https://www.rabitat-alwaha.net/molta...ad.php?t=60145



قصيدة ( نحت وتعرية )
علامات على الطريق ..


جاءت قصيدة ( نحت وتعرية ) للشاعر الكبير الدكتور سمير العمري نقداً كاشفاً لزيف الحداثة التي باتت تنخر كالسوس في العظم ، ومن وحي هذه القصيدة الناقدة سوف أقف على أبرز ملامح الحداثة حسبما قادني فهمي وإدراكي للقصيدة ومعانيها ومراميها .. مستعيناً بالله تعالى ..

هل النقد مشروع شاعر فاشل ؟
أحياناً نعم وأحيانا لا ..
لكني سأجزم هنا أن قصيدة ( نحت وتعرية ) أحرقت هذا السؤال وأفحمته ، ليس بالإجابة عنه بـــ"لا" فقط ، بل بقلب الطاولة على أصحابها ..
نحن أمام نقد مختلف .. فالشاعر أصالي لكنه في الوقت نفسه ملّم بالحداثة ، حاك نقداً لها بأساليبها هي ، نحت في صخرها وبأدواتها تمثالاً على شاكلتها ثم قال لهم انظروا كم هو قبيح ..
نقد مختلف لا شك .. لاذع وساخر أيضاً لشكل ومضمون ما يسمى بالحداثة ..
والكلام عن الحداثة ذو شجون ..
فالأصالة والمعاصرة .. القديم والحديث .. جدل لا ينتهي ، لفّت بذراعه الساحة البشرية شرقها وغربها .. شمالها وجنوبها .. وباتت قضايا الأدب والفن داخل هذا الجدل منفلتة إلى حد كبير من توازنها وانضباطها ، لأن أصحابها الذين كان يرجى منهم ضبطها وموازنتها وتحريكها من عمق ماضينا بما يلبي حاجاتنا ويعبر عن آمالنا وآلامنا ، أصبحوا ببغاوات لا تجيد سوى تكرار المكرر ..

ومرة أخرى نقع فريسة شباك المستورد ..
أوهمونا بأن الاستيراد كان حتمياً فرض علينا ووجب أن نقبله برحابة صدر ضريبة لجمودنا وتخلفنا وإغلاقنا أبواب الاجتهاد والإبداع ، ولكن ـ سؤالاً يلح على الفهم ـ ألم تكن أوروبا أيضاً غارقة في الجهل والجمود والتخلف أكثر مما كنا ؟ فما الذي افترق إذن ؟ ولماذا صاروا مُقلَدين وصرنا مُقَلِدين ؟
والحقيقة أن الفارق الذي حدث بيننا وبين أوربا هو أن الأخيرة عندما بدأت تتخلص من براثن الكنيسة وقبضة السلطة البيوقراطية كانت تخيط لنفسها ثوباً يليق بها ومن مقاسها ، فتحركت صوب أهدافها التي تحقق حاجتها وذاتها ، ثم بدأت تتطور على هذا النسق ..
بينما بدأنا نحن برفض الجمود بلبس الثوب الذي حيك هناك في أوربا وليس عند خياطنا المسلم العربي !
أضرمت أوربا النار فانتقل دخانها ورمادها إلينا خانقاً أجواءنا مضيقاً أنفاسنا مغشياً بصائرنا .
نعم .. هذه هي مشكلة الحداثة في عالمنا العربي .. إنها حداثة نعم ولكنها ليست عربية على أية حال .. لم تنشأ في تربتنا ولم تُسق من مائنا ولا تنشقت هواءنا ..
يقول الدكتور عبدالعزيز حمودة في كتابه ( المرآيا المحدبة ) :
( حاول الحداثيون العرب منذ أوائل السبعينيات مباشرة ، أي في السنوات التي تلت النكسة وسقوط الحلم العربي ، تقديم نسخة عربية لحداثة تتعامل مع واقع الحضارة الغربية ) . ص23 .

