أحدث المشاركات

نسجل دخولنا بذكر الله والصلاة على رسول الله» بقلم عوض بديوي » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» بكاء على الاطلال» بقلم أحمد بن محمد عطية » آخر مشاركة: أحمد بن محمد عطية »»»»» مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»»

صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 21

الموضوع: بتوع كلّه - رواية

  1. #11
    الصورة الرمزية علاء سعد حسن أديب
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 468
    المواضيع : 50
    الردود : 468
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي


    ( 1 )
    الموجة العالية


    الموقف الذي كان يجب أن يزلزل مصطفى حنفي.. ولكنَّه لم يزلزله، فاطمأن على ثباته ورسوخ قدمه، فهو لن يتزحزح أبدًا.. وصلت إليه أخبار عن خطأ جسيم قام به أحد شباب الصحفيين صغار السن حديثي الخبرة بالجريدة، فاتخذ قرارًا فوريًا بفصل هذا الصحفي الشاب عن العمل..
    لم يكن متعجلا ولا منفعلا، ولكن الخطأ الجسيم كان يستحق هذا العقاب الصارم.. دخل عليه الشاب غرفة مكتبه ووقف بجوار الباب، وقال له وهو محتقن العينين منفوش الشعر أصفر الوجه:

    سأقول لك شيئًا واحدًا يا ريس.. بعد حسبي الله ونعم الوكيل.. لو سيادتك كتبت يا ريس كلمات من دم.. أو كانت مقالاتك رصاص يقتل الظلم والطغيان في مصر.. فلن تفهم أبدًا معنى إن شاب راتبه الشهري ستمائة جنيه يُفصل من عمله.. لأن دخل حضرتك الشهري نحو مائة ألف جنيه.. أكثر من نصفها تقبضه من هذه الجريدة من عملنا نحن ومجهودنا وعرقنا.. لا يمكن بالطبع أن تشعر بنا، أو تحس بالناس الذين تكتب عنهم.. أين نحن يا ريس، وأين أنتم؟ نحن في بلدنا أقل من كلاب حراستكم، وأنتم (V I B)..
    ثم استدار الصحفي الشاب، واستطرد:
    عارف.. عارف يا ريس، أنا خارج لوحدي دون أن تستدعي لي أمن الجريدة.. شكرًا يا ريس.. لنا رب اسمه الكريم..

    ظل مصطفى ينظر أمامه إلى الباب الذي خرج منه الشاب مشدوهًا لدقيقة.. ثم ضرب كفًا بكف.. وضحك وهو يقول:
    والله عال.. ولد مثل هذا مخطئ.. مخطئ؟! إنه عامل كارثة.. وغضبان لأني فصلته من الجريدة.. ماذا يريد؟.. نُقبِّل ..........
    ثم صاح بعنف على الفراش:
    تعالَ اغلق الباب يا غبي..
    حاضر يا ريس..

    أغلق الفراش الباب من الخارج.. وعاد مصطفى ينكب على مكتبه ليكمل ما كان يكتبه من افتتاحية ساخنة مهاجمة لنظام الحكم الذي أذل شعب مصر وجعل أغلبه يعيش تحت خط الفقر، وأخذ يعدد في مقالته الافتتاحية مظاهر الفقر في العشوائيات والقرى والعزب والنجوع!!
    انتهى مصطفى من دباجة مقالته الافتتاحية، وأمر بإرسالها إلى المطبعة.. ثم نظر إلى الصحف اليومية الموضوعة أمامه على المكتب.. تتصدَّر مشكلة كمال عبده الأخيرة أغلب عناوين الصحف خاصة الصحف الخاصة التي أصرَّت على وصفها بالفضيحة المدوية أو السقطة الإعلامية للإعلامي الرياضي والنائب البرلماني كمال عبده!!

    أخذت عينا مصطفى تلتهم التفاصيل التهامًا.. ثم اتجه إلى جهاز الكمبيوتر ودخل إلى الإنترنت وأخذ يبحث عن هذا الـ (C D) المنسوب إلى كمال عبده، وبالفعل توصل إلى المكالمة الصوتية المنتشرة بكثرة على المواقع المختلفة على الإنترنت.. الصوت بالتأكيد هو صوت كمال، فهو لن يتوه عن صوت صديقه منذ الطفولة.. وأسلوب الكلام.. حتى الألفاظ التي قيل إنها بذيئة وغير لائقة، هي الألفاظ التي يستخدمها في بعض الأحيان.. عندما يكون الحديث بعيدًا عن الكاميرات والرسميات!!
    اتصل مصطفى بكمال وهو في حالة من القلق عليه وعلى مصيره كسياسي وإعلامي ورجل عمل عام..
    ألو كيمو.. ما هذا الذي فعلته مع الصحفية؟
    أهلا درش.. كيف حالك؟.. عادي هي قصة وستمُر
    لكن يا كيمو الصحف مليئة بالتفاصيل، وتسجيل المكالمة الهاتفية منتشر على كل مواقع النت..
    أصلها بنت … …. لكن أنا سأعرف أوقفها عند حدها وأُنهي الموضوع ..
    وما هو الموضوع بالضبط يا عم كمال؟
    أبدًا والله يا درش.. أنت عارف هذه الألفاظ والكلمات تملأ حياتنا.. وكلنا نقولها.. هذا الكلام يملأ الشارع.. بذمِّتك يا مصطفى ألا تسمع هذه العبارات في القهوة وفي المواصلات وفي الشارع وفي الجريدة؟!
    صحيح يا كمال.. لكن في وسائل الإعلام الأمر مختلف..
    فعلا لأن هذا نفاق.. نفاق اجتماعي، عندما نكون كلنا نُردِّد كلام ونعتبره عاديًا جدًا واجتماعيًا جدًا، وأولادنا يرددوه.. وبناتنا أيضًا تردده.. ثم نقول لا عيب.. لا يصحش هذا كلام بذيء.. طالما هو بذيء لماذا نردده كلنا؟
    أنت تعرف يا كمال..
    لا.. لا أعرف شيء.. عندما يستخدم حموكشة هذه الألفاظ في الشارع أو في المدرسة يصبح مقبولا.. وعندما ينطق به كمال عبده في الهاتف يصبح (كُخة).. وتقول لي أننا لا نعيش نفاق في نفاق؟!.. وبعد فهذا الكلام قيل بعيدًا عن الإعلام.. لم أنطق به على الشاشة يعني.. قيل في مكالمة هاتفية خاصة.. صحيح البنت بنت …. عملت نفسها مهذَّبة وخضرة الشريفة.. لكن بديني ل.... وسأفعل بها الكلام الذي سمعته بأذنها.. سأجعله معها عمليًا .. ودع الأدب والشرف ينفعها.. دعها تصبح هي حديث مصر كلها.. بديني لأجعلها حديث العالم كله بنت ….. هذه.. سأفرمها يا درش.. سأفرمها..
    وهل تقول لي على قدرتك على الفرم يا كيمو؟ إني أعرفك جيدًا..
    هل تعرف ماذا يفعل القطار السيع فيمن يقف أمامه؟.. يا درش أنا القطار السريع.. أسرع قطار في مصر.. النجوم.. رجال المال والأعمال.. النخبة يا سيدي كلها هكذا.. كلنا هكذا يا درش.. أنا وأنت ومن يعمل معنا.. من يقف في طريقنا ندهسه.. نفرمه.. النجم لا يحب أحدًا يذكِّره بماضيه قبل أن يصبح نجمًا، ولا يحب أحدًا يعايره بأنَّ كان أفضل منه يومًا، لم يكن أحد أفضل منا.. كل واحد من هؤلاء يجب أن يمر فوق جسده القطار السريع ويفرمه.. هل تذكر الولد عماد ساتي الذي كان معنا في مدرسة الشهيد أنور الصيحي؟..
    نعم أذكره.. كان يكبُرنا بعام.
    هذا الولد كان يرى نفسه فتوة المدرسة، وكثيرًا ما ضربني على قفاي ابن ...... تذكرته منذ سنة تقريبًا.. فرمته.. هو كان نسي الموضوع، لكن حظ أم الأسود أنني تذكَّرت آثار ضربي على قفاي.. الآن هو يأخذ كل يوم طريحة في السجن.. مصير البنت الصحفية سيكون أسود من ذلك.. لن ترى الشمس ثانيةً..
    اهدء قليلا يا كيمو.. هذه المسائل تحتاج إلى حلها بالعقل لا بالعصبية ولا العناد.. المشكلة ليست في الصحفية.. فهي بنت صغيرة سيُنسى موضوعها بسرعة.. المشكلة فيمن يستغل هذه الصحفية، المشكلة في المستشار الذي وضعها في طريقك.. نابه أزرق..
    وهل تصفه بالمستشار أنت أيضا؟! إنه ابن........ ........ بديني سأوريه كذلك.. فقط انتظر حتى أفيق مما أنا فيه..
    طيب دعنا نتوسط بينكما لعلنا نصل لحل..
    الموضوع كما تعرف يا درش دخل فيه شخصيات كبيرة جدًا.. لكنه يرى نفسه نفسه فوق الجميع.. أقسم أنه يُشرِّدني.. يشرِّد من ابن ......؟
    وما موضع جيمي صاحبك في هذا الأمر؟
    جيمي يا سيدي منقلب علي من يوم المباراة إياها..
    إذن دعني أُكلِّم جيمي لتلطيف الجو والوصول لحل..
    كيف تحدثه يا درش والعلاقة بينكما متوترة أساسًا وليس لك سِكَّة معه؟
    صحيح يا كمال.. لكن عندنا اولاد في الجريدة وفي القناة كذلك لهم اتصال به.. لهم سهرات وأشياء.. وممكن عن طريقهم ندخل ونحاول لملمة الموضوع.. فقط أنت لا تقلق..
    والله هذه المرة لا أخفي عليك أنا قلقان يا مصطفى.. انت تعرف لم يكن شيء في الدنيا كلها يمكن أن يقلقني أو يحيفني، أو يهز شعرة واحدة من شعر رأسي.. لكن هذه المرة أنا مهزوز.. ليس من أجل تسريب المكالمة ولا البنت الصحفية ولا هذا الكلام الفارغ.. لكني أشعر أنني أُخذتُ على خيانة.. هذه خيانة يا مصطفى، وانا أكره الخيانة يا مصطفى كُره العمى..
    ملمومة يا كيمو.. أنت فعلت كثيرًا من أجلي.. اترك هذا الموضوع لي هذه المرة، وستسمع خيرًا قريبًا.. ولا تنس أن جيمي سيصدق أن يأخذ نقطة علي حتى يضعني في جيبه.. يتمني يا سيدي أن أخفض صوتي عنه وعن أبيه قليلا.. وهذه فرصة وأتت إليه..
    نعم يا مصطفى.. لكنني لا أريد أن أكون سببًا في خسارة شيء من مكانتك التي أنت عليها..
    يا سيدي لا خسارة ولا شيء.. دعنا نبدِّل الأدوار قليلا.. يوم نكون في المعارضة، ويوم نكون مع جيمي ورجاله.. إنها كلها مصالح يا أبا كمال..
    تمام يا درش.. لكن احذر على نفسك.. هذه الأمور تحتاج إلى حرص، وبهدوء حتى تنتهي بلا خسائر..
    هذا الموضوع عندي يا كيمو ولن ينهيه احد غيري.. أنت فقط اطمئن ونم قرير العين، كلها يومان وتسمع أخبارًا طيبة.. وتركز أنت وتستعد للانتخبات.. لقد اقتربت الانتخابات يا كبير..
    ذكرتني بالانتخابات.. هذا الموضوع أيضًا يشغلني.. جمي وعز يريدا فتح مجمَّع انتخابي وينزل أعضاء الحزب بعضهم ضد بعض.. يريدون ان ينزل ضدي مرشح منافس من الحزب بعد كل الذي فعلته من أجلهم.. ألا ترى فُجر هؤلاء الناس؟!!
    ما هذا.. دوائر مفتوحة للحزب؟! هذه جيدية.. لا هذه فعلا جديدة يا كيمو.. هذه بمفردها تحتاج جلسة.. حدِّد متى نسهر ..
    إذن أنهِ أنت الموضوع أولا.. ثم لك عندي دعوة في الساحل الشمالي لا مثيل لها..
    اتفقنا يا (مان).. سلام
    سلام يا درش..

