سباق التسلح وسباق التشلح


شهدت العقود الماضية ما أطلق عليه اسم الحرب الباردة التي قامت بين حلفين من اضخم الأحلاف الدولية منذ الحرب العالمية الثانية , حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفيتي والأخر حلف شمال الأطلسي بقيادة راس الشر في العالم الولايات المتحدة الأمريكية .

سميت بالحرب الباردة لعدم حدوث صدام مسلح حقيقي بين الطرفين وإنما بقيت ضمن إطار سباق التسلح, حيث وجد السوفييت أنفسهم قد تورطوا في سباق التسلح هذا أدى فيما بعد الى إنهيار المنظومة السوفيتية التي شكلت كبرى الدول الاشتراكية في العالم والضابط الأكبر لتسلط الدولة الإمبريالية الكبرى في العالم أمريكا بسبب ضخامة الإنتاج في السلاح بكافة أشكاله التقليدية والنووية, وكذلك إسراف السوفييت في هذا السباق المجنون في التسلح واستهلك هذا السباق اكثر من 40% من الناتج القومي للاتحاد السوفيتي فكان هذا على حساب البنية التحتية التي تدعم بنيان الاتحاد فانهار بينما كانت الولايات المتحدة في ذات الوقت تخصص اقل من واحد بالعشرة من هذا النسبة في التسلح ومثله في مجال الأبحاث العلمية والاستراتيجية والدراسات.

كذلك هناك سبب أخر استغلته الولايات المتحدة التي أتبعت سياسة إغراء العدو لإغراقه في التسلح هي سياسة السوق السلاحية التي فشل الاتحاد السوفيتي بإيجادها لتصريف أسلحته الثقيلة نظرا لبنيته الفكرية التي تحتم عليه كمنظومة اشتراكية السعي لسعادة الإنسان وليس نشر السلاح لتدميره فاكتفى الاتحاد السوفيتي بتصديره كما من الأسلحة الخفيفة التي دعم بها الثوار والثورات الإنسانية حول العالم, بينما أمريكا وجدت لنفسها أسواقا هائلة لتصدير الأسلحة الفاسدة والتي انتهى مفعولها, فصدرتها لأسواق ترحب بمثل هذه السلع مقابل نفطها ومقابل فتح أراضيها لقواعد عسكرية مثل الوطن العربي, وكذلك دولا متناحرة غارقة حتى عروشها بدم شعوبها وشعوب غيرها, فوجدت الدولة الانتهازية (أمريكا ) سوقا رائجة لدعم الحروب الكبرى كالحرب العراقية الإيرانية فكانت سوقا رائجة لبضائعها لإشعال نار السلاح بقوة أكبر في تلك الحرب المدعومة من بعض دول الخليج كالسعودية.

وفي انهيار الاتحاد السوفيتي كان من المفترض أن يتوقف سباق التسلح المجنون من قبل أمريكا وحلفائها, إلا أن هذا السباق استمر وأخذ يتطور اكثر من السابق حتى بعد دخول روسيا ضمن الأحلاف الدولية السلمية وانصراف الدول الأخرى إما للحاق في موكب أمريكا أو اللجوء لاستصدار شهادات الخلو من الإرهاب والإرهابيين كالباكستان.

مع استمرار هذا السباق وامتداده نحو دول كانت تعد من دول العالم الثالث مثل كوريا الشمالية والهند والصين وكذلك إصدار أمريكا نداءات محاربة الإرهاب لتبرير إيجادها لأسواق لسلاحها المتراكم وتسابق الدول لتطوير أسلحتها وترساناتها ضد هجمات إرهابية متوقعة بدا هناك سبقا من نوع أخر اجتاح بسرعة البرق مجتمعاتنا حتى غدى بفضل الفضائيات العربية والعالمية سباقا لما يسمى ظاهرة التشلح أو كما يسمى بظاهرة( التعري).

