_ المَرأَةُ تَحْتَاجُ رَجُلا وَاحِدًا لِيُلَبِيَ لَهَا كُلَّ احْتِيَاجٍ ، وَالرَّجُلُ يَحْتَاجُ كُلَّ النِّسَاءِ لِتُلَبِيَ لَهُ احْتِيَاجًا وَاحِدًا.
ضَحِكَتْ بِهُدُوءٍ ثُمَّ أَرْدَفَتْ:
_ أَعْلَمُ حَبِيبِي هَذِهِ الحَقِيقَةَ التِي رُبَمَا كَانَ يَفْرِضُهَا اخْتِلافُ طَبِيعَةَ الجِنْسَينِ ، وَأَعْلَمُ كَذَلِكَ أَثَرَ جَاذِبِيَّتِكَ الكَبِيرَ وَحُضُورِكَ الذِي يُلْفِتُ إِلَيهِ الأَنْظَارَ. لا أُنْكِرُ بِالطَّبْعِ غَيْرَتِي حِينَ تَرُدُّ الابْتِسَامَةَ لإِحْدَاهُنَّ وَلَكِنَّ ثِقَتِي بِكَ وَبِحُبِّنَا يُعِينُنِي عَلَى التَّعَامُلِ مَعَ الأَمْرِ بِهُدُوءٍ. يَكْفِينِي أَنَّكَ لِي وَحْدِي مِنْ بَيْنِهِنَّ لأَشْعُرَ مَعَكَ بِالسَّعَادَةِ.

تَلَعْثَمَ قَلِيلا وَهُوَ يَبْتَلِعُ مَا اسْطَاعَ مِنْ كَلِمَاتِهِ لِتَسِيلَ بَقِيَّتُهَا سَامِجَةَ:
_ أَنَا أُحِبُّكِ كَثِيرًا ... أَنَا لا أَقْصدُ إِلا مُجَا ...
_ أَعْلَمُ حَبِيبِي .. أَعْلَمُ ، وَأَنَا أُحِبُّكَ جِدًا. انْتَبِهِ الآنَ لِلطَّرِيقِ وَأَسْرِعْ قَلِيلا كَي لا أَتَأَخَّرَ عَنِ العَمَلِ.

بْخُطُوَاتٍ رَشِيقَةٍ وَاثِقَةٍ دَخَلَتْ سَنَاءُ مَكْتَبَهَا فِي صَبَاحِ يَوْمِ عَمَلٍ جَدِيدٍ. كَانَتْ مُدِيرَةً نَاجِحَةً لِقِسْمِ التَّخْطِيطِ فِي شَرِكَةٍ مَحَلِّيَّةٍ اسْتَلَمَتْ العَمَلَ فِيهَا بَعْدَ تَخَرُّجِهَا بِتَفَوُّقٍ مِنَ الجَامِعَةِ. بَعْدَهَا بِعَامٍ الْتَقَتْ عِصَامًا فِي إِحْدَى الحَفَلاتِ وَقَدْ جَذَبَهَا بِابْتِسَامَتِهِ الوَاثِقَةِ وَوَسَامَتِهِ المُتَأَنِّقَةِ وَنَظَرَاتِهِ الآسِرَةِ التِي تَشِي بِذَكَاءٍ فِطْرِيٍّ كَبِيرٍ. كَانَ عِصَامٌ يَزْدَادُ جَاذِبِيَّةً حِينَ يَرْتَدِي حُلَّتَهُ الرَّسْمِيَّةَ مُتَّجِهًا إِلَى مَقَرِّ عَمَلِهِ فِي مَرْكَزِ شرطَةِ البَلْدَةِ. وَسَرْعَانَ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْهُ وَقدْ رَأَتْ فِيهِ مَا تَرْجُو مِنْ شَرِيكِ حَيَاةٍ وَوَجَدَتْ لَهُ فِي قَلْبِهَا حُبًّا جَمًّا وَإِعْجَابًا يَتَجَدَّدُ كُلَّ يَومٍ.