    بالفعل يستطيع مصطفى التدخل بين الأطراف المختلفة لهذه اﻷزمة التي يرى أنها أخذت ابعادًا أكبر من حجمها، ليس فقط لتصفية حسابات صغيرة مع كمال عبده.. وإنما يرى أنها تمهيدًا لتقليص دور صديقه المتنامي في السياسة والإعلام.. يريدون (قص ريشة) على رأي المثل.. ولكن هو نفسه مصطفى حنفي أكثر الناس استفادة من سيطرة كمال عبده على موقعه.. وسيكون بالطبع أكثر الناس تضرُرًا من زعزعة مكانة كمال عبده السياسية والإعلامية.. ليس من المهم أن يكون في خندق مختلف عن خندق كمال أمام الناس والرأي العام.. فهذا توزيع شكلي للأدوار.. المسرحية يجب أن يتم توزيع اﻷدوار فيها بهذا الشكل المتقن.. العرض يجب أن يحتوي على رجل طيب ورجل أخر شرير.. الطيب والشرير كلاهما يقوم بأدائهما على المسرح صديقان.. صديقان ربما يكونا طيبان أو شريران.. ومع ذلك يجب أن يطعن أحدهما الأخر على المسرح.. والجمهور (العبيط) يصفِّق لأحدهما ويبكي عليه.. ويهتف ضد الأخر.. وينفعل مع العرض.. وينسى أنَّه في النهاية يشاهد عرض كبير.. يتسلَّى .. وأن البطلين على المسرح هما في الأصل صديقين، ربما يتبادلان الأدوار التي يؤديانها فعليًا على مسرح الحياة!!
    والتضحية بمكانة كمال عبده تساوي في الحقيقة زعزعة الأرض تحت أقدام مصطفى حنفي.. وهذا ما لم يسمح له أن يحدث أبدًا مهما كان الثمن!!
    مصطفى ككمال يؤمن مثله بمبدأ الضربات الاستباقية.. ليس بالضرورة له أن يركع تحت أقدام جيمي.. وسيادة المستشار إياه.. لكي يطلب العفو والسماح لصديق عمره كمال عبده.. ليست هذه طرق المحترفين.. هذه طرق الهواه والمبتدئين.. أما طريقة مصطفى حنفي فهي تشديد الهجوم على الخصم.. زيادة جرعة المعارضة والنقد.. تجاوز كل الخطوط الحمراء في ملاحقة الفساد.. والكشف عن فضيحة جديدة لجيمي ورجاله..
    هكذا يصبح الوضع العام، فضيحة مقابل فضيحة.. وقضية رأي عام أمام قضية رأي عام.. ويتم اللعب بطريقة (سيب وأنا سيب).. الذين يركعون أمام الكبار، تُقطع رقابهم في اللحظة التي يركعون فيها بسيوف هؤلاء الكبار.. أمَّا الذين يرفعون رؤوسهم فوق رؤوسهم، ويشمخون بأنوفهم في مواجهة أنوفهم، هم فقط الذين يجدون لأقدامهم موضع يقفون فيه في هذه الحياة.. يجب أن يضع جيمي أو أحدًا من رجاله المقربين أو المستشار.. أو الرجل الكبير نفسه تحت ضرسه.. وهذا وارد جدًا، فتحْت يديه عشرات الملفات التي لم ينشرها بعد.. يتركها لوقت الحاجة.. الآن كمال عبده في وقت حاجة.. وحاجة كمال عبده هي نفسها حاجة مصطفى حنفي..
    هكذا وبطريقة اللعب الاحترافي مع الكبار استطاع مصطفى أن يسحب البساط من تحت فضيحة صديقه كمال عبده.. ونام الموضوع.. غطَّ في سُباتٍ عميق، كما تغط غيره من الفضائح والموضوعات.. وكما يقولون في عالم السياسة والمال والإعلام في مصر (كله بيطلع في الغسيل)!!
    وأصبح يتوجَّب على كمال عبده الآن التفرغ لمعركته الانتخابية التي أصبح يصارع فيها هذه الدورة ضد مرشح الإخوان الذي عاد للثأر هذه المرة من التزوير والبلطجة التي يدَّعي حدوثها في الدورة السابقة، وضد المرشح الآخر الذي زجَّ به المجمَّع الانتخابي للحزب وفق (افتكاسة) الدوائر المفتوحة.. ووضح ميل الناس الكبار للمرشح المنافس.. لكنَّه لن يُسلِّم، بل سيقلب الطاولة على الجميع إذا لزم اﻷمر..
    وعاد مصطفى حنفي ينسق معه العمل في مدينة دسوق والقرى التابعة لها والتي تربطه هو أو عائلته علاقات بأهلها من أجل الحشد لدعم كمال في هذه المعركة الشرسة.. في الوقت الذي يُعِد فيه أعنف مجموعة مقالات تفضح كوارث الحزب الوطني، وتُعرِّي عمليات البلطجة والتزوير والرشاوى الانتخابية.. فهذا هو عمل مصطفى حنفي الدائم الذي يضحي فيه بأيام من حياته يقضيها في السجن أو المعتقل أو الحجز ، او يقضيها في ضيافة مقر مباحث أمن الدولة.. أو المخابرات العامة.. وهو نفس العمل الذي يحفظ عليه بقاءه في مصاف المناضلين السياسيين الكبار في ذاكرة الجماهير، وربما التاريخ.. ويؤمِّن له في نفس الوقت دخلا من عدة عشرات من ألوف الجنيهات تستقر في حسابه كل شهر من عمله الصحفي والإعلامي، وكُتبه التي تباع بصرف النظر عن فحواها بضمان صورته بالقميص المخطط بالطول، والشارب الكث، والنظارة السميكة.. وكما يقول كمال عبده ومصطفى حنفي: (كله بزينس)!!
    انتهت مهزلة الانتخابات البرلمانية واتصل مصطفى عبده بكمال منهارًا.. كان مصطفى منهارًا، وكمال ثائرًا هائجًا منفعلا.. لكنَّ انهيار مصطفى حنفي كان مريعًا قال لصديقه:
    ماذا فعل هؤلاء المجانين يا كمال؟
    أرأيت يا سيدي؟ جنان رسمي، فماذا نقول؟
    لقد ذهبوا بالبلد إلى ستين داهية يا كمال..
    ماذا سنفعل يا درش لحفنة عيال؟ ليسو عيال إنما هبل وأولاد ..... يتحكمون في بلد بحجم مصر!!
    وهل هناك في الدنيا حزب حاكم ينجح في انتخابات برلمانية بنسبة مائة في المائة؟! لم تحدث في التاريخ.. ومع حزب كله فساد ومصائب، وبلد ستنفجر من الخراب والدمار الذي يلحق بها!!
    يا ليتهم زوروا ضد المعارضة والإخوان.. لكنهم زوروا ضد رجال الحزب.. لقد باعونا، باعوا لحمهم أولاد ...
    إنهم يضيعون البلد يا كيمو.. البلد ستشتعل.. ثورة جياع.. ثورة مُشرَّدين.. ثورة اولاد شوارع آتية لا محالة.. أولاد المجانين لا يريدون إخوان.. تمام.. لا يتركوا واحد من الإخوان ينجح.. جيد دعونا نتخلص من اللحى والإسلام السياسي وهذا القرف.. مقبول ومعقول.. لكن يجب أن ينجح ثلاثون مرشحا من حزب الوفد وعشرون من التجمع، وخمسون مستقلون.. إنَّما بهذا الشكل.. أصبحنا مسخرة يا رجل..
    لقد مللت من هؤلاء الناس.. لقد غطينا على بلاويهم التي لا تنتهي كثيرًا، وهم ينتقلون بنا من كارثة إلى أُخرى، ويرقصون ويحتفلون مصدِّقين أنفسهم ليس على بالهم شيء!!
    وماذا تنوي ان تفعل يا كمال؟
    وماذا سأفعل؟ بديني وإيماني لن أترك حقي.. لكن اصبر حتى نرى إلى أين.. سأوريهم شلة المساطيل هؤلاء..
    لكن بالهدوء يا أبا كمال لا نريد أن سمعنا أحد ويخرج لنا فضيحة تسريبات جديدة يا كابتن..
    كأنهم لا يعرفون رأيي بهم؟ يعرفون كل شيء، ويسجلون لي كل كلمة منذ مباراة الجزائر.. جيمي لا يطيقني في البلد منذ يوما.. ولذلك أكروا ضدي هذا الطبيب وشلة بلطجيته.. يا بني لقد شلوا حركة رجالي وعيال الإخوان في ضربة واحدة، لقد كان معي ذاب وأنت تعرف، تركونا حتى انتهينا من الإخوان ثم طوَّقونا معهم وفرمونا.. وأغلقوا الصناديق للطبيب الجديد الذين يدعمونه من فوق!!
    لا تقلق يا كمال جهزنا لهم في الجريدة الجديدة ملفات فضائح ستشيب لها رؤوسهم.. ألم يشترون الجريدة التي بنيتها بدمي وعرقي، ويطردونني منها؟.. لكن المفروض يا كمال أن الرجل الكبير يوقف هذه المهزلة، ويعيد الانتخابات على الأقل في الدوائر التي انتشرت رائحتها بشدة..
    رجل كبير إيه يا درش؟ ستهرِّج؟ ألا تعرف كل شيء؟ الرجل الكبير منتهي منذ زمن.. الموضوع كله في أيدي السيدة وابنها المحروس (ننوس عين أمه)
    رد مصطفى وهو يضحك ضحكة مكتومة:
    الحيلة بسلامته؟
    أتضحك يا درش؟
    ماذا سنفعل؟ شر البلية ما يُضحك.. أقول لك يا كمال.. حاول أن تنسى ولا تحرق دمك.. سافر لك يومان إلى الساحل الشمالي.. الفيلات في هذا الجو البارد ستصبح ساخنة.. سخنة نار..
    من الواضح أنك رائق جدًا يا درش.. ساتركك الآن.. لكن تذكَّر قسمي هذا.. بديني لن أتركهم هذه المرة..
    سلام يا كمال وخذ بالك من نفسك..

    الأحداث تتلاحق بسرعة.. الغيوم تتجمَّع، لم يعد تجمعها الآن ببطء.. تجمعها أصبح سريعًا جدًا، وكما شعر مصطفى حنفي بأنَّ (النوة قادمة).. ولا بد من الحركة السريعة.. لا بد لحركتنا أن تكون أسرع من حركة الأحداث.. فنصحَ المحيطين به بذلك.. وأصبح أكثر حرصًا وأقل تراخيًا، وأحرص على قراءة كل ما تنشره الصحف ومواقع الإنترنت بدقَّة وعلى مهل لم يكن يمارسه من قبل.. وعندما أشعل محمد بوعزيزي النار في نفسه، وجاءت الأنباء من تونس تحمل الرواية وتداعيتها، هتف مصطفى:
    - يا رب سترك.. يا رب لا يضبطون روايتي عنده.. أظن أنني أول من كتب إن الناس من غضبهم سيشعلون النار في أنفسهم في الميادين وأمام دواوين الحكومة.. وبو عزيزي فعلها وأشعل النار في نفسه.. استر يا رب.. القادم أسوأ..

    وعندما طيَّرت الأنباء خبر هروب زين العابدين بن علي من تونس.. هُرع مصطفى مذعورًا إلى الهاتف واتصل بكمال يتدارس معه الأمر وينصحه ويحذِّره..
    أرأيت ما حدث يا كيمو؟
    أيوة يا طرش هرب الـ (.......) وتركها مشتعلة..
    هكذا يا كمال الدور قادم علينا أكيد.. لا بد أن الرجل الكبير وجماعته يجمعون أمتعتهم ويجِّهزون أنفسهم.. وأنت يا كيمو لا بد ان تكون على أهبة الاستعداد.. البس طوق النجاة.. كلنا سنقفز من المركب قريبًا جدًا..
    لا يا مصطفى.. لا تتشاءم..
    اسمعني يا كيمو.. ثورة الياسمين تحركت وستصل عندنا أسرع مما تتخيل..
    أريد أن أُطمئنك.. اطمئن تمامًا مصر ليست تونس.. لا شعب مصر مثل التوانسة، ولا النظام لدينا هش مثل نظام تونس.. لا يمكن أن يحدث شيء عندنا مثل هذا..
    في الحقيقة أنا أرى غير هذا يا كمال.. يمكن قبل مهزلة الانتخابات كان يمكن أن قولك مصر غير.. لكن بعد المصيبة التي فعلها جيمي وعز.. أستطيع أن أقول لك مبروك يا كابتن الثورة في مصر ستنجح أقرب وأسهل كثيرًا مما تتصور..
    بصراحة يا درش إنهم يستحقون.. لكن أيضًا أنا مطمئن إن مصر غير تونس، ولا يمكن تكرار ما حدث هناك..
    أتراهن يا كيمو؟؟؟
    ثانية يا درش؟! أراهنك على فيلا الساحل الشمالي أنَّ مصر غير تونس.. وأنه لن تأتينا ثورة ياسمين.. عندنا يا برنس فقط شاي بالياسمين.. طبعًا تعرفه؟!
    حياتنا على الشاي بالياسمين.. لكن عندي سؤال.. لو حدثت الثورة وخرج الشعب، ماذا نفعل؟
    وهل هذه تحتاج إلى سؤال يا برنس؟! سنركب الموجة.. ونقفز عليها طبعًا.. وهل هذا النظام ملك أبينا؟ يشتعل بجاز.. عندها نستبدل المراكب نقفز من الغرقانة ونتعلق بالعائمة.. خفّ تعوم يا درش..
    قهقه مصطفى حنفي وهو يصرخ من بين شهقات الضحك:
    كيف أخف يا كمال بهذا الكرش.. عمومًا أنا في أمان أكثر منك لأنني في نصف المركب الكسبان في حال حدوث أي مفاجأة..
    هل تفكر يا درش في احتمالات ثورة حقيقية تحدث في مصر؟
    إذا أردت يا كيمو.. لو حدثت ثورة في مصر ستصبح مصيبة، ولن نعرف لا أنا ولا أنت نقفز عليها ولا نركب الموجة.. لو قامت ثورة في مصر فهي مرهونة سلفًا للإسلام السياسي.. للإخوان المسلمين وما أدراك ما الإخوان المسلمين.. هؤلاء جماعة لا أنا ولا أنت يا كمال سنعرف نأكل معهم عيشًا..
    في عرضك يا درش كله إلا الإخوان..
    لا يوجد غيرهم في مصر يستطيع تنظيم الوضع إذا انهار النظام.. في تونس حركة النهضة بدأت تقطف ثمار ثورة الياسمين.. وفي مصر لو حدث شيء ستصبح البلد بلد الإخوان.. صدِّقني هؤلاء قادرون ليس فقط أن يأخونون الثورة.. سيأخونون الدولة.. سيأخونونا نحن أنفسنا.. سيلبسوننا كلنا ذقون.. الحريم سيلبسونهم طُرح وخِمارات.. والرجال سيلبسوهم جلابيب وذقون.. أصل هذا هو فكرهم .. وهذه هي نهضتهم!!
    يععععععععععع .. فأل الله ولا فألك يا مصطفى.. وهل أنا أطيق شاربك المقرف هذا حتى أراك كذلك بذقن؟
    ربنا يستر علينا وعلى مصر .. لا بد أن نقف كلنا يد واحدة من الآن قبل أن يجرفنا جميعًا طوفان الإخوان..
    يدي على كتفك يا درش.. ربنا ينفخ في صورة الرجل الكبير ويسيطر على زوجته وإبنه قبل أن تشتعل بنا وبهم..
    هل تكفيني كلمة أحبك وأنا أقتات على حبك!روحي تحيا بحبك،قلبي يدق به، حياتي لحبك

  2. #12
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,064
    المواضيع : 312
    الردود : 21064
    المعدل اليومي : 4.96

    افتراضي

    لديك قلم جريئ ، قادر على الخوض في الأحداث السياسية بتمكن وصراحة
    وفكر منظم ومتسلسل يؤرخ ما مرت به مصرمن أحداث قبل الربيع العربي المزعوم
    بتحليل وتفصيل من خلال بناء سردي مميز، وأسلوب سلس جذاب
    فترسم صورة معبرة لنص يحاكي الواقع بحرفية عالية
    ومهارة أديب لامع .. فشكرا لك.
    أتابع معك.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #13
    الصورة الرمزية علاء سعد حسن أديب
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 468
    المواضيع : 50
    الردود : 468
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناديه محمد الجابي مشاهدة المشاركة
    لديك قلم جريئ ، قادر على الخوض في الأحداث السياسية بتمكن وصراحة
    وفكر منظم ومتسلسل يؤرخ ما مرت به مصرمن أحداث قبل الربيع العربي المزعوم
    بتحليل وتفصيل من خلال بناء سردي مميز، وأسلوب سلس جذاب
    فترسم صورة معبرة لنص يحاكي الواقع بحرفية عالية
    ومهارة أديب لامع .. فشكرا لك.
    أتابع معك.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    أولا شكرا لمتابعة حضرتك وحضورك وتشجيعك الكريم