فما أسباب هذه الظاهرة الحديثة أو المستحدثة على مجتمعاتنا العربية ؟

وما هي الضوابط التي يمكن أن تردع الفضائيات العربية عن تشجيع واستعراض العاريات على شاشاتها التي تدخل كل بيت من بيوتنا وصارت جزءا من حياتنا اليومية ؟

كيف يمكن الوقوف أمام هذه الظاهرة اجتماعيا وفرديا؟

هل غدى التعري سمة من سمات العصر الرأسمالي, تنتهي بانهيار الرأسمالية, أم ظاهرة اجتماعية ستصبح تراث للأجيال القادمة حتى بزوال اسبابها ومسبباتها أو بعبارة أخرى ( هل يمكن أن يزول السبب بزوار المسبب أم سيتحول لظاهرة اجتماعية راسخة ؟؟؟ )

إن أسباب هذه الظاهرة والتي هي في الأصل سمة رأسمالية تتباهى بها الدول الرأسمالية التي تعتمد الأنثى كعنصر أساسي في الدعاية لشركاتها.
إن طغيان وسيطرة الرأسمالية على العالم وتصدر الولايات المتحدة دولة الشركات قيادة العالم والتي زرعت ثقافتها وفكرها الرأسمالي اللاأخلاقي في كل العالم وسيطرتها على معظم وسائل الإعلام المرئية وغير المرئية وأهم هذه الوسائل الفضائيات بسبب سيطرتها شبه الكلية على الفضاء والأقمار الصناعية فجعل منها رائدة الفضائيات التي غدت بمعظمها سواء الدينية أو فضائيات التسلية أو الأخبار أو غيرها فضائيات رأسمالية بالحقيقة أو من خلال الضوابط التي تضعها أمريكا لها بحجة التحريض على الإرهاب وغيره من مبررات (1)

كذلك تصدر هوليود الأمريكية صناعة الأفلام العالمية التي زينت ظواهر التعري واللقاءات الساخنة وروجتها في العالم والتي هي في الأصل ثقافتها الرأسمالية, فغدت عند البعض مراجع يمكن الرجوع إليها وسمة من سمات عالم السينما والتلفاز وغيرها.

عدى عن القواعد الأمريكية التي صارت في كل بلد عربي وغير عربي في الشرق إلى جانب ثقافات أمريكا التي تنشرها عبر ماكدونالز وكنتاكي ومطاعمها المنتشرة في أنحاء العالم جعلت من الثقافة الأمريكية الرأسمالية هي الأساس أو المرجع الذي يتم الرجوع إليه لقياس مدى صحة الأمور في المجتمع وبالذات بالنسبة لجيل الشباب حتى وصل الحال إلى القياس على ما هو ليس بأمريكي فهو مخالف للواقع ومخالف لنظام الموضة والاتكيت وما أوجدوا له من مسميات ضربت بعرض الحائط كل القيم الأخلاقية والعادات والتقاليد السامية.

أمريكا ومن سار بركبها من دول رأسمالية أوصلت العالم إلى مرحلة انحطاط أخلاقي وفكري وتحول الإنسان من السعي نحو الفكر إلى السعي نحو الموضة التي صنعتها عبر دور أزيائها و مطاعمها ومراكز أبحاثها ومبشريها وفضائياتها والفضائيات التي تدعمها فغدى العالم أمريكيا لا فكريا , لا أخلاقيا بالفطرة التي ينشا عليها الإنسان أمريكيا.

وان كان هنالك من يستحق أن يقدم لمحكمة الأخلاق والإنسانية فهم صناع الإعلان وصناع الأفلام في أمريكا والدول الرأسمالية والدول التابعة لها بجنون اللحاق بالتقدم التكنولوجي التي أدخلت شبابنا في سباق التشلح والتباهي في التعري ليس من الملابس فقط بل في الفكر والآداب التي تسعى لتحرير الإنسان من أوهام وخداع الشركات الراسمالية..