طُرِقَ البَابُ بِلُطفٍ ثُمَّ دَخَلَتْ انْتِصَارُ تَسْبقُهَا ابْتِسَامَتُهَا الصَافِيَةُ لِتَهْتفَ بِبَعضِ قَلَقٍ يُزَيِّنُ مُحَيَّاهَا:
_ أَمَا زِلْتِ هُنَا يَا سَنَاءُ؟؟ لَقَدِ أوشَكَ الدَّوَامُ عَلَى الانْتِهَاءِ. أَعْلَمُ أَنَّكَ تَغْرَقِينَ فِي العَمَلِ عَادَةً وَتَتَأَخَّرينَ فِي الانْصِرَافِ ، وَلَكِنْ إِلا اليَوْم!
ابْتَسَمَتْ بِوُدٍّ ظَاهِرٍ وَأَرْدَفَتْ:
_ كُلُّ عَامٍ وَذِكَرَى زَوَاجٍ سَعِيدَةٌ! مَاذَا أَعْدَدْتِ لِهَذِهِ المُنَاسَبَةِ؟
لَوَّحَتْ سَنَاءُ بِمَا فِي يَدِهَا وَهِيَ تَمِيلُ بِابْتِسَامَةٍ دَافِئَةٍ.
_ يا إِلَهِي! تَذْكَرَتَا طَائِرَة؟؟ إِلَى أَيْنَ؟؟
_ إِلَى بَارِيسَ ، لِأُعَوِّضَ بِهِ عِصَامًا عَمَّا حَرَمَتْنَا مِنْهُ ظُرُوفُ العَمَلِ حِينَ زَوَاجِنَا. أُسْبُوعَ عَسَلٍ فَحَسبْ ؛ لِذَا تَأَخَّرْتُ اليَومَ كَي أُنْهِيَ الأُمُورَ الإِدَارِيَّةَ العَالِقَةَ قَبْلَ الإِجَازَةِ.

قَامَتْ تُعَانِقُ زَمِيلَتَهَا التِي تَعْمَلُ مُوَظَّفَةً فِي مَكْتَبِهَا مُنْذُ ثَلاثِ سَنَوَاتٍ وَالتِي رَبَطَتْهَا بِهَا صَدَاقَةٌ مَتِينَةٌ صَافِيَةٌ تَرَسَّخَتْ مَعَ الأَيَّامِ. أَوْصَتْهَا بِإِكْمَالِ بَعْضِ الأوْرَاقِ الإِدَاريَّةِ قَبْلَ أَنْ تَمْتَطِي بِسَاطَ الرِّيحِ وصهْوَةَ الأَحْلامِ تَحْمِلُ المُفَاجَأَةَ السَّعِيدَةَ لِزَوْجِهَا الحَبِيبِ.

لا تَدْرِي لِمَ شَعَرَتْ بِخَفْقٍ عَنِيفٍ فِي صَدْرِهَا حِينَ رَأَتْ سَيَّارَةَ الشرطَةِ أَمَامَ مَنزِلِهَا وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّ زَوْجَهَا لا يَعُودُ لِلبَيتِ قَبْلَ السَّابِعَة. ابْتَلَعَتْ مَخَاوِفَهَا وَكَسَّرَتْ قُيُودَ تَوَجُّسِهَا تَدْفَعُ نَفْسَهَا دَفْعَا نَحْوَ بَابِ البَيتِ لِتَرَى عَلَى دَرَجَاتِ السُّلَّمِ الدَّاخِلِيِّ مَا أَطْلَقَ شَهْقَةً مَكْتُومَةً وَدُمُوعًا غَزِيرَةً.

_ مَا بِكَ؟؟
_ لا شَيءَ. إِنَّمَا كَأَنِّي سَمِعْتُ صَوتًا مَا.
_ أَتَكُونُ زَوْجُكَ قَدْ عَادَتْ؟
_ كَلا ، لا أَعْتَقِدُ هَذَا؛ فَهِيَ لا تَعُودُ عَادَةً قَبْلَ السَّادِسَةِ مَسَاءً.
تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ تَشُدُّهُ إِلَيهَا وَهَمَسَتْ بِدَلالٍ:
_ دَعْنَا إِذًا نَسْتَغِلُّ الوَقْتَ.