وما لي أذهب بكم بعيد للمذاهب والقصيدة حاضرة شاهدة بيننا في تعرية الحداثي الذي جلس بصحن الحديقة يرتشف قهوته مسترجعاً ليلة أمس ، وما أدراك ما ليلة أمس ؟
بُطُولاتَ جِنْسِ
وَنَشْوَةَ كَأْسِ
وَرَقْصَةَ أُنْسِ
وَمَيْسِرَ شَهْوَةْ


وهي صورة تعيدنا بإلحاح إلى الحياة التي يعيشها أولئك ، وينطلقون منها إلى بناء أدبهم الخاص ، شارل بودلير الذي اعتبره غالي شكري نبياً للشعر الحديث ، أديب فرنسي نادى بالفوضى الجنسية والفكرية والأخلاقية ، كان يعيش حياة الفسق والانحلال ، وأصيب بداء الزهري ، عاش في شبابه عيشة تبذل وعلاقات شاذة مع مومسات باريس ، ولاذ في المرحلة الأخيرة من حياته بالمخدرات والشراب ، حتى ان فرنسا نفسها منعت نشر بعض قصائده ، وكان حياة أستاذه إدغار آلان بو مترعة بالقمار والخمر والعلاقات الفاسدة .
أما البنيوي ميشل فوكو وإصابته بالايدز جراء ممارسته الشذوذ الجنسي الذي يعتبرونه تجربة اكتشاف فليس ببعيد !
ونزار قباني ومحمود درويش .. وآخرون ..
وخلاصة الأمر هي كما قال أحدهم في شعر بودلير : ( إنك لا تشم في شعره الأدب والفن ، وإنما تشم منه رائحة الأفيون ) ..

وهنا تتساقط أقنعة الكذب والتزييف والادعاء بأن الأدب ليس إلا للأدب وان الفن للفن ، ولا شيء غير ذلك ، فالأدب حسب زعمهم ليس مرآة عاكسة للحياة وإنما كيان مستقل ، لكن مقارنة حالهم بأدبهم تزيل الغشاوة عن العيون ، فترى كتاباتهم ما هي إلا انعكاس لحالتهم البائسة الغارقة في فوضى العقيدة والفكر والروح ..
نعم .. يتساءل المرء كيف سيكون أدب هؤلاء مرآة لمجتمعهم ولوحة شفافة له ، وقد قلبوا الأدب إلى ثقب صغير ضيق تنبعث منه رائحة فكرهم الفاسد ومزاجهم الثمل وأخيلتهم الفاسقة بعيداً عن هموم وطنهم وتحدياته وصلاحه !
ولذا فها هو شاعرنا الحداثي يقلب جريدته ، ويمر بصور ومشاهد .. قصف ..شهداء .. نار .. حرق .. دماء .. اغتيال .. تخمة ومجاعة ..
ثم لا شيء غير تثائب وتراخٍ ، وما يهمه في الأمر كله ؟ لا شيء .. سوى ما يريد هو ..
مباراة .. نجوى فؤاد .. هيفاء وهبي .. لا بل عيونها ..
ثم
ويُمْسِكُ بِالقَلَمِ المُخْمَلِيِّ المُذَهَّبْ
وليس قلم الحرقة والمعاناة من أجل قضية عادلة أو نصرة مظلوم أو دفع شر .. بل قلم مستريح يدغدغ الغرائز والشهوات ، ويثير الشك والفوضى ..
وَيَكْتُبْ :
براءة ..
ولكن براءة من ماذا ؟ ولماذا ؟
من قوالب شعرية وأوزان وبحور ، بحجة قدمها وتغير الذائقة العربية ؟ براءة من الأشكال والصور الفنية ؟
كلا .. فليست الحداثة مدرسة أدبية في الكتابة والشعر والقصة والنقد فحسب ، وليست خروجاً عن قوالب أدبية وفنية واستبدالها بأخرى فحسب .. كلا ..
الحداثة شيء أكبر من كل ذلك وأعمق .. إنها منهج شمولي ونظرة شمولية لله والكون والإنسان .. وما الأدب والفن إلا غطاء يتستر به ذلك المنهج ..
( تبرأت ) إعلان صارخ لهوية الحداثة ، لدين الحداثة ..
إنها دين ضد دين ..
يقول غالي شكري في كتابه ( شعرنا الحديث إلى أين ؟ ) :
( مفهوم الحداثة عند شعرائنا الجدد مفهوم حضاري أولاً ، هو تصور جديد للكون والإنسان والمجتمع ... فلا يكون الشاعر معاصراً بمجرد أن يصف الصاروخ أو التلفزيون أو عظمة الاشتراكية ، مثل هذا الشاعر بالنسبة للمفهوم الحديث للشعر هو رجعي عظيم الرجعية ... الشعر الحديث موقف من الكون كله ، لهذا كان موضوعه الوحيد " وضع الإنسان في هذا الوجود " ) . ص114 .
ويقول سعيد السريحي :
( للحداثة مفهوم شمولي ، هو أوسع مما منح لنا ومما ارتضينا لأنفسنا ، ذلك أن الحداثة نظرة للعالم أوسع من أن تؤطر بقالب للشعر ، وآخر للقصة وثالث للنقد ، إنها النظرة التي تمسك الحياة من كتفيها، تهزها هزاً ، وتمنحها هذا البعد الجديد ) . الحداثة في ميزان الإسلام ، عوض القرني ، ص54 .
ويقول :