    ثانيا هذه رواية نشرت في نهاية عام 2012 على بوابة جريدة الشروق المصرية على عشرين حلقة
    وهي رواية كما ترين يغلب عليها الحوار.. وللأسف فإن الحوار في النسخة المنشورة كله بالعامية المصرية التي رأى الكاتب وقتها أنها أقرب للروح المصرية وتعطي العمل واقعية أكثر.. مع مضي السنوات يتراءى لي تعديل الحوار إلى الفصحى البسيطة جدا التي يمكن استخدامها بشكل قريب جدا من العامية.. هذا يأخذ وقت وجهد وتظهر بعض الهنات اللغوية والأسلوبية تزوغ من المراجعة الأولية..
    كما تراءى لي أيضا تعديل في طريقة العرض الزمني لتتابع الأحداث ربما بحثا عن ذروة أفضل كبداية للعمل.. ولذا جاء الفصل الفائت كفصل أول وفق التعديل الأخير

    بهاذين الإجرائين يظل النشر في الواحة كأنه النشر الأول لرواية لم أحفل بإعادتها للنور احتفاءا كبيرا ربما لانتهاء دوافع كتابتها.. لكن تقديركم جعلني أعيد النظر في هذا الاحتفاء الخافت.. ولذلك وجب النقد وتبيين الأخطاء كلما ظهرت لديكم

    مع خالص الشكر والتقدير

  4. #14
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,064
    المواضيع : 312
    الردود : 21064
    المعدل اليومي : 4.96

    افتراضي

    إذا فقد وضعتك في معاناة تشبه معاناة الكتابة الأولى
    فاسمح لي على ما سببته لك من قلق
    ولكنه يظل عمل لك ويستحق منك أن تبرزه
    في أحسن صورة.
    ولك تحياتي وتقديري.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  5. #15
    الصورة الرمزية علاء سعد حسن أديب
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 468
    المواضيع : 50
    الردود : 468
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    [QUOTE=ناديه محمد الجابي;1128258]
    إذا فقد وضعتك في معاناة تشبه معاناة الكتابة الأولى
    فاسمح لي على ما سببته لك من قلق
    ولكنه يظل عمل لك ويستحق منك أن تبرزه
    في أحسن صورة.
    ولك تحياتي وتقديري.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    [/QUOTE

    تحياتي وتقديري

    هي معاناة لكنها في سبيل إحياء عمل كاد يموت.. فشكرا لحضرتك

  6. #16
    الصورة الرمزية علاء سعد حسن أديب
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 468
    المواضيع : 50
    الردود : 468
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    ( 2 )

    قبل قليل..

    قناة الأحلام


    كان تأسيس قناة الأحلام الفضائية نقطة انطلاق كُبرَى للصديقين كمال ومصطفى.. كالعادة بدأ كمال بالانطلاق أولا، حتى وصل إلى درجة التحكُّم والسيطرة، وأصبح له سطوة ونفوذ داخل القناة الفضائية، قبل أن يلحق به مصطفى على مهل كما اعتاد دائمًا، بدأ الكابتن كمال عبده بتحقيق حلمه الأكبر، وهو تقديم برنامج كُروي ليس فقط متخصِّص، وإنما متطوِّر ومطوَّل، فكان يطل على الشاشة مساء الجمعة من كل أسبوع ليشغل ما لا يقل عن ستة ساعات كاملة، يقضيها في تحليلات وحوارات وخدمات متابعة، تُقدَّم على الشاشات العربية لأول مرَّة بهذا المستوى من التغطية والإحاطة والطول، والتنوِّع وما تتضمَّنه من اللقاءات مع الصحفيين والنُقَّاد الرياضيين، بالإضافة إلى تحليل مباريات الأسبوع، وتصوير اللقطات المهمة من المباريات التي لا تذاع تلفزيونيًا، بكاميرا خاصة بقناة الأحلام.. حتى أصبح برنامج كرة اﻷحلام.. البرنامج الأول على هذا الشكل وبهذه المدَّة الزمنية على كل الفضائيات العربية، رغم أنَّ برامج أخرى ناجحة وشهيرة مثل صدى الملاعب (لمصطفى الأغا) سبقته في الظهور بسنوات.. وكان برنامج صدى الملاعب قد اجتذب ملايين المشاهدين في الوطن العربي.. إلا أنَّه لم يكن يستحوذ على هذه المساحة الزمنية الأطول في تاريخ البرامج الرياضية، كما أنَّ برنامج الكابتن كمال عبده هو الأوحد المتخصص بهذا القدر في الدوري المصري المحلي.. ونجح البرنامج، ونجح كمال عبده معه نجاحًا باهرًا وأصبح له جمهور غفير من المشاهدين والمتابعين، وبالتالي جيش جرَّار من المعلنين، عصب صناعة الإعلام الحر..

    وهكذا نجح كمال عبده في برنامجه هذا النجاح، قبل أن يستخدم نفس البرنامج في تصفية خصومه سواء في المعارضة من الجمعية العمومية لاتحاد كرة القدم.. أو حتى ضد خصومه الإعلاميين الرياضين، أو الإساءة والتجريح والتهوين لمن لا يكون على هواه من المدرِّبين والمديرين الفنيين، وأحيانًا رؤساء اﻷندية.. وكذلك اللاعبين الذين لا يدينون بالولاء له وللمنظومة الكُروية التي يساهم بفاعلية في إدارتها.. وهنا أدرك كمال طموح جديد ومرحلة جديدة لا بد من الانتقال إليها عاجلا غير آجل..


    أمَّا مصطفى حنفي فكان في حاجة أن يعاود تذكرة كمال بوعده له بأن يفتح له نافذة للظهور الإعلامي عبر الشاشة..
    فمصطفى يتقدَّم في الصحافة مستخدمًا أسلوبه اللاذع واللعب على مشاعر الجماهير الغاضبة من أغلب سياسات الحكومة والنظام الحاكم عمومًا بكتابة المانشتات القاسية في المعارضة، والمقالات الأكثر حدِّة في مواجهة نظام الحكم.. بل يمكن القول أن مصطفى بدأ يأخذ خطوات حقيقية في تطوير الهجوم الحاد من الحكومة والحزب الوطني، إلى شخص وأسرة الرئيس.. وهذه هي المحاولة الأولى في مصر للمساس بأسرة الرئيس أو التعريض بها..
    هذه الجرأة والنقلة غير المسبوقة في عالم الصحافة عمومًا، وفي عالم الصحافة الخاصة على وجه الخصوص لقت هوى في نفوس قطاعات واسعة من الشعب المصري، وأوساط الشباب المحبَط، مما جعل جريدته الأسبوعية تقفز إلى صدارة توزيع الصحف في مقدرة واقتدار..
    ومع ذلك يشعر مصطفى حنفي بالنقص.. يحس بالتواري.. يشعر بأنَّه ما زال الرجل الثاني في النجومية بعد كمال عبده.. هو في حاجة أن يُطل على الناس بصورته.. يطل عليهم بشحمه ولحمه.. يطل عليهم بصوته وكلامه وابتسامته المتسمة باللزوجة.. وبقميصه المخطَّط بالطول، وبكرشه الذي يشبه الكُرة الكبيرة أيضًا..
    إنَّ وجوده على الشاشة هو الضمان الوحيد والأكيد على وصوله إلى النجومية.. وبالتالي إلى قلوب وعقول الناس جميعًا.. ثم هذا يضمن له الانتشار في الوطن العربي الذي لا تدخل أقطاره جريدته ذات التخصُّص في الشأن المصري المحلي الداخلي..
    وله أسباب أخرى لا يمكنه أن يفصح عنها حتى ولو لكمال عبده صديق عمره!!
    انتظر مصطفى اتصال أو رسالة من كمال تفيد تذكره بوعده له بإلحاقه ببرنامج في الفضائية الجديدة التي ينوي التعاقد معها والتي ظهر بعد ذلك أنها فضائية الأحلام.. لكن انتظاره طال، ولم يحدث الاتصال..
    لم يكن مصطفى يدرك أنَّ كمال لم يرد أن يورِّط نفسه في أي نوع من الوساطة أو التوصية على مصطفى الصحفي الموسوم بالتهور في مهاجمة نظام هو نفسه في حاجة ماسة إلى حمايته، ولم يكن كمال قد التفت إلى لعبة التوازنات وتوزيع الأدوار التي يجيد النظام ممارستها باحتراف واقتدار شديدين.. لأنه لم يكن اقترب بعد من مراكز صناعة القرار.. فتخيَّل أنَّ تورط اسمه مع اسم مصطفى حنفي ربما يسيء إليه..
    لكن مصطفى ألح في الاتصال بكمال في أوقات مختلفة حتى عثر عليه أخيرًا.. فلم يُضع وقتًا في معاتبة يعلم في قرارة نفسه أنها لن تجدي، وفالعلاقة بينه وبين كمال تحرَّرت من مرحلة الصداقة الاجتماعية الخالصة، إلى مرحلة أخرى أكثر تعقيدًا وتركيبًا وهي مرحلة المصالح المتبادلة، والمصالح المشتركة.. وعلى هذا الأساس بدأ الاتصال بعملية ومهنية شديدة، وقد اختفت من نبرته كل دلائل الصداقة الوطيدة التي تربط بين الطرفين، ابتدره قائلا:
    ألو كمال..
    أهلا درش.. أكيد انت تقدِّر مشاغلي ولست غاضبًا مني..
    طبعًا طبعًا يا كمال.. كان الله في عونك.. في الحقيقة لا أريد أن آخذ من وقتك كثير.. أردت فقط أن أسألك متى آتي لمقابلة مدير القناة عندكم..
    هكذا بدا سؤال مصطفى مقتضبًا وحاسمًا وصريحًا، وأصبح من الواضح أمام كمال أن عليه أن يأخذ خطوة عملية واضحة لا يمكنه المراوغة، أو التململ منها.. فالمسألة لم تعد مسألة صداقة فحسب.. وهو لا يهتم كثيرا بمسألة رد الجميل لمصطفى، فهذا أمر يمكن تجاوزه تمامًا بين الأصدقاء.. أليس كذلك؟ لكن مصطفى أيضًا له علاقات، وتتشعَّب علاقاته برجال أعمال، وله مصادر دعم وتمويل خصوصًا خارج مصر، وهو الأمر الذي لم يستطع كمال الحصول عليه بعد.. لذا رد بعد برهة صمت قصير:
    هل تريد أن تظهر على الشاشة بقميصك المخطط، ونظارتك وشاربك الكث؟
    أضاف مصطفى بجدية كأنَّه ينهي مجال المزاح:
    وبكرشي أيضًا يا عم كمال..
    إذن نتقابل بعد غد في مكتبي بالقناة الثالثة بعد الظهر.. سأرتب الأمور مع المدير.
    اتفقنا يا كابتن..
    لكن لي رجاء عندك يا درش.. معذرة يعني.. هذا أول ظهور لك على الشاشة، فيعني موضوع..
    أدرك مصطفى ما يعنيه صديقه وتحرَّج في الخوض فيه مباشرة فأكمل عنه قائلا:
    يا كابتن كمال لا يهمني الفلوس.. المقابل المادي آخر ما أفكِّر فيها.. أنا يهمنى البرنامج.. المحتوى والإعداد الجيد والاستوديو.. المال آخر شيء نتكلم فيه..
    إذن اتفقنا يا درش.. اعتبر نفسك تقوم بتقديم أول حلقة من البرنامج الأسبوع القادم.. فكَّرت في اسم للبرنامج؟
    سأقول لك غدًا يا كيمو..
    اتفقنا..
    سلام..

    كان مصطفى صادقًا عندما قال أنَّ المقابل المادي للبرنامج لا يعني له شيئًا، ويعني ما يقول تمامًا، ولم يكن ذلك كما يعلم كمال نفسه عن مصطفى يأتي من قناعة أو زهد أو اكتفاء.. ولكن لأن الحسابات الدقيقة المنطقية تقول إن الظهور في برنامج فضائي ناجح سيضاعف راتبه بالتأكيد في الجريدة التي يرأس تحريرها، وستنهال عليه العروض من صحف أخرى ويمكنه أن يستغل هذه العروض في المساومة على قيمة الراتب الذي يريد.. ناهيك عن توقه إلى أن يتعدى اسمه كإعلامي حدود القطر، وعندها ستُطلب مقالاته في الصحف العربية والدولية، وصحف الخليج بالتحديد تدفع جيدًا مقابل المقالات التي تنشر فيها.. فالمقابل المادي سيأتيه حتمًا، كثمرة ظهوره في فضائية الأحلام، وليس من ميزانية الفضائية مما لا يكلفها شيئًا جرَّاء ظهوره الأول فيها.. فعليه والحال كذلك ألا يتعجَّل الثمرة قبل أن تطيب وتسقط عليه من تلقاء نفسها.. ولقد كان..