لَمْ تَعْلَمْ سَنَاءُ كَيفَ صَعَدَتْ دَرَجَاتَ السُّلَّمِ فَوقَ كُلِّ تِلكَ الثِّيَابِ وَهِيَ تُدَافِعُ نَفْسَهَا لِتَدْفَعِ البَابَ وَتَرَى مَا كَادَتْ بِهِ تَنْهَارُ. عَلا نَشِيجُهَا وَأَغْلَقَت عَيْنَيهَا تَصْرخُ بِكُلِّ أَلَمِ الفَجِيعَةِ:
_ اُخْرُجِي حَالا ... بَلِ اخْرُجَا أَنْتُمَا كِلَيكُمَا مِنْ هُنَا بِسُرْعَةٍ .. بِسُرْعَةٍ .. بِسُ...!

انْتَفَضَ عِصَامٌ يُحَاوِلُ مَتَلَعْثِمًا أَنْ يَقُولَ شَيئًا لَكِنَّهَا كَانَتْ قَدْ لَمَحَتْ مُسَدَّسَهُ المُلْقَى فَوقَ ثِيَابِهِ فَأَمْسَكَتْ بِهِ وَصَوَّبَتْهُ عَلَيهِمَا وَهِيَ تَصْرخُ مِنْ بِينِ دِمُوعِهَا أَنِ اخْرُجَا مِنْ فَوْرِكُمَا. حَاوَلَ أَنْ يُحَدِثَهَا وَأَنْ يُهَدِّئَ مِنْ رَوْعِهَا فَالْتَفَتَتْ إِلَيهِ بِكُلِّ أَلَمِ الكَوْنِ رَافِضَةَ ، وَقَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيهَا طَرْفُهَا كَانَتْ تِلكَ التِي فِي السَّرِيرِ قَدْ أَمْسَكَتْ بِمُسَدَّسِهَا وَصَوَّبَتْهُ عَلَيهَا مُهَدِّدَةَ بِإطْلاقِ النَّارِ إِنْ لَمْ تُلْقِ سَنَاءُ السِّلاحَ ، وَفِي ذّاتِ اللَحْظَةِ وَثَبَ عِصَامُ عَلَى زَوْجِهِ يُحَاوِلُ أَنْ يُخَلِصَ المُسَدَّسَ مِنْ قَبْضَتِهَا فَقَاوَمَتهُ تُلاوِحُهُ بِشِدَّة فَانْطَلَقَتْ فَجْأَةً رَصَاصَةٌ مُدَوِّيَةٌ.

حَكَمَ القَاضِي بِبَرَاءَةِ عِصَام مِنْ تُهْمَةِ القَتْلِ بِاعَتِبَارِهِ قَتْلا بِالخَطَأِ وَدِفَاعًا عَنِ النَّفْسِ ، وَقَرَّرَ أَنْ يُطْلِقَ سَرَاحَهُ بَعْدَ أنْ قَضَى أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ فِي الحَبْسِ. هُوَ حُكْمٌ أَسَالَ دَمْعًا حَرِيرًا عَلَى وَجْنَتَيِّ انْتِصَارَ التِي لَمْ تَقْبْلَ أَنْ تُزْهَقَ رُوحُ صَدِيقَتِهَا غَدْرًا وَخِياَنَةً. كَانَتْ تَعْلَمُ يَقينًا أَنَّ القَتْلَ لا يُشْفِي أَلَمَ الفَقدِ ، وَلا يُعِيدُ القَتِيلَ ، وَأَنَّ القِصَاصَ بِيَدِ الدَّوْلَةِ لا بِيَدِ الأَشْخَاصِ ، وَأَنَّ القَاتِلَ يُقْتَلَ ؛ وَلَكِنَّهَا قَرَّرَتْ أَنْ تَنْتَقِمَ لِمَوتِ صَدِيقَتِهَا مَهْمَا كَلَّفَهَا هَذَا مِنْ ثَمَنٍ.

