتى لغرض بن عباس ويضيع ما فعله هذا الأخير لإنقاذ الرجل من تلك الجريمة التى ينويها .. ومن هنا أرسي علماؤنا الأوائل قاعدة هامة لطلاب العلم وهى ألا يتقدم طالب العلم بين يدى شيخه , وينتظر الإذن أولا

    وحتى لو كان هناك خطأ فعلى لا يوجد له تبرير حقيقي يغير من طبيعته الظاهرة , فالسرية هنا مطلوبة وأدعى للود والإحترام ومن باب النصيحة فى السر التى قد تصبح فضيحة فى العلن , فلو أننا رأينا زلة عالم مثلا فنبهناه لها سرا فتراجع هو بنفسه عنها لكان هذا خيرا من أن نعلن خطأه على الناس فيحمله الكبر على رفض الحق , وكون الذنب واقعا على صاحب الجهر وإن كان يقول الحق ..
    ولا يستوجب الأمر العلانية إلا عند المكابرة أو عند عدم استطاعة الإنكار فى السر ,
    وهذا طبعا فى إطار العلاقة بين أهل الخير ومن فى قلوبهم الخير ومن أولئك الذين يقعون فى الخطأ ــ مهما كبر ــ ولكنهم لا يصرون عليه
    أما الإنكار على أهل الباطل المصرين على باطلهم فله قواعده التى تخالف ذلك , فينبغي للقارئ الكريم أن ينتبه للفارق , فالإنكار على أصحاب البدع مثلا أو أصحاب الكفر والإلحاد إذا ظهر باطلهم عيانا لناس ولم يرتدعوا لدين أو خلق , فالإنكار عليهم علانية هو الأصل , ولا تكون السرية إلا لمن يجد فيهم مثقال ذرة من خير للإجابة وإلا اعتبروا الناصح ضعيفا أو متنطعا ..

    ومن الدروس الرائعة حقيقة , من هذا الموقف الكريم ..
    هو الدرس النبوى الخلوق الذى علمنا إياه رسول الله صلي الله عليه وسلم , وهو ألا نحاكم الناس على حاضر مواقفهم , وننسي أفضالهم السابقة ..
    وكثير منا اليوم يقع فى هذا الخطأ الجسيم , حيث يعتبر بعض الناس أن المقربين منهم قد قطعوا ما بينهم من الود لمجرد خطئ عارض وقع منهم , وهذا ظلم كبير ,
    إذ أن النبي عليه الصلاة والسلام قدّر الفهم الخاطئ للأنصار , ولم يعاقبهم على أمر ملتبس عليهم , بل أوضحه لهم , ولم يكتف بذلك بل ذكّرهم بفضلهم ومقدارهم , وبأنهم مستحقين لما هو أكبر مما يظنونه مكافأة , وهذا من الدفع الحسن الذى تتآلف به القلوب , فتتماسك بعد مواقف العتاب بأكثر مما كانت متماسكة قبله ..
    وفى هذا قال حكماء العرب ( إنما العتاب رفاء الود )

    لأن العتاب لا يكون إلا بين المحبين , فحيثما وقع لأحد من الناس موقفا كهذا فرأى من أخيه عتابا له فى غير محله , فلا ينبغي أن يسارع عليه بالإنكار والغضب والإتهام بالظلم وبأن نيته تجاهه سيئة , بل يجب أن يوضح له سوء الفهم بالرفق واللين ويجعل ذلك فى غلاف من المحبة والسكينة ترد للمعاتب عتابه على هيئة مودة أكبر ومحبة أعمق ,
    فلا ينبغي للمرء أن يغضب لاتهامه من أخيه ظلما , لأن النفوس مجبولة على الظن السيئ وعلاجها إنما يكون بالحسنى طالما أن العلاقة بينهما وثيقة وتاريخهما معا يسمح بهذه الهفوات ..
    ولا ينبغي أن نحاكم الناس على آخر أفعالهم وننسي مآثرهم السابقة , فليس هذا من شيم الكرام , فالعدل والإنصاف خُلُقٌ عربي أكده الإسلام فى القرآن الكريم حيث يقول عز وجل :
    [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {المائدة:8}