    وأطل مصطفى على شاشة الأحلام بشاربه الكث، وابتسامته اللزجة، ونظارته السميكة، وكرشه وقميصه المخطط وبلا رابطة عنق!!
    فمصطفى هو مصطفى حتى في ليلة زفافه.. التي أصر فيها على ارتداء نفس طراز القميص وبلا رابطة عنق أيضًا!!
    نجح مصطفى في الظهور على فضائية الاحلام، لكن البرنامج الذي قدَّمه لم يلاقِ نجاحًا باهرًا.. بل يمكن القول أنَّه كان في مجمله برنامجًا باهتًا من حيث الإعداد وتوقيت الإذاعة وزمن البث.. فهو برنامج ثقافي يتناول خلاصة الكتب، ويستضيف ضيفًا يتحدَّث عن موضوع الكتاب بعد مقدمة طويلة تتجاوز نصف زمن البرنامج يستأثر بها مصطفى حنفي لنفسه، ليؤمِّن لنفسه أطول إطلالة منفردة على الشاشة لمخاطبة الجماهير.. ربما لم يكن مظهر مصطفى الذي كان مخالفًا للتقاليد والأعراف الإعلامية مقبولا كثيرًا لدى المشاهدين، وعبثًا حاول معه مدير القناة، ومعد البرنامج، والمخرج أن يغيِّر من هيئته ومظهره، وأن يطور من نفسه قليلا.. وأن يقوم ماكيير القناة بعمل بعض الرتوش في وجهه، فكانت كل هذه الجهود والمحاولات تتم بلا جدوى، ودون استجابة من مصطفى.. ولم يكن صعبًا على مدير القناة أن يلغي التعاقد مع مصطفى لتقديم البرنامج، لكن الرجل له نظرة إعلامية متقدِّمة وثاقبة، رأى ببعد نظره أنَّ ظهور مصطفى حنفي في البرنامج بهذه الهيئة لن يخلو من طرافة وفكاهة أيضًا، فمن جهة تخفِّف من زخم البرنامج الثقافي.. ومن جهة أخرى تحقِّق متعة ما للمشاهد من طرف خفي.. سيلعب مصطفى حنفي من وجهة نظر المدير دور مقدِّم البرنامج، والمهرِّج الكوميدي في ذات الوقت!!
    وأدرك مصطفى أن مظهره وهيئته ما زالت غريبة على المشاهدين خاصة في برنامج ثقافي، ارتبط في أذهان الناس بمظهر وجو معين، وربما كانت لغة التقديم كذلك غير مناسبة تمامًا.. لكنَّه مع ذلك يقنعه بأنَّه يخطو خطوة جيدة على الطريق الذي يرسمه لنفسه..


    أدرك كمال عبده بعض أسرار الخلطة العجيبة المسيطرة على الإعلام الفضائي.. الفكرة والمنهج والأيدويولوجيا والرسالة التي يحملها الإعلامي، والتي يؤمن بها الممول أو المالك أو ما يطلقون عليه (الاونر).. تُعد خيطًا واحدًا من خيوط كثيرة متشابكة، فهناك خيطًا مهمًا جدًا يتمثَّل في مناخ الانفتاح الإعلامي الذي تمثله الإرادة السياسية.. وأيًا كانت عقيدتك ورسالتك الإعلامية، فأنت في النهاية تتحرَّك في ضوء المسارات التي تسمح لك بها السُلطة، وطالما أنَّك تمارس العمل الإعلامي كله بتصريح، فمن يملك منح التصريح لك بممارسة العمل، هو نفسه صاحب الحق في الحجب والمنع لهذا التصريح، والذي يستطيع بجرَّة قلم أن يمنع ظهورك الإعلامي، أو يغلق القناة أو يصادر الصحيفة.. ولذا فالإعلاميون يعلمون جيدًا أنهم أحرار تمامًا في التعبير عن أنفسهم وعن أفكارهم وعن رسائلهم.. أحرار تمامًا داخل (التراك) أو المسارات التي تسمح بها السُلطة.. فأنت حر افعل ما تشاء وقل ما تشاء، لكن كل هذا داخل ما تسمح به وتقبله وترضى به السلطة.. أما أن تلعب خارج الملعب المسموح لك به، فستجد نفسك في (الأوت)، وأنت وأعمالك كلها خارج الملعب، وبالتالي خارج التأثير.. أو خارج دائرة الضوء.. أدرك كمال وجود الحرية الإعلامية بالفعل لخدمة توازنات وأهداف عليا، فعلى الإعلامي ألا يتجاوز الخطوط المسموح له بها وإلا وجد نفسه في (الأوت).. وهناك خيط ثالث ربما كان الأكثر أهمية على الإطلاق، أو ما يمكن أن يطلق عليه عصا الإعلام.. مثل العصا أو الذراع التي إذا شدها العامل على الآلة دارت وتحرَّكت، وإذا رفع العصا أو الذراع كفَّت الآلة عن الدوران والحركة والعمل..
    هي عصا التمويل، التمويل الحقيقي، وليس (الأونر).. فالمقصود هنا بالتمويل، التمويل الذي يدخل خزينة المموِّل أو المالك، وليس الذي يخرج من جيبه.. هذا التمويل كله يعتمد على عنصر واحد هو الإعلانات.. فالإعلان هو الممول الحقيقي، وهو المالك الحقيقي للإعلام، وهو العنصر الأهم والمؤثِّر والفاصل في صناعة الإعلام الفضائي.. والبرنامج الذي يجذب الإعلان والمعلِن، هو البرنامج الناجح، وأسرة البرنامج التي تجذب أكبر قدر من الإعلانات، هي التي تحتل الحيز الأكبر من الاهتمام في القناة أيا كانت الرسالة الإعلامية التي تقدِّمها، حتى ولو كانت ما تقدِّمه للناس عبارة عن (رياني يا فجل) كما يقول مسؤولو القناة..

    أدرك كمال عبده كل ذلك بوضوح شديد، واستطاع توظيفه بمهارة وذكاء شديد.. فاهتمامه الأول هو كيف يقدم عملا إعلاميًا يجذب المعلن.. عن طريق تقديم كل ما يجذب المشاهد ويجعله يلتف حول القناة.. وكان يدرك الفرق بين الحرية.. الحرية التي يستشعرها المشاهد مطلقة مفتوحة، والتي تجعل من الإعلامي بطلا لا يهاب أحد وليس عنده خطوط حمراء، وهو في ذات الوقت يلمح تلك الخطوط بدقة عالية جدا ليبقَ دائمًا أبدًا داخل التراك لا يغادره إلى (الأوت)!! ويراعي الفرق بين الحُرية الممنوحة من قبل السُلطة والمسموح بها، وبين التجاوز أو التعدِّي أو تخطي هذه الإشارات الحمراء التي تلوح له بها من بعيد، وبدون أن تظهر بوضوح في المشهد العام..

    أما الرسالة نفسها التي يحملها الإعلامي الكابتن كمال فيتم رسمها بدقة وقوة، لتمهِّد الطريق أمامه لا لضرب عش الدبابير، وإنما لتأمين الدخول في تلك الأعشاش بأمان.. فتميَّز الكابتن كمال بأنَّه أول من قدَّم خصومه الإعلاميين أو الصحفيين على الشاشة من خلال برنامجه الشهير الطويل، وأمام أضواء العدسات، ليستل منهم كل أثر لعداوة أو خصومة أو غيرة مهنية.. يروِّد أعداءه أمام كاميرات البرنامج.. ويؤسس لمنهج إعلامي جديد لم يسبقه إليه أحد.. فهو يهاجم خصمه عبر الإعلام بضراوة متناهية، حتى تكاد تشعر أنَّ كلماته توشك أن تتحول إلى طلقات رصاص ستقتل هذا الخصم حتمًا.. وبعد فترة تجد هذا الخصم نفسه قد تحوَّل إلى حليف كأنَّه لم تكن بينهما عداوة من قبل!!

    وعن طريق المهارة في العمل الإعلامي الذي استغله بذكاء شديد، استطاع أن يستمر في عش الدبابير الأول وهو إدارة كرة القدم.. ومن خلال نجاحه وذكائه الإعلامي الحقيقي استطاع أن يدخل إلى عش الدبابير الثاني.. التحق الكابتن كمال بالحزب الوطني الحاكم، ولم يكن انضمامه لعضوية الحزب (كمالة عدد)، ولم يكن هدفه مجرَّد الحصول على بطاقة عضوية الحزب ليرفعه في وجه بعض أصحاب النفوذ باعتباره ابن النظام.. إنما أراد أن يصبح ابنًا حقيقيًا للنظام، وعضوًا فاعلا في أمانة السياسات بالحزب تحت إشراف (جمال) مباشرة..
    عاد كمال من لقائه بـ(جمال) أمين السياسات بالحزب الحاكم ليقول لزوجته:
    أبشري يا سوسو زوجك وصل.. الآن أستطيع القول يا حبيبتي كمال عبده وصل لما يريد..
    أقبلت عليه سعاد تقبِّله بحب ثم رفعت عيناها إليه في فضول وهي تسأله بعينيها دون كلام .. قال لها بثقة:
    من اليوم انتقلنا إلى طبقة الحكام.. من اليوم زوجك كمال عبده من القِلِّة التي تحكم مصر..
    قبَّلته سعاد بحب ولهفة.. وهي تقول:
    مبروك يا حبيبي.. مبروك عليك يا كيمو.. أنت دائمًا تستحق كل خير..
    قولي مبروك علينا يا سوسو.. أنا وأنت، والبنات.. أنت من الآن بصدق زوجة رجل مهم.. نحن أسرة مهمِّة.. مهمِّة جدًا
    احتوته سعاد في صدرها وانهالت تقبيلا لرأسه ووجهه..


    أمَّا مصطفى حنفي فكان في هذه الأثناء ينعم بصحبة زوجته ماجدة في غرفة مكتبه، في شقته الجديدة في التجمع الخامس.. وأمامه قدح من القهوة المحوِّجة التي يشتهيها بشكل كبير.. يبتسم لزوجته بحب.. وهو يقول:
    تعرفين يا ماجدة.. الظهور في الميديا.. الظهور في الإعلام، ماذا يشبه؟!
    نظرت إليه ماجدة بإكبار ووله، كأنَّها توشك أن تتلقَّى وحيًا من السماء وهتفت بحبور:
    مثل ماذا يا حبيبي؟
    مثل الذي يغنِّي لنفسه في الحمام..
    اتسعت ابتسامة مصطفى اللزجة تحت شاربه الكث المميَّز. واتسعت عينا ماجدة من الدهشة.. لكنها ظلت صامتة تستزيده للحديث دون مقاطعة.. أضاف مصطفي كأنَّه يقرر حقيقة واقعة:
    تعرفين شعور الذي يغني في الحمام وهو يجلس في حوض الاستحمام وفوقه يتساقط الماء من الصنبور؟ يشعر أنه يعبِّر عن داخله بصدق.. يخُرِج كل ما بداخله.. يكون على طبيعته.. (بلبوص) يعني..
    ضحكت ماجدة وقالت هامسة:
    الغريب أنَّك تستريح وأنت (بلبوص)!!
    ثم استغرقت في الضحك لحظة.. وعادت تقول:
    ظننت أنَّ أمتع لحظات حياتك تكون وأنت ترتدي هذا القميص المخطط.. إنَّك يا روحي لا تجلس حتى معي بدونه.. فكيف تجد راحتك وأنت (بلبوص)؟.. أنا قبل زواجي بك كنت أتخيل أنك تأخد حمَّامك وأنت ترتدي القميص المخطط.. هذا هو المايوه الخاص بك.. بعض زملائنا في الجريدة يقولون: إنَّك مولود به.. هذا القميص المخطط بالطول جزء منك يكبر معك مثل جلدك يتَّسع حتى يستوعب..
    وصوَّبت نظرة نحو كرشه الكبير المكوَّر وغرقت في الضحك..
    ضحك مصطفى حتى اغرورقت عيناه بالدموع.. مرت لحظة حتى هدأت أنفاسه ثم عاد يقول:
    أنا لا أمزح يا ماجي.. أشعر عندما أجلس أمام الكاميرا، وأعلم أنَّ الناس كلها تشاهدني، أو ممكن تشاهدني من خلف الشاشة.. بأنني أفضفض.. أخرج كل ما بداخلي.. لا أحتاج أتكلَّف في كلامي معهم.. أنا أتكلم بما أشعر به لحظتها فقط.. يا رب تكون نُكتة أو كلمة خارجة حتى.. ليس مهمًا.. المهم أنَّ هذا ما أشعر به..
    صرخت ماجدة وعيناها مفتوحتين على اتسعاهما:
    احذر يا حبيبي تتورَّط في فعل فاضح أمام الشاشة..
    ثم أطلقت قهقهة عالية.. شاركها مصطفى الضحك حتى كاد يستلقي على قفاه، ثم قال:
    شيء جميل أن يُخرج الإنسان ما بداخله هكذا على الملأ.. على الناس.. يسمعه كل الناس وتعرف ما يفكِّر فيه الآن.. كثير من زملائنا في الإعلام، الذين يظهرون أمام الشاشات يصابون بحساسية.. أرتكاريا عندما يشاهدون مصباح (الريكورد) الأحمرا. معلنة بداية الهواء، أو التسجيل.. يتوترون ويحاولون الظهور على الناس بصورة غير صورتهم، كأن المشاهدين أغبياء لا يفهمون كل شيء، ولا يعرفون أصلهم وفصلهم قبل أن يجلسوا أمام الشاشات لمتابعتهم.. أما أنا فأشعر إنني أمام الناس أفكِّر بصوتٍ عالٍ.. أفكِّر فيما أحسه بالضبط، حتى يفكِّرون معي، يفكِّرون في نفس ما أفكر فيه، وتحس نفس إحاسسي..
    ثم استدرك متسائلا:
    تعرفين يا ماجي ما الفرق بين العبقري والإنسان العادي أو الخامل أو حتى الغبي؟..
    سكت برهة وهو يتطلَّع إليها.. وهي تدرك أنَّه لا ينتظر منها في هذه اللحظات التي يشعر فيها بالتجلي والانتشاء جوابًا فلاذت بالصمت وهي تتطلَّع إليه باهتمام.. استطرد مصطفى:
    العبقري يحمل فكرة هنا..
    ورفع كفَه ودق بها جبهته بطريقة عنيفة كأنَّه يدق على جدار.. وأضاف:
    أما الإنسان العادي فلا يحمل هنا (وعاد يشير إلى رأسه برفق هذه المرة بعد أن أوجعته الدقة الأولى على رأسه)، لا يحمل شيء لا فكرة ولا شيء.. لكنَّ العبقري نفسه يا ماجي يبقى لا قيمة له ولا وزن، ولا يعترف به أحد.. ولا تستفيد البشرية من عبقريته ولا من أفكاره التي يحملها في دماغه.. كل هذا لا يحدث للعبقري إلا عندما يخرج ما هنا -وعاد يشير إلى رأسه – ويشرحه للناس ويحفِّزهم على تنفيذ ما يعتقده، ويقنعهم بأفكاره.. تعرفين يا ماجي.. أتخيل أن أفلاطون كان يصعد جبلا عاليًا وينادي على أهل أثينا
    ونهض مصطفى واقفًا بطريقة مسرحية، ولو كان أخف وزنًا، فربما كان صعد فوق المكتب.. لكنه اكتفى بالوقوف فوق الفوتيه)، وهتف:
    يا قوم.. يا أهل أثينا.. يا أهل اليونان جميعًا.. أريد أن أقنعكم بهذه الفكرة..
    هبط مصطفى من فوق مقعد الفوتيه وجلس عليه واستند إلى المكتب وهو يلهث، وكرشه يعلو ويهبط.. ثم قال بعد لحظة:
    ثم يبدأ سقراط في عرض أفكاره عليهم.. هذا الجبل في عصرنا الآن يا ماجي هو الميديا.. لا بد لي أن أظهر على الميديا، كأنني أصعد فوق الجبل بالضبط.. وأخرج كل العبقرية التي في دماغي، (وعاد يدق على رأسه)..
    ضحكت ماجدة ثم قالت:
    جاء دوري إذن لأعرض عليك أيضًا مشهدًا من مشاهد الدعوة للأفكار..
    ثم قفزت بخفة تتناسب مع وزنها فوق المكتب.. ومصطفى ينظر إليها مشدوهًا وهو يضحك ويهتف بها:
    ماذا تفعلين يا مجنونة؟!
    أجابته بمنتهى الجدية:
    اصمت يا رجل وسترى..
    ثم وقفت ومدت وجهها للأمام وهتفت بصوت مرتفع:
    يا معشر قريش.. يا بني هاشم.. يا بني عدي.. يا بني مخزوم.. يا بني فلان.. يا بني فلان.. هل إذا قلت لكم أنَّ وراء هذا الجبل جيشًا أكنتم مصدقي..
    وهتف مصطفى من بين ابتسامته العريضة:
    نعم فأنت الصادق اﻷمين..
    وعادت ماجدة تهتف بأعلى صوتها:
    يا معشر قريش..
    وهنا وقف مصطفى مقاطعًا وصارخًا بحدِّة:
    تبًّا لكِ سائر اليوم.. ألهذا لغبطتي الأوراق التي أعمل بها فوق مكتبي..
    وقفزت ماجدة من فوق المكتب وهي تضحك وتقول:
    نفس الميديا يا حبيبي.. فكرتك أصلها عبقرية أنَّك تربط بين الجبل وبين الميديا.. بين صعود الجبل، وبين الظهور على الشاشة!!
    شرد مصطفى ببصره طويلا ثم قال صاخبًا وكلماته تسيل على شفتيه كما يحدث عندما ينتشي أو يتحمس دائمًا:
    يخرب مُخكِ يا ماجي.. لقد اوحيتِ لي الآن بفكرة عبقرية.. أنا أريد تقديم برنامجًا دينيًا.. لا بد أقدِّم برنامجا دينيًا.. لا بد أشرح الإسلام للناس بطريقتي.. بطريقة جديدة عليهم!!
    أطلقت ماجي صافرة رفيعة من بين شفتيها وهي تصفق وتهتف:
    لستُ وحدك عبقريًا يا حبيبي..
    تخيَّلي إذن يا ماجي عندما أظهر على الناس بنفس هيئتي وبنفس القميص الذي تحقدون جميعًا علي بسببه، وأقوم بشرح طريقة جهر سيدنا النبي بالدعوة وأمثلَّه بنفس طريقتك هذه.. وأفاجئ العاملين بالاستوديو وفريق العمل بالقفز فوق الطاولة أمامي.. وأقف عليها وأنا أهتف: يا معشر قريش..
    ألم أقل لك جميل أن يفعل الإنسان ما برأسه من وحي اللحظة وأمام الإعلام؟!.. ويفاجئ الجميع بتلقائية دون رتوش ولا مكابح.. حلوة مكابح هذه أليس كذلك؟..
    وأطلق ضحكته اللزجة.. وشاركته ماجدة الضحك وهي تهتف في حماس:
    بصراحة يا مصطفى كل شيء فيك ومنك حلو..
    واتسعت ضحكة مصطفى وهو يقول بصوت خافت مُرهَق من كثرة الضحك:
    هذا هو القرد في عين زوجته..