ما هي الضوابط التي من الممكن أن تردع فضائياتنا العربية من إنتاج وعرض مثل هذه البرامج التي لا يمكن وصفها إلا برامج سخيفة استعراضية للأجساد العارية مثل مسابقات ملكات الجمال وعروض الأزياء التي لا يظهر من المستعرض أو المستعرضة فيها سوى الملابس الداخلية هذا أن وجدت كاملة وبرامج مثل السوبر ستار الذي يعرض مدى سخافة عقول الشباب العربي ويستهين بالمشاهد العربي وفكره ومستواه الثقافي ليوصله لمرحلة يحاول مسابقة واستدراج الواقع فيصل إلى مستوى منحل فكري لم يسبق لأي مجتمع من قبل الوصول إليه حتى قبائل الزولو التي لا تزال تعيش في نمط الحياة الحجرية تبدو اكثر منطقية وتقدم من المتهافتين على الدخول في برنامج السوبر ستار أو المنتظر بالدقيقة والساعة عرض مسابقة ملكة الجمال أو عرض الأزياء فرجل الزولو القبلي الذي يراه الأخرون متخلفا عن ركب الحضارة يصنع في حياته فلسفة مستقلة بالحياة, هذه الفلسفة التي لا يملكها المشاهد لمثل هذه البرامج والتي أوصلته لأن يكون سخيفا مثل سخافة مقدم البرامج أو المتسابق أو المتسابقة المستعرضة لجسدها بكل سذاجة وغباء فوصلنا لمرحلة نتباهى فيها بسخافتنا ونسعى لتحقيقها فافقدته مقومات فهمه لفلسفة الحياة وهدف وجودها وكيفية إستمرارها.

كذلك الإعلانات التي لا يوجد لها أي رادع فكري أو أخلاقي سوى تحقيق الأرباح أو كما يقول عنها هربرت شيلر الكاتب الأمريكي في كتابه المتلاعبون في العقول حيث يقول : ولا يردع صناع الإعلان أي رادع أخلاقي أو إنساني فهم يسعوا إلى جذب الجماهير من خلال مشاهد للعنف أو باللعب على الحس الجنسي لدى العامة من الجماهير مثل أن تظهر فتاة في ما دون العشرين من العمر وهي تمسك بقلم أحمر شفاه ثم تنفرج الشفتان بإثارة مفضوحة وتغمض العينين لتفوح بعض ذلك بصوت جنسي شره، ويقول الإعلان بأن الثمن فقط عدة دولارات ولكن من أين تأتي الفتيات بالدولارات في مجتمعات نامية مرهقة؟! وهل يكفي مرتب فتاة عاملة لاقتناء أحمر الشفاه.. هذا ناهيك عن الإثارة في الملبس والمأكل والمسكن الفاخر؟!.
كل هذا يتم من خلال الإعلان التليفزيوني وهو الذي حقق الكم من الإثارة الجنسية وخلق الرغبة الشديدة في الاقتناء.. وبالتالي تمت السيطرة على أفراد الأسرة الواحدة رغم أن المقومات الأساسية للنظام التجاري الإمبريالي الذي يرى البشر مجرد مستهلكين لانتاجه بغض النظر عن نوعه هو الدافع الذاتي دون الرجوع للقيمة الحقيقية للسلعة المعروضة وما إذا كانت مطلباً أساسياً أو رفاهية فقط.

لا رادع ولا رقيب لهذه الفضائيات المجنونة التي يحكمها راس المال لصالح رجالات الدول واصحاب رؤوس الأموال في الدول.

حتى قوانين الدول ودساتيرها لم تنص في أي من نصوصها على ما يمكن أن يردع مثل هذه الظواهر التي بدأت تتفشى في مجتمعاتنا, في القانون الأردني مثلا, بحثت كثيرا وقمت باستشارة الكثير من خبراء وأساتذة القانون الكبار حول هذا الموضوع وكانت الإجابة بأنه لا يوجد هناك في القانون على ما ينص على منع مثل تلك الظاهرة ولكن ببحث معمق وجدت نصا يعاقب على ما يسمى ( خدش الحياء العام ) وعند الرجوع إلى المصادر التي تشرح القانون وهذه الفقرة من القانون تحديدا وجدت أن القانون أبقي آمر تقدير هذه المادة للقاضي ليكيفها حسب العادات الاجتماعية السائدة بحيث أنه لو أن فتاة خرجت بملابس السباحة إلى الشارع العام هل يعتبر هذا الفعل خدشا للحياء العام ( أي فعلا مجرما يعاقب عليه القانون؟)