وهذا المنهج الشمولي والنظرة الكلية لا تتأتى إلا بعد أن تحدث ( البراءة ) من كل ما هو قديم وتراثي ( هَرْطَقَاتِ العَجَائِزْ ) وهي الإسلام وعقيدته ، وهذا ما يؤكده التبرؤ من كل ( مَا لا يَجُوزُ وَمَا هُوَ جَائِزْ ) ، أي لا دين ولا شريعة ، لا حلال ولا حرام ، لا قيم ولا فضيلة ولا عرف ..
تَبَرَّأْتُ مِنْ سَفْسَفَاتِ الفَضِيلَةْ
وَمَزَّقْتُ عَنِّي ثِيَابَ القَبِيلَةْ


ويعلن تحرره من نهج ( التقليديين ) الذين اغتالوا الخيال والنضال والجمال ..
وما الخيال عند الحداثيين ؟
هل إذا قلنا هو خيال انتهاكي مجنون أكثر مما هو إبداع واختراع سنبتعد عن المصداقية ؟
فأي خيال هذا الذي يضيع في متاهاته المعنى ويكتنفه الإغماض والسخرية من ذائقة المتلقي ؟ بل أي خيال كافر هذا الذي يتجاوز حده إلى التطاول على الذات العلية العظيمة ؟
وما النضال عنده إذا كانت كل إحداث الأمة الجسام ومصائبها المفجعة لا تهم شاعرنا الحداثي ولا تفعل فيه أثراً سوى تثاؤب ..
تثاءَبَ كَالقِطِّ حِينَ اخْتِيَالٍ
تَرَاخَى قَلِيلا وَعَادَ يُقَلِّبُ عَمَّا يُرِيدُهْ

وما الجمال عنده ؟ أهو دفء الغروب والتغزل بعيني ظبية شاردة في الفلاة أم هو كأس وجسد ، ليس له علاقة بالحق والأخلاق ، يجذب الإنسان إلى عالم الطين والتراب ، ولا يرفعه إلى عالم الرفعة والسمو ..

وبعد أن أعلن براءته وتحرره ، كشف عن أيمانه وعقيدته ، فإذا هي عشق وكأس وخمر الحقائق ، والحقائق عنده ليست حقائق الدين والأخلاق والفضيلة فقد تبرأ منها جميعاً ، وإنما حقائق الشك والضياع والفوضى ، حيث لا عوائق أي لا حرام أو لا يجوز ، فكل شيء مباح مشاع ..
وَآمَنْتُ بِالعِشْقِ يَمْلأُ كَأْسِي بِخَمْرِ الحَقَائِقْ
بِحُرِّيَتِي بَينَ زَهْرِ الحَدَائِقْ
بِلا أَيِّ عَائِقْ


ثم هو ـ أي الشاعر الحداثي ـ يميل إلى استحضار الرموز الوثنية ويتغنى بها ، كعادة الحداثيين الذين يريدون إحياء التراث الفرعوني والآشوري واليوناني والروماني على حساب التراث الاسلامي ، لذا تراهم يكثرون من استخدام الاساطير وأبطالها ورموزها ، بل إن من تولى كبر الحداثة غير اسمه من ( علي أحمد سعيد ) إلى ( أدونيس ) تيمناً بأسطورة أدونيس الفينيقية !
بِعشْتَارَ تَحْمِلُ فِي رَاحَتَيهَا الزَّنَابِقْ
بِفِينُوسَ حِينَ تَشِي لِلخُلُودِ بَأَسْرَارِ عَاشِقْ

ويدعون إلى إشاعة الشعوبية والدعوات الصوفية المنحرفة ، وعقيدة الخطيئة والصلب والفداء النصرانية ..

ثم يتوغل الحداثي في عقيدة كفرية ويبوح بها ..
فالإنسان غير الحداثي برأيه يعيش هباء ، دون هدف ولا غاية ، يتعلق بهرطقات العجائز ويغلق على نفسه سجن الحياة والجمال بيجوز ولا يجوز ! ثم يرفع يديه داعياً إلهاً لا يجيب الدعاء !
ومن هو الإله عند الحداثي أصلاً ؟
إذ تنضح كتاباتهم كفراً وإلحاداً واستهزاءً بالمقدسات الإسلامية ، وتطاولاً على الله تعالى وعلى أنبيائه وكتبه وشريعته ..
( سبحانك ربي هذا بهتان عظيم ) .