    ولم يمضِ على هذه المحادثة المسرحية الضاحكة سوى أيام، وكان مصطفى جالسًا أمام مكتب مدير قناة الأحلام يقول:
    يا فؤاد بك لدي فكرة برنامج ديني لم يقدِّم مثله أحدٌ من قبل..
    اتسعت عينا المدير دهشة وهتف:
    يا أستاذ مصطفى أنت صحفي وتقدِّم برنامجًا ثقافيًا عن خلاصات الكتب.. موضوع الدين يحتاج إلى مختصين، ونحن لا تنقصنا مشكلات..
    الموضوع لا يحتاج تخصص ولا شيء يا أستاذ فؤاد.. أنا عندي برامج في السيرة والتاريخ الإسلامي.. أو ما يطلقون عليه التاريخ الإسلامي.. الذي هو تاريخ المسلمين في هذه الفترة يعني.. وأنا ثقافتي وتربيتي إسلامية وأستطيع القيام بهذا الدور على أحسن وجه..
    رفع فؤاد وجهه وقال بحسم واضح:
    بالله عليك يا أستاذ مصطفى ابحث لك عن ملف آخر.. تكلم في الثقافة.. تكلم في السياسة.. قدِّم برنامجًا فنيًا.. لكن موضوع الدين سيسبب مشاكل.. مشاكل مع الحكومة وهي عندها حساسية.. حساسية إيه؟.. عندها أرتكاريا من كل ما له علاقة بالدين.. ويسبب لنا أيضًا مشاكل أكثر سخونة مع الإخوان والسلفيين والمشايخ.. أنت هكذا تفتح علينا أبواب جهنم..
    قاطعه مصطفى بغضب مكتوم:
    يعني هو الأخ عمرو خالد كان متخصصًا في الدين؟.. وكله يمشي..
    يا أستاذ مصطفى.. عمرو خالد حاصل على شهادة من معهد إعداد الدعاة أو شيء من هذا القبيل.. هذا الرجل ذهب يدرس الماجستير ونيته الحصول على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية.. يعني الرجل أصبح متخصصًا.. وكذلك لا تنسَ يا أستاذ مصطفى أنَّ عمرو دفع ثمن كلامه في الدين.. الرجل يعيش منفيًا خاجر مصر، ويبث برامجه من فضائيات غير مصرية..
    لكن بدايته كانت من هنا يا أستاذ فؤاد.. وفي الفضائيات المصرية.. وساعتها كان مجرد داعية هاوي.. وليس محترفًا، ولم تكن لديه دراسات ولا شيء.. الموضوع كله مرتبط بالموهبة.. وطريقة توصيل المعلومة..
    لكنَّ البداية التي تتحدث عنها دفع ثمنها هو والقناة التي ظهر بها.. وإن كنت أنت يا سيدي مغامرًا ومستعد لدفع الثمن.. فأصحاب القناة يا أستاذ مصطفى ليس لديهم استعداد لدفع أثمان لنزوات..

    هكذا انتهت المقابلة العاصفة بين مصطفى وفؤاد مدير القناة نهاية قاسية.. لكنَّ مصطفى تعلم من صديقه كمال ألا يستسلم لليأس، فيعاود المحاولة مرة بعد أخرى، فأوحى لكمال عبده بالتدخل لصالح فكرته.. وبالفعل وبعد إلحاح ووساطات، وتجارب أعدَّها مصطفى بمجهوده الفردي وبإنتاجه الخاص وعرضها على مدير القناة، أخذت الفكرة تروقه شيئًا فشيئًا، فتزحزح عن موقفه أخيرًا، ووافق على الفكرة.. وقدَّم مصطفى حنفي برنامجًا رمضانيًا عن عصر الخلفاء.. يتناول فيها عصر الخلفاء الراشدين برؤية مغايرة تمامًا.. رؤية تتعارض كل المعارضة مع الرؤية التي استقر عليها أهل السُّنة جميعًا!!
    كان هذا البرنامج الديني الذي قدَّمه على مدار ثلاثين حلقة كاملة، هو البرنامج الديني الأول له في الفضائيات.. لكنه لم يكن البرنامج الأخير، فأتبعه في رمضان التالي ببرنامج ديني آخر.. رغم اعتراض علماء وفقهاء ومفكِّرين إسلاميين كُثر على طريقة مصطفى حنفي في تناول حوادث التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية، والدفع بعدم أهليته لذلك.. لكنَّ مصطفى تحمَّّل كل النقد ولم يلتفت له، واستمر في تقديم برنامجه الجديد برؤية جديدة وزاوية مخالفة تمامًا لعلماء وفقهاء ومفكري مصر!!
    حتى تناقلت بعض الصحف المستقلة المنافسة للصحيفة التي يرأس تحريرها، أنَّ هذه البرامج الدينية بتلك الرؤية التي يطرحها من خلالها هي رؤية مملاة عليه من قِبَل المرجعيات التي يحرص على زيارتها في رحلاته الخارجية كل عام أو عامين.. ليصبح أو يتحول إلى بوق لتلك المرجعيات لنشر أفكار مذهبها الممنوع من الانتشار في مصر بحكم بيئتها وثقافتها.. وقارنت بين ما يبثه مصطفى في برنامجه الديني من أفكار، وما يحاول أن يثبته في وعي المشاهد من وقائع تاريخية مختلَف عليها، وبين ما يوجد في كتب هذه المرجعيات الدينية الغريبة عن ثقافتنا المصرية متفق إلى حد التطابق، بما يؤكد أنَّ مصطفى عندما يُعد لبرنامجه الديني الذي يتناول فيه عصر الصحابة، لا يرجع إلى الكتب التي تشكِّل وجدان الشعب المصري، ولا يرجع إلى علماء ومشايخ الأزهر الشريف، بل يخالف ما يقرَّه هؤلاء العلماء ويزلزل ما اتفقوا عليه.. ويُعد مادته التاريخية والفقهية من كتب مستوردة غريبة ودخيلة على ثقافتنا وتراثنا!!
    كان هجوم هذه الصحف على مصطفى حنفي حادًا عنيفًا، وكان تركيز هذا الهجوم مُنصب في الأساس على البرامج الدينية التي يقدِّمها منكرين عليه اقتحام مجال هو ليس مؤهلا لارتياده من الأساس.. لم يشغل مصطفى حنفي نفسه بالتأكيد أو النفي، فلقد كان لديه ما يشغله أكثر من الرد على هؤلاء.. كان منشغلا بالإضافة إلى دباجة مقالاته النارية في افتتاحية جريدته، بالإعداد لبرنامج سياسي يقدِّم فيه تحليلا سياسيًا موسَّعًا لأهم أخبار وأحداث الأسبوع السياسية في مصر، وإعداد وتجهيز برنامج فني يلتقي فيه مع كبار الفنانين ليتحدث معهم في أدق تفاصيل أعمالهم الفنية ويتناول أسرارهم الخاصة، وعلاقاتهم الخاصة بغيرهم من الفنانين الآخرين.. ويفكِّر كذلك في تقديم برنامج فكاهي (كوميدي) في رمضان.. ويستعد في نفس الوقت لتمثيل بعض مشاهد في فيلم سينمائي، يظهر فيه لعدة دقائق ويتعامل مع إحدى بطلات الفيلم باعتباره رئيس تحرير الجريدة التي تعمل فيها البطلة وتسعى لكشف أحد ملفات الفساد.. هكذا أصبح مصطفى حنفي يعمل في الصحافة، ويعمل في الإعلام الديني والثقافي والسياسي والفني والفكاهي الترفيهي، ويعمل في السينما فيصوِّر المشاهد في بلاتوهات السينما.. لقد أصبح يعمل في كل شيء تقريبًا دون تهيُّب أو وجل أو إحجام!!

    اتصل به كمال عبده ذات مساء وهتف ضاحكًا:
    ما هذا كله يا درش؟ أنت لا تترك لنا شيئًا أبدًا يا رجل.. لا تترك.. في السياسة شغَّال.. ثقافة شغَّال.. دين شغَّال.. فن شغَّال.. سينما شغَّال.. أنا خائف يا درش إنني أجدك غدًا ترتدي (شورت) وتمسك صفارة وتحكم مباراة كرة..
    قهقه مصطفى وهو يجيبه قائلا:
    أرتدي (شورت) وأحكم مباراة بكرشي هذا يا أبا الكباتن؟!
    بكرشك هذا يا مصطفى ولذلك قلت تحكم مباراة لا أنْ تلعبها.. ولولا الكرش.. أكيد كنت ستطلب أن تلعب مكان أبو تريكه..
    قال مصطفى بهدوء مثير:
    أنت أيضًا شغَّال الله ينوَّر يا كيمو..
    وأخذ يعد على أصابعه حتى لا ينسى..
    كرة، وإعلام، وصحافة، وسياسة، واتحاد كرة.. وبزينس..
    لا وحياة أبيك يا درش بلاش موضوع البزينس هذا، لا تفتح علينا فاتحة.. أنا فعلا أشتغل في كل شيء الا البزينس.. لا نريد مشاكل لا مع الضرائب ولا مع مكافحة الكسب غير المشروع..
    أنا سمعت يا رجل أنَك تنوي ترشيح نفسك في انتخابات مجلس الشعب..
    فعلا أنا جاد في هذا الموضوع.. أنا أفكر النزول في دائرة دسوق.. تعال انزل معي يا مصطفى.. ونقسمِّها بيننا أحدنا على مقعد الفئات والثاني على مقعد عُمَّال..
    وكيف نفعل ذلك يا أبا الكباتن.. أنا وأنت حاصلين على مؤهِّلات عليا؟..
    يا عم سهلة.. أمانة السياسات تستطيع عمل كل شيء.. الدفاتر في يدنا والأوراق في يدنا، على رأي صلاح منصور الله يرحمه.. أليس كذلك يا عمدة؟
    ضحك مصطفى وقال:
    لا اعفني من موضوع الانتخابات هذا يا كمال.. أنت تعرف أنني لا أصلح للنزول مع الحزب الوطني.. يجب أن أظل في خندق المعارضة.. الموضوع لا ينقصه فضائح.. لم أنتهِ من أزمة برنامج الصحابة.. ولا أريد الدخول في أزمة جديدة من غير لازمة..
    طيب يا سيدي.. فلتكن المعارضة لكن لا تطلع في دماغك وتأتي لتنزل ضدي في دسوق..
    وهل أستطيع يا أبا الكباتن.. عمومًا أنا هكذا من الخارج حلو.. وشغَّال جيدًا.. ليس لي في خنقة رابطات العنق الخاصة بالبرلمانات..
    تمام يا درش براحتك.. لكن لا تنسَ أنا محتاج دعمك وتأييدك وشغلك معي في الانتخابات، حتى ولو كان من تحت الطاولة..
    وأنا تحت أمرك يا كيمو..
    طيب يا درش سلام مؤقت إلى أن أراك قريبًا..
    سلام يا أبا الكباتن..