وَفِي سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ عَصْرِ يَومٍ رَبِيعِيٍّ كَانَ عِصَامُ مُنْشَغِلا فِي قَصِّ حَشَائِشِ حَدِيقَتِهِ، وَتِلكَ التِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ كُلِّ مَا كَانَ مُنْشَغِلَةٌ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى مِنَ الحَدِيقَةِ تُرَتِّبُ بَعْضَ الزُّهُورِ ، فَلَمْ يَنْتَبِهْ كِلاهُمَا لِرَصَاصَةٍ انْطَلَقَتْ مِنْ مُسَدَّسٍ أَخْرَسَ وَكَفٍّ تَرْتَجِفُ غَيظًا وَهِيَ تَضْغَطُ عَلَى الزِّنَادِ تُرِيدُ بِهَا قَلْبَهُ لَكِنَّها أَخْطَأتْ طَرِيقَهَا لِتَستَقِرَّ فِي جِذْعِ شَجَرَةٍ كَانَ عِصَامُ قَدْ تحَرَّكَ خَلْفَهَا فِي تِلكَ اللَحْظَةِ مُصَادَفَةً. ارْتَبَكَتْ انْتِصَارُ حِينَهَا وَأَسْرَعَتْ تُخْفِي المُسَدَّسَ فِي حَقِيبَةِ يَدِهَا وَتَنْطَلِقُ مُبْتَعِدَةً.

وَفِي عَصْرِ اليَومِ التَّالِي وَبَيْنَا كَانَ عِصَامُ يُكْمِلُ عَمَلَهُ فِي الحَدِيقَةِ هَمَسَتْ لَهُ تِلْكَ بِأَنَّهَا لَمْ تَعُدْ تُطِيقُ رُؤْيَةَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ التِي كَانَ وَسَناءُ قَدْ حَفَرَا عَلَيهَا رَسْمَ قَلْبٍ يَضُمُّ اسْمَيهِمَا يَومَ اشْتَرَكَا فِي شِرَاءِ بَيتِ الحَيَاةِ السَّعِيدَةِ. وَعَلَى مِقْعَدٍ خَشَبِيٍّ فِي صَحْنِ الحَدِيقَةِ جَلَسَتْ تَسَتَمْتِعُ بِصَوتِ المِنْشَارِ المِيكَانِيكِي يَجْأَرُ بِصَخَبٍ وَهُوَ يِحزُّ عُنُقَ تِلكَ الذِّكْرَى السَّعِيدَةِ الأَلِيمَةِ قَبْلَ أَنْ يَصْمتَ الصَّوتُ فجْأَةً وَيَعْلُو مَكَانَهُ صَوتُ صَيحَةِ أَلَمٍ فَظِيعَةٍ، تَهَاوَى عِصَامُ عَلَى إِثْرِهَا إِلَى الأَرْضِ مَغْشِيًّا عَلَيهِ.

بِلَهْفَةٍ وَجَزَعٍ طَلَبْتَ خِدْمَةَ الإِسْعَافِ تَحْسَبُ أَنَّهُ تَعَرَّضَ لِهُبُوطٍ حَادٍّ فِي القَلْبِ تَأَثُّرًا بِالقَطْعِ قَبْلَ أَنْ تَعُودَ وَالمُسْعِفِينَ لِتَرَاهُ جُثَّةً هَامِدَةً وَيَرَوا دَمًا يِسِيلُ مِنْ ثقْبٍ فِي الجِهَةِ اليُسْرَى مِنْ صَدْرِهِ تَسَبَّبَتْ بِهِ تِلكَ الرَّصَاصَةُ التِي كَانَتْ قَدْ أَخْطَأَتْ قَلْبَهُ فِي المَرَّةِ الأُولَى.