    فإذا كانت الآية الكريمة تحملنا على عدم الظلم حتى فى مواجهة الخصوم الباغين , فمن باب أولى أن نلتزمها فى مواجهة المقربين , وظلم الأخ لأخيه بسوء الظن , إنما هو من الشيطان فلا ينبغي على المظلوم أن يعين الشيطان على أخيه بالرد العنيف على الظلم , بل يجب أن يتلقاه بالإحسان فهذا أدفع لمكايد الشيطان , والنبي عليه الصلاة والسلام يقول ــ فى حديث مسلم ــ :
    ( إن الشيطان يأس أن يعبده المصلون فى جزيرة العرب , ولكن فى التحريش بينهم )


    ومن الدروس الجزيلة فى هذا الموقف أيضا ..
    ألا يبيع المرء الآخرة بالدنيا ــ وإن عظمت ــ وألا يرضي الكريم بالدنية ــ وإن كبرت ــ فالأنصار وبمجرد أن أدركوا حقيقة عطاء النبي عليه الصلاة والسلام , أن هذه الأموال تألفا لمن لم يشتد عود إيمانه , إذا بهم على الفور ينسون المال وينسون والعطايا فى مقابل الإحتفاظ بمكان ومكانة الإيمان عند الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ,
    وهذا فضلا على أنه واجب دينى محض , فإنه أيضا واجب أخلاقي يشي بطيب المعدن , وهو خُلقٌ طالما افتقدناه فى عالمنا المعاصر حيث يسرع المرء إلى المكاسب المادية ــ حتى لو كانت حلالا ــ مهما كان موقف أخذها موقفا غير كريم , فما بالنا بمن يسارع للمكاسب المادية وهى أصلا من كسب حرام صريح , ولا يبالى فى سبيل المال قل أو كثر من أين المنابع منبعه ,
    وإذا كانت الخلق الإسلامى الصحيح يستدعى منا الورع فى الحلال , فمن باب أولى أن نتورع عن ما كان حراما صريحا أو فيه شبهة ..
    وهذه الأخلاق العظيمة هى التى وُجِدت بالأصل فى أمة العرب قبل الإسلام ثم جاء الإسلام فتممها وأخلصها لله عز وجل , وهو ما يتضح من حديث النبي عليه الصلاة والسلام :
    ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) "[2]"

    فالموقف يعلمنا التورع وطلب المعالى فى مواقف الإختيار بين الكسب المادى والكسب المعنوى , وبين أخلاق الكرام وبين أخلاق غيرهم , فضلا على أن مجمل هذا الموقف يعلمنا فضيلة الرجوع للحق والإعتذار عن الخطأ بلا مكابرة أو كثير جدال , وبهذه الأخلاق ربي النبي عليه الصلاة والسلام هذا الجيل فخرجوا أحرارا .. رضي الله عنهم جميعا

    الهوامش :
    [1]ــ سيرة بن هشام ــ الجزء الثانى ـ فتح مكة ـ المكتبة الإسلامية
    [2]ــ رواه البخارى فى الأدب المفرد وحسنه الألبانى فى السلسلة الصحيحة كما صححه بن عبد البر

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. التشابه والاختلاف في تعبيرات القرآن الكريم-حسين علي الهنداوي
    بواسطة حسين علي الهنداوي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 31-05-2016, 06:20 PM
  2. غابت شموس الحق
    بواسطة مقبولة عبد الحليم في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 24-11-2014, 05:19 AM
  3. غابت..شمس الظلام
    بواسطة ابراهيم أوحسين في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 30-06-2013, 02:32 AM
  4. شمسٌ غَابَتْ ..منْ يدلنا عليها
    بواسطة لطيفة أسير في المنتدى الروَاقُ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 25-06-2012, 03:21 AM
  5. عندما غابت الشمس
    بواسطة بن عمر غاني في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 12-06-2005, 10:17 PM