  7. #17
    الصورة الرمزية علاء سعد حسن أديب
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 468
    المواضيع : 50
    الردود : 468
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    بعد عدة أيام من هذه المكالمة بين كمال ومصطفى.. كان كمال بالفعل يمشى في تراك النادي مع أحد مسؤولي المجمَّع الانتخابي للحزب الوطني، وجَّه المسؤول كلامه إليه بحسم:
    انظر يا كابتن كمال، لا نريد ولسنا ناقصين مشاكل..
    طبعًا يا فندم مفهوم..
    يعني نظامنا في الانتخابات البرلمانية كل واحد (بشيلته).. فاهم؟..
    تمام يا فندم..
    كل واحد (بشيلته) عندنا يا كابتن يعني الحزب لا يحمل أحدًا من المرشحين.. نحن نفتح له السكة فقط.. والمرشح عليه الباقي.. فلو لم تكن على قدر المسؤولية من الآن فقل..
    لا طبعًا يا فندم أنا رقبتي سدَّادة..
    وأيضًا أريد أن أقول لك أنَّ الولد الدكتور النائب عن الإخوان في دسوق عَظْمَة شديدة وخلفه رجال الإخوان.. ورجال الإخوان في الانتخابات يتحوَّلون إلى كلاب مسعورة.. نريد ذئاب تقف لهم.. معك ذئاب يا كابتن أم نأتي بك في دائرة من دوائرنا هنا؟
    معي رجال تأكل الصخر يا فندم..
    صرخ المسؤول في انفعال:
    لا أريد رجال تأكل الحجر يا كمال.. أريد ذئاب.. ذئاب حقيقية.. ذئاب بشرية.. مفهوم؟!
    مفهوم يا فندم وجاهز..
    الولد الدكتور الفلاح نائب دسوق أغضب الباشا في الدورة البرلمانية الفائتة.. وهو لا يريد أن يرى وجهه مرة أخرى بأي طريقة.. تستطيع؟ أم تتركنا نتصرف بطريقتنا؟
    أستطيع يا فندم.. اتركها على ربنا وعلينا..
    التمويل لزوم الدعاية، والرجال، وكل ما يلزم، مسؤوليتك.. تبع (شيلتك)..
    طبعًا طبعًا يا فندم.. فاهم.. الجماعة قالوا لي..
    الشيك الخاص بي يا كابتن يوضع في البنك غدًا بهذا الاسم..
    وناوله ورقة صغيرة أخرجها من جيبه.. نظر فيها كمال ثم وضعها في جيب قميصه بحرص، وهو يبتسم..
    قالوا لك كم يا كابتن؟..
    الذي تأمر به يا فندم..
    ضع مليون الآن تحت الحساب.. ثم نتفاهم..
    أمرك يا فندم..
    توقَّف المسؤول عن المشي.. وقال بحزم:
    - انصراف يا كابتن ..
    ثم مضى عكس سير كمال وتركه يبتسم لنفسه..

    حدَّث كمال نفسه متسائلا:
    وما قيمة شيك بمليون جنيه، ومثلها مرة ،ـ أو مرة ونصف تُنفق على عضوية المجلس؟ الحصانة تساوي أكثر من ذلك كثيرًا.. ما ينفقه اليوم سيكسب أضعافه غدًا وبالحلال..
    يهتم كمال بقضية الرزق الحلال.. وما يصل إليه إنَّما يصل إليه بعرَقه وماله.. وما يضطر لإنفاقه على مستقبله المهني أو العملي.. يعوَّضه أيضًا بجِدِّه واجتهاده.. فسعره اليوم في الفضائيات التي يظهر فيها يساوي رقما معينًا، هذا الرقم مرتبط بعاملين أساسين، أولهما قدرته على جلب الأسرار التي تُدهش المشاهد، والتي يحصل عليها من المواقع الحساسة التي يتصل بها وتربطه بقيادتها ومسؤوليها علاقات وطيدة.. هذا الوضع في حد ذاته كفيل بالحصول على العنصر الثاني من عناصر التسعير، وهو جذب الإعلانات والمعلنين.. وسعر الكابتن كمال عبده كإعلامي في الفضائيات وهو في عضوية مجلس إدارة اتحاد الكرة رقمًا معينًا، ربما كان جيدًا.. لكن سعره كإعلامي وهو نائب في البرلمان وعضو لجنة الشباب والرياضة مع الاحتفاظ بعضوية مجلس اتحاد الكُرة، لن يصبح سعرًا جيدًا فحسب، وإنَّما سيصبح سعرًا ممتازًا.. أليس هذا رزقًا حلالا؟!

    دخلت سعاد على كمال غرفة مكتبه وهو يتحدَّث في الهاتف.. كانت اللهجة التي يتحدَّث بها غريبة عليها، لم تسمعها منه من قبل.. نظر كمال إليها ثم أنهى المكالمة هامسًا على عجل، أغلق الهاتف، ثم بشَّ في وجهها مرحِّبًا:
    أهلا سوسو..
    سألته سعاد بفضول:
    مع من كنت تتحدَّث بهذا الأسلوب الغريب يا حبيبي؟
    هذا رجل ابن بلد.. في عرفنا نطلق عليه فتوة من فتوات أولاد البلد الجدعان.. الآخرون يطلقون عليهم بلطجية..
    بلطجي يعني؟..
    أجاب كمال في بساطة:
    قلت لك يا سوسو ليس بلطجيًا.. فتوة.. يمكنك أن تقولين عنه فتوة..
    ولماذا تحتاج لفتوة يا كابتن؟
    تعرفين يا سوسو إن الجماعة الإخوانجية عندهم شباب وأولاد ورجال كثير وأشدَّاء، يستطيعون الوقوف أمام منافسيهم وخصومهم، وهم أشد من بلطجية، ومع ذلك لا يصفونهم بذلك.. نحن لسنا ورائنا رجال.. لسنا أصحاب فكرة أيديولوجية نجمع عليها الناس، ولا نقوم بالخطابة في المساجد، وليس لدينا شباب في المدارس والجامعات، وعندما نخرج صدقة نعطيها هكذا لعم فلان جارنا القديم.. أو البنت فلانة الشغالة، هكذا في السر، وليس لدينا مؤسسات وجمعيات خيرية توزع خيرنا على الناس وتربطهم بنا.. ليس عندنا شيء أبدًا من الأفكار والخدمات والجمعيات والمؤسسات وفرق الشباب الذين يحررسون اللجان الانتخابية.. ليس عندنا شيء مما لدى الإخوان.. إذن يجب أن نعتمد على أولاد البلد الجدعان.. المواطنين الشرفاء.. فتوات زمان!!
    وأين دور الحزب يا حبيبي؟
    ضحك كمال وقال ساخرًا:
    حزب؟ حزب ماذا يا أُم ياسمين؟ هذا الحزب ديكور فقط.. أغلب أعضائه مجرَّد مصلحجية يبحثون على (سبوبة).. لكن لا يقفون مع أحد.. وإذا وقفوا لا يصدون مع أولاد الإخوان.. أولاد الإخوان وحوش لا يصلح معهم غير ذئاب بشرية..
    انزعجت سعاد وقالت في خوف:
    أنت هكذا تقلقني عليك.. علينا كلنا يا كيمو..
    لا تخف يا جميل.. نحن لها.. نحن معنا الداخلية ومباحث أمن الدولة.. سيظبطوننا، فلا داعي للقلق..
    إذا كانت الداخلية معنا وستحمينا، ما فائدة البلطجية والفتوات يا كيمو؟!
    - الداخلية لا تحب التدخل إلا في الأحداث الجسام، عندما نصنع لها سببًا للتدخل.. فيكون تدخلها طبيعيًا مبررًا أمام المراقبين والإعلام.. مثلا عندما يجمع عيال الإخوان الناخبين ويصفونهم في صفوف أمام اللجان، لا تستطيع الداخلية التدخل لفضهم، عندها يأتي رجالنا ويفتعلون مشاجرة ويتحرشون بهم وتتحول لمعركة بين الطرفين.. هنا يكون تدخل الداخلية مبررًا، فتضطر لحجز الجميع وتغلق اللجان، ثم تخرج من الحجز من لديه ظهر وتترك الباقي.. هكذا بالقانون والحياد بين جميع المرشحين.. فبدون المواطنين الشرفاء شغلنا كله يفشل فشلا ذريعًا يا حياتي..


    انتهت الانتخابات، وتم ( تقفيل) الصناديق في دائرة دسوق.. وتم التعامل مع مندوبي مرشح الإخوان من قبل المواطنين الشرفاء.. وتم إعلان النتيجة ليلا، فاز الكابتن كمال عبده بعضوية مجلس الشعب.. وكان أول اتصال يتلقاه كمال عقب إعلان النتيجة من صديق عمره مصطفى حنفي:
    مبروك يا أبا الكباتن.. طبعًا تعرف أنه لم يمنعني من الوقوف معك في الظاهر غير الشديد القوي..
    فاهم يا درش.. سكتنا دائمًا واحدة يا برنس..
    طبعًا يا كمال.. أنا وأنت ربما نختلف على أي شيء.. نختلف مثلا على (جيمي) أم لا, لكننا دائمًا متفقين ضد الخطر الحقيقي وهو الإسلام السياسي..
    طبعًا طبعًا يا مصطفى.. وإن كنت أفضل عدم ذكر حكاية (جيمي) في الهاتف.. جثتي لا تتحمل!!
    ايه يا سعادة النائب المحترم.. نحن معنا الحصانة.. الحصانة يا برنس.. اركب إذن ودُس..
    تمام يا معلم.. سلام مؤقَّت.. دعني ألتفت على الفور لزفَّة الفوز.. سهرانين للصبح يا درش..
    هيا أقول لك مبروك مرة تانية والعقبى في كل مرة..
    في حياتك يا درش..

    بدأت مرحلة جديدة في حياة كمال عبده نائب البرلمان وعضو اللجنة البرلمانية للشباب والرياضة.. والمسؤول الكبير في مجلس إدارة اتحاد كرة القدم، والإعلامي اللامع في فضائية الأحلام، والشريك في رأس مالها وإدارتها، والصحفي ورئيس القسم الرياضي بجريدة الصباح..
    بينما جلس مصطفى حنفي إلى مكتبه ليكتب.. كان منهمكًا في الكتابة لدرجة أنه لم يتنبه لدخول زوجته ماجدة تحمل صينية عليها فنجان القهوة المحوِّجة التي يحبها، والتي تساعده على التركيز في الكتابة.. جلست ماجدة في هدوء بعد أن وضعت الصينية بهدوء أيضًا، وبلا صوت تقريبًا، على المكتب أمامه فلم يرفع رأسه عن أوراقه.. استمرت ترقبه بإعجاب هكذا لمدة عشرين دقيقة قبل أن يرفع أخيرًا نظره إليها، ليسألها وهو يبتسم ابتسامته اللزجة التي تسيل على ذقنه:
    منذ متى وأنتِ هنا يا ماجي؟
    منذ نحو ثلث ساعة يا أستاذ.. القهوة بردت.. أقوم أجهز لك غيرها؟
    لا اجلسي.. اجلسي يا ماجي.. سأشربها باردة.. عذرًا فأنا منهمك قليلا..
    سؤال أخير حتى لا أعطلك ثانية: فيمَ كل هذا الإنهماك؟
    إني أكتب رواية.. رواية أدبية.. إنما ستصبح تحفة.. رواية ستكون مفاجأة الوسط الأدبي كله هذه السنة..
    (وااااو) رواية أدبية هكا دفعة واحدة؟!.. ارحم قليلا يا عم (نجيب).. ومتى تنوي الحصول على نوبل إن شاء الله؟!
    قريبًا.. قريبًا يا ماجي يمكن أن أحصل على نوبل.. لكنهم سيحتارون بعض الشيء.. فيمَ يعطونني جائزة نوبل.. الآداب، أم للسلام.. أو .....
    أكملت ماجدة باسمة:
    أم في العلوم والفزياء والكمياء.. أنت حكاية يا حبيبي..
    سحصل عليها يا ماجي طالما أنت معي.. سأحصل على نوبل قريبًا..

    وخرجت ماجدة حتى لا تعطِله عن عمله.. وانكب مصطفى على الكتابة من جديد..
    يكتب مصطفى ما يعتبره من وجهة نظره رواية أدبية، وهو يعد في رأسه (دماغه) كما يطلق عليه دائمًا وهو يدق عليه.. مشروعين آخرين.. مشروع مناضل سياسي من طراز جرئ.. في نفس الوقت الذي يعد فيه لبرنامج فكاهي يقدِّمه على إحدى الفضائيات في رمضان..
    شرد مصطفى ببصره وسأل نفسه:
    ولمَ لا أكتب رواية أدبية؟ ولمَ لا تكون رواية أدبية عالمية وعظيمة أيضًا؟ ألست قارئًا نهمًا لكل أصناف الكتب؟..
    وجد نفسه يقهقه وهو يهتف:
    نحن بتوع كله.. والله وصدقت يا كيمو.. يجب فعلا أن نكون بتوع كله.. ثم هل الذين يكتبون أدبًا.. أو يعملون سينما، ولا حتى يغنِّون.. أو يرقصون كذلك .. أحسن منا بماذا؟ كلنا أولاد تسعة!!
    وصاح بأعلى صوته:
    ماجي .. يا ماجي .. تعالِ يا حبيبتي..
    أسرعت إليه ماجي متطلعة في دهشة، لقد تركته منذ دقائق منهمكًا كل الانهماك في كتابته، سألته في لهفة:
    خير ماذا حدث يا مصطفى؟
    تعالِ يا ماجي أشعلي الكاسيت على موسيقى.. وهيا نرقص ونغنّي.. نريد أن نرقص ونغنِّي.. منذ زمن لم نفعل.. أليس كذلك يا ماجي؟!..
    أخذت ماجي تنظر إليه في ذعر ودهشة.. هل جُنَّ مصطفى؟!