ويستدل على تخلفنا بحالنا الذي نعيشه ، وهو حال يعتبره نابعا من تمسكنا بالقديم والتراث والعادات التي هي جهل لا يُنبت ولا يُزهر حباً ، صمت لا يحصد شيئاً ..
دعوه وشأنه .. لا تقيدوه بأوهامكم ، هو سندباد يسافر أينما شاء ، ويثمل من أية خمرة شاء ، ويهيم في أية آلهة شاء .. دعوه وماذا تريدون منه وقد كفر بقيد القداسة ، وكفر بكل وصية ، وتبرأ من كل موروثاتكم ، وترككم وأمنياتكم التي تخدعون بها البسطاء .. دعوه فقد ملّ من كل شيء ، يريد حياة الهوى والغزل والأمل ، وطاووس أنثى يداعبه بأشهى القبل !
مَلَلْتُ الدِّمَاءَ مَلَلْتُ الكَيَاسَةْ
وَمِنْ نَهْرِ حَقِّي وَعُهْرِ السِّيَاسَةْ
وَمِنْ كُلِّ قَهْرٍ بِقَيدِ القَدَاسَةْ
أُرِيدُ حَيَاةَ الهَوَى وَالغَزَلْ
أُرِيدُ الأَمَلْ
.............
دَعُونِي فَإِنِّي كَفَرْتُ بِكُلِّ وَصِيَّةْ
..................
فَيَا مَنْ تَعِيشُونَ عَيْشَ الهَبَاءْ
وَتَدْعُونَ مَنْ لا يُجِيبُ الدُّعَاءْ
وَهَذَا التَّخَلُّفُ فِيكُمْ دَلِيلٌ عَلَيكُمْ
فَلا الحُبُّ يُزْهِرُ فِي طِينِ جَهْلٍ
وَلا مِنْجَلُ الصَّمْت ِيَحْصِدُ عُشْبَ الكَلامِ
دَعُونِي وَشَأْنِي
أَنَا السِّنْدِبَادُ أُسَافِرُ فِي الأَزْمِنَةْ
.................
وَطَاوُوسِ أُنْثَى يُدَاعِبُ صَدْرِي بِأَشْهَى القُبَلْ


هكذا يريد شاعر الحداثة ، الانفلات والانخلاع من كل مقدس وفضيلة وخلق ، ليبني لنفسه عالمه الخاص الذي لا يتجاوز في أرقى حالاته إشباع بطن وإيغال في عالم الشهوة والملاهي ، في تطبيع صارخ مع الشيطان ..

وهكذا يريد بأمته ووطنه ، أن تكون مطيّة أفكار مستورة وعقائد ضالة ، لا همّ لها ولا قضية سوى تقليد الغرب والانبهار بمنجزاته المادية والركض وراءه حتى لو كان الهدف سراباً أو جحيماً ..

وها هو الآن يطوي الجريدة ، ويلملم أوراق القصيدة ، وينظر في الصورتين كما بدأ أول مرة ، ليأتي الختام كما الابتداء دون أن يتغير شيء في وعي الحداثي وفي فكره ..

هل نجح الشاعر الأصالي سمير العمري في إيصال الرسالة ؟
بكل تأكيد .. وعلى مستويات ثلاثة ..
الأول في إثبات أن الشاعر الأصالي ليس عاجزاً أن يستوعب الحداثة وأن يفهمها ، نعم .. وليس عاجزاً أن يأتي بمثل ما أتوا بل ويفوقهم إذا أراد ذلك ، لكنه وببساطة ليس مستعداً أن يدخل هذا الغثاء والسخافة والضحالة ، وإنه ليقدر نعمة الوقت والحياة فلا يهدرهما هباءً أو يستخدمها في هدم أمته ودينها وثقافتها وتراثها ..

والثاني في كشف عوار الحداثة وأهدافها الخبيثة في ضرب هوية الأمة ودينها ، وإرجاع الناس إلى الوثنية من جديد تحت مسميات شتى وأساليب متنوعة ..

والثالث في تنبيه الأدباء والكتاب والمثقفين من الانجرار وراء هذا الزيف الخطير والوهم الشرير والسراب الذي يحسبه الظمآن ماء ، وأنه ليس هناك من طريقة إلى النهضة الحقيقية والتجديد الواعي إلا بالرجوع إلى دين الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ..

قصيدة ( نحت وتعرية ) نقد مختلف .. يحتاج إلى وقفات أخرى ..


تقبل أيها العزيز الدكتور سمير العمري
مروري وقراءتي


تحياتي ..