  8. #18
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,064
    المواضيع : 312
    الردود : 21064
    المعدل اليومي : 4.96

    افتراضي

    السياسة لعبة قذرة ـ ومن يمسك بخيوط اللعبة لا يهمهم سوى تحقيق أغراضهم
    الدنيوية فيبيحوا كل محظور من أجل الوصول لغاياتهم
    يكثر الفساد وتسقط كل معايير الشرف والأخلاق، وتموت الضمائر
    وتستباح القيم وتنهار الكرامة ، ولا يملك أحدهم أي هدف
    وطني يخدم البلاد.
    قص متكامل الأدوات ، متقن الحبكة، بسردية اعتمدت المباشرة بلا تعقيد
    وببراعة في التصوير والحوار ـ وبلغة موحية معبرة إلى أقصى درجة
    هو بإختصار نص تسجيلي مميز لمن يلعب على كل الحبال
    ( بتوع كله)
    أحي سمو يراعك، ودقة تصويرك.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  9. #19
    الصورة الرمزية علاء سعد حسن أديب
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 468
    المواضيع : 50
    الردود : 468
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناديه محمد الجابي مشاهدة المشاركة
    السياسة لعبة قذرة ـ ومن يمسك بخيوط اللعبة لا يهمهم سوى تحقيق أغراضهم
    الدنيوية فيبيحوا كل محظور من أجل الوصول لغاياتهم
    يكثر الفساد وتسقط كل معايير الشرف والأخلاق، وتموت الضمائر
    وتستباح القيم وتنهار الكرامة ، ولا يملك أحدهم أي هدف
    وطني يخدم البلاد.
    قص متكامل الأدوات ، متقن الحبكة، بسردية اعتمدت المباشرة بلا تعقيد
    وببراعة في التصوير والحوار ـ وبلغة موحية معبرة إلى أقصى درجة
    هو بإختصار نص تسجيلي مميز لمن يلعب على كل الحبال
    ( بتوع كله)
    أحي سمو يراعك، ودقة تصويرك.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    طبعا بعد الشكر الموصول أستاذة نادية لدوام متابعتك وتشجيعك.. أعود للرواية فأجدني غير متيقن أن مستنقع السياسة كان سبب هذا الانحراف والتدني النفسي والخلقي.. هناك ضعفا وجشعا ونهما وغياب للقيم وقفز على حقوق البشر وجد في سياسة فاسدة وساسة فاسدين وأحزاب مهترئة صُنعت كجوقة أو كصدى صوت للاستبداد والفساد.. وجدت في كل هذا العفن غطاء للوصول إلى غايات الدنايا والله تعالى أعلم

  10. #20
    الصورة الرمزية علاء سعد حسن أديب
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 468
    المواضيع : 50
    الردود : 468
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    (3)
    أمَّا قبل
    نحو المجد


    تساءل كمال عبده والحسرة تأكل قلبه، هذه واحدة من المرات القليلة التي يشعر فيها بمثل هذا الندم والألم والحسرة.. فقرر أن يختلي بنفسه في فيلته بالساحل الشمالي، بعيدًا عن كل معارفه وأصدقائه، بعيدًا حتى عن حبيبته وشريكة حياته سعاد.. وهو يتساءل مهمومًا أو محمومًا لا يدري:
    هل أخطأت عندما قرَّرت الاستمرار في الملاعب إلى هذا الوقت المتأخر؟
    ألم يكن من الأجدر بي أن أعتزل لعب الكرة مباشرة بعد خوضي نهائيات كأس العالم بإيطاليا؟
    إنَّ هذا الوسام لا يمكن أن يتكرَّر وضعه على صدري مرة أخرى ربما للأبد.. فبعد كأس العالم بإيطاليا خرجنا من الدور الأول بأمم أفريقيا 92 وهي المرة الأولى التي تخرج فيها مصر بهذا الشكل المهين.. وبعدها خرجنا من تصفيات كأس العالم 94 بحادثة (الطوبة) باستاد القاهرة أمام زيمبابوي.. وبصراحة سواء ألقى المشجع (طوبة) أم لم يلقِ.. مستوانا لم يكن يؤهلنا للتأهل.. والحمد لله أننا خرجنا بالتعادل في فرنسا.. زيمبابوي التي أخرجتنا خسرت بعدها مباشرة في الدور التالي من الكاميرون برباعية.. ماذا لو كان حدث معنا ذلك في مباراتنا مع الكاميرون؟ لأصبحت فضيحة العمر..
    وفشلنا في التأهل لدور قبل نهائي أمم أفريقيا 94.. خسائر فادحة على المستوى القومي.. إنجاز جيل عام 90 لا يمكن تكراره.. الأدهى من ذلك أنني لم أعد معشوق الجماهير الأهلاوية.. لم يعودوا يتغنون بي ولي.. بعض الجماهير في المدرجات أسمعهم يزومون عندما أنزل أرضية الملعب.. العمر يتقدَّم بي هذه حقيقة.. قدرتي على العطاء داخل المستطيل الأخضر تتقلَّص تدريجيًا.. هذا طبيعي أيضا..
    لكنني لا يمكن أن أعتزل الآن.. لا يمكن أن أعتزل وأنا في أقل مستوياتي على الإطلاق منذ وطئت قدمي الملاعب.. يجب أن أنهي علاقتي بجماهير الكرة في الملعب بشيء يعيش في ذاكرتهم..
    أخذ يصرخ وهو يتجوَّل في الفيلا التي لا يسكنها سواه:
    - كمال عبده لا يعرف الهزيمة..
    - كمال عبده لا يعرف اليأس..
    - لا يمكن أن يهزمني السن..
    - لا يمكن أن يهزمني تحالف بعض الجماهير والنقاد ضدي..
    - لا بد أن أرجع أفضل من البداية حتى أعتزل وأنا في قمة المجد.. لأظل عالقًا في ذاكرة الجماهير، وذاكرة تاريخ الكرة المصرية والأفريقية.. حرام.. حرام أن ينتهي تاريخي نهاية سوداء..
    - لن أعتزل الآن .. لن أعتزل مهما كانت الأسباب..

    خفَّفت حالة الهياج والصراخ التي انتابت كمال عنه كثيرًا وأعطته دفعة معنوية وطاقة هائلة على الصمود والتحدي.. والصبر، وهو من هو اشتهارًا بالصبر.. وبالأمل.. لا بد أن يهدي الأهلي وجماهيره بطولة كأس مصر هذا العام.. وبعدها مباشرة ومن فوق أرضية ملعب المباراة وهو يحمل الكأس بصفته كابتن النادي الأهلي سيعلن الاعتزال وهو ما زال واقفًا على قدميه فوق النجيل الأخضر، يحمل الكأس عاليًا ليبقَ بهذا المشهد خالدًا في ذاكرة الجماهير.. حلم جديد وطموح متجدِّد لا شك في ذلك، وكمال عبده ملك الأحلام والتحديات ورجل الطموحات المستديمة..
    وعليه أن يستغل إجازته الإجبارية التي أجبر نفسه عليها ويقضيها وحيدًا، في التدريب منفردًا لرفع كفاءته ولياقته البدنية.. العزلة، وهواء البحر، والجري على الشاطئ حتمًا ستعيد له شبابه الكُروي المفقود..
    وعاد كمال إلى القاهرة وهو منتعش النفس، عالي الروح، مصمّم على الانتظام في تدريبات النادي للالتحاق بكل مباريات الكأس..
    عاد من عزلته الاختيارية وكله شوق لزوجته سعاد، وللنادي والتدريب.. وجهه مشرق معبِّر عن الطاقة الجديدة التي دبّت في أوصال نفسه.. تعرف سعاد إشراقة نفسه من طريقة رَنِّه لجرس المنزل، فلم يكن يحمل مفتاحًا ولم يكن يحب أن يحمل مفتاحًا إلا في حالات الطوارئ.. أقبلت سعاد على رنة الجرس مسرعة في شوق ولهفة.. وفي ذيلها البنتان تتدحرجن خلفها ممسكتين بأطراف ثوبها شوقًا لأبيهما الغائب.. ودخل كمال مشتاقًا ملهوفًا، فاحتضن سعاد وأخذ يلف بها في ردهة الاستقبال وهي تصيح من الفرحة:
    - أهلا، أهلا حبيبي.. وجهك منير.. مشرق كأيام ارتباطنا الأولى..
    قبّلها طويلا.. ثم التفت إلى البنتين، فحملهما معًا وأخذ يقذف بهما في الهواء بالتبادل، وهما تصيحان من الفرحة والرعب..
    وهَنِئَت الأسرة بعودة كمال.. قالت له سعاد هامسة:
    - أنا سعيدة يا كمال.. سعيدة جدًا بعودتك لنا بشحمك ولحمك.. وسعيدة أكثر بعودة روحك إليك.. وأستطيع من الآن أن أضمن لك بطولة رائعة متألقة إن شاء الله..
    ولم يعقِّب كمال وإنما أخذ يمطرها بقبلات الشوق والحب واللهفة.. وقضى طيلة النهار في كنف أسرته الصغيرة يحتفلون بعودته المشرقة المتحفِّزة.. ثم ذهب إلى النادي عصرًا لينتظم مع زملائه في التدريبات استعدادًا لدخول المعسكر المغلق بعد أيام.. ولاحظ الجميع نشاطه وهمّته وارتفاع لياقته البدنية والفنية والذهنية، فانهالت عليه التهاني والأمنيات من الجميع.. فما زال زملاؤه يحبونه ويقدِّرون عطاءه، وشهامته.. فخصلة الشهامة فيه أصيلة.. وهو صبور لا يواجه الإساءة بسرعة وحمق، وإنما بتمهل وتدبير.. كانت توجَّه له إساءات في الفترة الماضية.. كان البعض في محيط الفريق يحاول دفعه للاعتزال دفعًا.. احترامًا لتاريخه نفسه وحرصًا عليه، أو غيرةً وحسدًا على ما وصل إليه، أو بحثًا عن فرصة للقفز على مكانه أو مكانته في قيادة الفريق.. ولم يكن يردُّ على مثل هذه الإساءات.. بل يصبر عليها حتى يظن الجميع أنَّه تناساها أو تجاهلها أو لم يلتفت لها من الأساس، فيزدادون احترامًا لنبل وكرم أخلاقه.. ولكنه رغم شهامته وصبره.. ينتهز الفرصة السانحة لينتقم أو ليردّ الإساءة بعد حين.. يردّها مضاعفة على مهل وفي غير تهوُّر أو حمق.. يؤمن تمامًا أنَّ الردّ إن لم يكن موجعًا وقاسيًا، فهو سيفيد المسيء أكثر مما يضره، لكن العقاب عنده وإن أتى متأخرًا، فإنما يأتي عنيفًا جدًا، وموجعًا جدًا، وقاسيًا جدًا، وعلى غير توقع.. وما أحلاه، لو ظل الفاعل أو المحرِّك الأساسي له مجهول.. وهو دائمًا يظل مجهولا لأنه يخطط له بصبر وثبات وتمهُّل!!

    ذات مرة تآمر عليه زميل في الفريق ربما طمعًا في شارة القيادة (كابتن الفريق)، وأخذ يكيل له الاتهامات لدى المدير الفني ومدير الكرة، وبعض الزملاء.. وأراد أن يظهره في الملعب بمظهر العاجز، فيوصي بعض الأصدقاء من زملاء الملعب، بإحراجه في المباريات وعدم التمرير الصحيح له، إما بتمرير الكُرات المشتركة القصيرة مع المنافس ليصعب عليه استخلاصها، أو تؤدِّي في حال إصراره على الحصول عليها إلى إصابته، فتصبح التمريرات التي تصل إليه مقطوعة، فتزوم عليه الجماهير، أو يرسلونها له طويلة بعيدة عن متناوله ليبذل جهدًا إضافيا للحاق بها، وفي الغالب تخرج الكرة خارج خط التماس قبل أن يسيطر عليها، وتزوم الجماهير أيضًا، ولم يكتفِ الزميل بهذا التدبير، فاتفق مع بعض المشجعين ودفع لهم أموالا بسخاء، ليزوموا على كل كرة تصل لكمال عبده، وليهتفوا ضدَّه مطالبين باعتزاله..
    علم كمال بكل ذلك.. ولم يحرِّك ساكنا، ولم يبدُ عليه أنَّه علم بخيوط المؤامرة.. ومرَّت فترة واستعاد كمال مستواه، وسكتت الآهات المكتومة ضدّه في المدرجات، وعاد اقتناع زملائه بموهبته وقدرته على إفادة الفريق في الملعب، فأتقنوا التمرير إليه، وأخذوا يدلِّلونه ويغدقون عليه بالكرات السهلة تنفيسًا عن أخطائهم في حقه في الفترة الماضية، فزاد كمال في الملعب بريقًا ولمعانًا.. وظنَّ الجميع أنَّه إمَّا نسيَ الإساءة أو لم يلتفت إليها أساسًا ولم يلقِ لها بالا..
    وجاءت مباراة مع أحد أندية الأقاليم، وكان دفاع ذلك الفريق مشهورًا بالعنف والاحتكاك مع مهاجمي الخصم.. واعتذر كمال عن لعب المباراة، وهو المشهور بالتحدي والإصرار على أداء كل المباريات، تعلَّل بإصابة بسيطة يخشى من تفاقهما واستأذن من الجهاز الفني بعدم لعب المباراة، ورشح بصفته كابتن الفريق زميله هذا الذي كان يتآمر عليه ليحمل شارة القيادة في هذه المباراة.. وهتف المدرب في ذهول:
    - أنتَ الذي تطلب إعطاء شارة القيادة لفلان؟!
    رد كمال في براءة:
    - طبعًا يا كابتن، أليس هو رقم اثنين بعدي في الترتيب؟ لا بد أن يأخذ كل لاعب حقه..
    وهتف الكابتن:
    - صحيح الفرق بينكما مثل الفرق بين السماء والأرض..
    وأمسك، وقد أدرك أنَّه تورَّط، فما كان عليه أن يفشي سر هذا الزميل.. لكنَّ أخلاق كمال العالية أجبرته على التصريح بما صرَّح به.. ونظر كمال إلى الأرض في خجل وتواضع كأنّه هو المذنب!!
    وجلس كمال مع الاحتياطيين يتابع مجريات المباراة.. ووضح منذ بداية المباراة أنَ التنافس والخصومة بين قلب دفاع الفريق المنافس وبين المهاجم الذي حلَّ محلّ كمال في هذه المباراة ليس تنافسًا شريفًا ولا عاديًا ولا مسألة كرة قدم.. كان مصرًّا على إصابته بعنف.. وفعلا ضربه بشكل مباشر في لعبة مشتركة أدَّت إلى إصابة ذاك الزميل الحقود بإصابة لعينة.. قطع مضاعف في الرباط الصليبي أدت تداعياتها إلى اعتزال هذا اللاعب مبكرًا لكرة القدم.. وخرج المدافع مطرودًا من المباراة.. وحصل على عقوبة الإيقاف لعدد من المباريات, وحصل مع هذا الطرد والإيقاف على ظرف به مبلغ مُرضٍ له تمامًا.. ومن الطبيعي أنَّ الموضوع مرّ على ذلك.. ولم يكتشف أحد أنَّ كمال عبده وراء هذه الحادثة، وأنه اشترى المدافع ليصيب زميله المحرِّض ضدّه إصابة تمنعه من لعب الكُرة بعد ذلك مدى الحياة!!
    كان كمال أوّل الزائرين لزميله المصاب في المستشفى، وربت على كتفه وهو يقول:
    - قدَّر الله وما شاء فعل يا كابتن.. الإصابات قدرٌ من الله، ولا بد من الصبر والاحتساب.. وأنا بصفتي كابتن الفريق سأطالب النادي بعمل مباراة اعتزال كبيرة تليق باسمك وخدماتك، وأن تكون مكافأتك مضاعفة لأنك أُصبت وأنت تلعب بقميص النادي الأهلي.. وواجب على الجميع الوقوف معك وتكريمك..

    الأكثر من ذلك أنَّ كمال قام بتأسيس جمعية بينه وبين لاعبي الفريق لاقتطاع جزء من مكافآتهم السنوية هذا العام، للتبرع بها لزميلهم المصاب!!
    كل هذا جعل زملاءه المتآمرين أو المستجيبين لزميلهم المصاب يكادون ينهارون أمام دماثة خُلق زميلهم كمال عبده الذي يتغافل عن الإساءة ويقابلها بالإحسان!!
    أما في المرَّة التي سخر منه فيها لاعب صاعد في نادي الزمالك المنافس التقليدي للأهلي، وكان هذا اللاعب الصاعد يلقب في ناديه بالنجم الصاعد المتألِّق، وظنَّ هذا النجم أنَّه سيأخذ مكان كمال في قيادة المنتخب القومي في أقرب وقت ممكن.. كما ظنَّ أنَّه سيقود فريقه إلى انتصارات مُذهلة على غريمه التقليدي في مباريات الديربي القادمة.. وتهوَّر هذا اللاعب الصاعد بحُكم صِغر السن، وشهوة النجومية المفاجئة، واحتشاد الجماهير خلفه باعتباره أمل ناديهم البازغ، فتطاول في سخريته على كمال عبده مرَّة في الصحف، والأخرى في أحد البرامج الرياضية.. وتحفَّظ مقدَّم البرنامج الرياضي على سخرية النجم الشاب، وقال له:
    - طبعًا هذا هو رأيك ورؤيتك الشخصية.. مع كامل الاحترام والتقدير لنجم مصر الكبير ونجم النادي الأهلي كمال عبده.. وله حقّ الردّ في حلقة البرنامج في الأسبوع القادم..
    وظهر كمال عبده في حلقة البرنامج في الأسبوع التالي متواضعًا شهمًا.. نجمًا في أخلاقه كما هو نجم في موهبته.. وأجاب على سؤال مقدِّم البرنامج عندما سأله عن إساءة نجم الزمالك الصاعد:
    - هذا الكابتن حبيبي وأخي الصغير، وبالتأكيد لم يقصد الإساءة أو السخرية، والحقيقة أن ما بيني وبين زميلي وأخي الصغير فلان يسمح لنا بشيء من الخصوصية، أظنَّ أنَّ جمهور البرنامج فسّرها في غير موضعها، ولكن أنا متأكد من أنه لا يريد أي إساءة، وهو أخي وأنا سأظلّ أدعمه حتّى يأخذ مكانه اللائق في منتخب مصر، فهو يستحق أن يكون لاعبًا مميّزًا في المنتخب.. وكلّه من أجل رفعة منتخبنا ومصرنا الحبيبية الغالية علينا كلنا..

    وانهالت الاتصالات على البرنامج تثني على أخلاق النجم الكبير الخلوق المتواضع كمال عبده.. وعلى صبره وتحمّله ورعايته للمواهب الناشئة والنجوم الصاعدة، مما اضطر هذا اللاعب نفسه للاتصال بالبرنامج والاعتذار على الهواء عن أي إساءة خرجت منه دون قصد لكابتنه وأستاذه وأخيه الأكبر كابتن مصر كمال عبده.. وانتهت القضية.. انتهت في الإعلام وانتهت عند الجماهير.. وأظهر اللاعب الصغير الصاعد أدبًا واحترامًا كبيريْن كلّما جمعه لقاء مع كمال.. ومرّ عام كامل قبل أن يترصّد عدد من البلطجية هذا اللاعب وهو في سيارته في طريق شبه مهجور يؤدِّي إلى أحد ضواحي القاهرة، وينزلونه من سيارته ويعتدون عليه اعتداءً عنيفًا بالعصي والآلات الحادة ويسرقون موبايله وبعض الأموال كانت معه ثم يلقونه في الطريق بين الحياة والموت، ويلوذون بالفرار.. ولم يتم القبض على هؤلاء البلطجية، ولم يعرف أحد أبدًا علاقتهم بكمال عبده.. في الوقت الذي أقام الكابتن كمال نفسه الدنيا ولم يقعدها في الصحافة وفي البرامج الرياضية عبر التلفزيون والفضائيات، وتبنّى قضية اللاعب الصاعد بصفته كابتن منتخب مصر المسؤول عمّا يحدث لكلّ لاعبي الكرة فيها، وأخذ يطالب وزارة الداخلية بالتدخّل الحاسم لمنع تكرار مثل هذه الاعتداءات التي تنذر بكارثة.. ويهدِّد بالاعتصام ومعه اللاعبون والامتناع عن اللعب، إن لم تسارع الجهات المسؤولة كلها لتأتي بحق هذا الشاب المسكين الذي اضطر بسبب انتشار حوادث العنف والبلطجة لترك ممارسة كرة القدم وهي أكل عيشه ومصدر دخله.. وأصبحت قضية رأي عام أثارها وأشرف عليها ونفخ فيها باقتدار الكابتن كمال عبده.. ليهتف الجميع باسم الكابتن كمال نصير من لا صوت له ولو كان قد أساء له في يوم من اﻷيام!!

    أمَّا الكثير من اللاعبين الذين كانوا يظهرون فجأة ويلمعون، ثم يختفون في أحداث ومواقف غامضة، فلم يكن يعرف أحدٌ أبدًا أسباب اختفائهم.. لم يكن معلوم من الحكاية إلا الجزء الأخير.. هذا الناشئ الذي تنبّأ له الجميع بمستقبل باهر.. مشى في طريق المخدرات.. فانتهى كإنسان قبل أن ينتهي كرياضي ولاعب كرة قدم.. وهذا الموهوب الآخر الذي وصفوه بخليفة كمال عبده، فانتهى به الحال في أحضان الساقطات، حتى اعتزل الكرة قبل أن يبدأ!!
    فلكلّ شاب مفتاح، ولكل واحد ثمن..
    ولم يسأل أحدٌ أبدًا نفسَه من أين أتت الأموال التي أُغدِقت على هؤلاء الناشئين والتي أُنفقت عليهم ببزخ لا يتناسب بالطبع مع طبيعة دخولهم وهم في بداية حياتهم، والتي أدارت رؤوسهم وانحرفت بهم عن طريق الصواب.. ولا كيف ومتى ومن دبَّر لهم أول دعوة لتلك الأماكن المشبوهة التي ستودي بهم حتمًا إلى المصير المشؤوم؟ كان طبيعيًا أن يقف الكابتن كمال عبده بعيدًا تمامًا عن كلّ هذه الأحداث، بل ويتصدّى لمثل هذه السلوكيات الخطيرة الناشئة في مجتمعنا المصري العربي المحافظ، والتي تختطف لاعبين وشباب في عمر الزهور.. ما كان لأحد أن يتصوَّر أنَّ أموال الفساد والإفساد هذه لها علاقة بكمال عبده من قريب أو بعيد.. ولا مافيا الفساد التي تنخر في جسد كرة القدم كالسوس، لها أدنى صلة به يحرِّكها ويوجهها متى وأين وكيف شاء!!
    هكذا كانت شهرة شهامة و(جدعنة) كمال عبده تسبقه أينما ذهب أو حلَّ..
    وهي بالطبع أعلى شعبية في ناديه الذي ينتمي إليه.. ولذا كان احتفال اللاعبين بعودته إلى التدريبات بعد أجازته التي قضاها في الساحل الشمالي احتفالات بهيجة حقًّا.. متفائلة حقًّا!!
    &&&&&&&&

    عاد كمال إلى منزله عقب التمرين واحتفاء زملائه به في النادي وكله شوق للاتصال بمصطفى والاطمئنان على أحواله في عمله الجديد.. واتصل:
    - مرحبًا مصطفى السلام عليكم..
    - أهلا كيمو.. أين أنت يا رجل؟ أقلقتنا عليك.. أين ذهبت هذه المدة كلها؟
    - أنا بخير الحمد لله يا درش.. المهم أنت واحشني طمئني عنك.. وعن أخبارك وأحوالك؟
    - وأنت كذلك واحشني يا كيمو والله.. أنا سألت عنك كثيرًا، وسعاد أخبرتني أنَّك في عزلة اختيارية.. عدت للتدريب أم لا؟
    - عدت اليوم يا درش.. لكني ألاحظ شيئًا ما في لهجتك..
    - ماذا لاحظت؟ خير!
    - روحك عالية.. يبدو أنّ أحوال الجريدة على ما يرام..
    - الجريدة تمام، وفي طريقها إلى أن تصبح أهم الصحف الأسبوعية في مصر، وأرقام التوزيع تشرح القلب..
    - هذا هو النجاح الحقيقي الذي يليق بك يا درش.. أنتَ صحفي محترم وتستحق كل خير..
    - المهم يا أبا الكباتن متى نتقابل لنحتفل برجوعك من أجازتك الانفرادية؟
    - دعنا لبعد الكأس يا درش.. ونحتفل بالكأس إن شاء الله.. وستكون هناك مفاجأة ستعرفها في وقتها..
    - طيب قل لي أول حرف من المفاجأة يا كيمو.. أم أقول لك.. أنت لن تقول لي شيئًا أنا أعرفك جيدًا.. دعها مفاجأة كما تريد.. أراك في الملعب متألقًا إذن، وتحرز لنا الكأس يا أبا الكباتن..
    - إن شاء الله يا مصطفى.. وأنا أراك في افتتاحية الجريدة العدد الجديد إن شاء الله، صورتك تنير الصفحة.. مع السلامة يا درش..

    كانت الصحيفة المستقلّة التي يدير تحريرها مصطفى حنفي تتقدَّم بسرعة مذهلة في عالم الصحافة.. وتتّجه نحو قمة التوزيع بين الصحف الأسبوعية بمصر..
    ونجاح مصطفى المفاجئ، يُسعد كمال وينفخ في روحه روحًا جديدة نحو التألق من جديد.. فهما فرسي رهان.. وتذكَّر رهانه القديم مع مصطفى.. وعاود الاتصال به مرة أخرى..
    - مرحبًا مصطفى.. معذرة.. نسيت أذكِّرك بشيء..
    - قل يا أبا الكباتن.. خير إن شاء الله..
    - تذكر الرهان يا درش؟
    يتذكَّر مصطفى الرهان جيدًا، بل هو يعيش معه ويحاسب نفسه عليه دائمًا.. لقد استطاع كمال عبده أن يكسب الرهان ويصبح مهاجم النادي الأهلي ومنتخب مصر، أما أنا فلم أُحقِّق ما راهنت عليه ولم أُصبح قطبًا أعظم من أقطاب الصوفية.. حاول التنصل من هذه الذكرى وردّ بتغابٍ:
    - أية رهان يا أبا الكباتن.. لم يكن بيننا رهان ولا ما يحزنون..
    - ركِّز قليلا يا درش وتذكَّر أيام مدرسة الشهيد أنور الصيحي في دسوق..
    - آه! تذكَّرت.. أنا راهنتك على أنّك ستحصد الكأس للأهلي هذا الموسم..
    - شكلك تتذكَّر وتتهرَّب يا درش.. الرهان كان أنّني..
    - متذكِّر.. متذكِّر جيدًا يا كيمو.. أن تصبح الكابتن الكبير كمال عبده.. وأنت ربحت الرهان يا سيدي..
    سكت مصطفى كأنَّه عزَّ عليه أن يعترف بخسارته شخصيًا للنصف الباقي من الرهان.. النصف الذي يخصُّه.. جاءه صوت كمال قويًا مشرقًا متفائلا:
    - أنت كذلك ربحت الرهان يا مصطفى.. أنت أيضًا كسبت الرهان.. صحيح لن تصبح قطبًا من أقطاب الصوفية.. لكنَّك الآن فعلا قطب من أقطاب الصحافة في مصر.. وعمَّا قريب ستصبح واحدًا من أهم صحفييها على الإطلاق.. ثق بنفسك يا درش أنت تستحق كل خير.. مع السلامة وخذ بالك من نفسك.. وخفِّف حدَّتك قليلا عن الرجل الكبير.. تفهمني طبعًا يا درش.. هيا مع السلامة..

    أغلق كمال خط الهاتف وهو يعلم أنَّ رسالته وصلت، وأنَّ وجود فرسي رهان في السباق أفضل له من وجود فرس واحد.. نجاح مصطفى يحفّزه شخصيًّا لتحقيق نجاحات أكبر وأقوى.. ويستمر السباق ويتجدَّد الرهان.. ما استمرّت حياة كمال عبده..

صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. أسدٌ ولكن كله أنيابُ
    بواسطة عبد الله الزعبي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 21-04-2010, 03:18 PM
  2. إيه رأيكو يا جماعة الشعبي لما نساجل زي بتوع الفصحى تمام
    بواسطة أحمد حسن محمد في المنتدى أَدَبُ العَامِيَّة العَرَبِيَّةِ
    مشاركات: 36
    آخر مشاركة: 22-06-2009, 07:08 AM
  3. سلامٌ كله عطر
    بواسطة معاذ الديري في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 25
    آخر مشاركة: 12-03-2006, 01:32 AM
  4. مضى رمضان.. فاجعل عامك كله رمضان ....!!!
    بواسطة ابو دعاء في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 08-11-2005, 12:54 AM