كان الرد أن القاضي يحكم بما يراه مناسبا حسب الظروف الاجتماعية في حال لو رفعت الدعوة من قبل النيابة العامة أو من قبل شخص ما (مشتكي ) , فمثلا مثل هذا الفعل يمكن أن يكون مجرما في المناطق الريفية المحافظة على طابعها الحضاري الأخلاقي وعاداتها وتقاليدها التي ترى مثل هذا الفعل مسا في قيمها واخلاقها, بينما يراه القاضي في مجتمع المدينة الذي يسمونه متحضرا فعلا عاديا لا يمكن أن يمس مشاعر الفرد في هذا المجتمع.

لا رادع أخلاقي ولا رادع قانوني يمكن أن يمنع الفضائيات أن تتاجر في الأجساد والمضي في سباق للتعري الذي صار سمة من سمات مجتمعاتنا حولت المجتمع بأكمله إلى مجتمع مصاب بداء اشد فتكا من داء الطاعون وانتشار الدعارة التي خلفت ورائها الملايين من المصابين بنقص المناعة المكتسبة (الإيدز) وزين الفحش واللاأخلاق في أعين شبابنا الذي ينجر بسهولة وراء كل ما هو حديث وجديد (2)



كيف يمكن الوقوف أمام هذه الظاهرة من ناحية اجتماعية وفردية؟

الواجب الأكبر يقع على عاتق المثقفين والمفكرين والمتعلمين في المجتمعات العربية في توجيه وصنع رأي عام حقيقي في الشارع العربي للوقوف أمام هذه الظاهرة , والعمل بشكل حقيقي على صياغة حديثة وعصرية وأخلاقية للأعلام العربي بقدر المستطاع , لأنقاذ جيل من الشباب المقبل على مرحلة حياتية جديدة.
مطلوب من الجميع العمل بكل الوسائل المتاحة عبر الصحف والمجلات من قبل الصحافيين والكتاب والمفكرين وحتى الأدباء عبر إيجاد
منظومة إصلاحية في داخل الأدب الحديث والوقوف أمام هذه الظواهر التي اجتاحت الأدب العربي وأغرقته بإباحيتها وسقوطها الأخلاقي.
وتزيين المنظومة الأخلاقية في الأدب العربي, وكذلك مطالبة الحكومات العربية عبر الاستفتاءات الشعبية والمطالبات الشرعية عبر وسائل الأنباء للوقوف بجدية اكثر وتعديل قوانينها بما يمنع هذه الظواهر التي غدت في ازدياد مخلفة ورائها جيلا مفرغا من همومه الأساسية ومن ثقافته وفكره وتراثه, وإيجاد مراكز اجتماعية بمجهود جماعي شبابية لتوعية جيل الشباب وإيضاح النتيجة الحتمية للاستمرار والسير خلف الموضة ومظاهر التعري وخطرها على الإنسان والمجتمع.

نحن بحاجة للوقوف الجاد أمام تلك الفضائيات وردعها وإيجاد البديل الحقيقي لها وإلا فالخسارة الفادحة ستكون في جيل المستقبل الذي نرى فيه الأمل في إقامة المجتمع الحر المثالي
والوقوف الجاد أمام كل ما هو حديث ودراسته وتوعية الجماهير لمخاطره ومفاسده التي تدر على أصحاب الشركات المليارات , وتدر علينا الملايين من المصابين في الإيدز وأطفال الشوارع مجهولي العائلات , لتصنع هذه الآفات شروخا ضخمة في مجتمعاتنا لإيصالها إلى أدنى مستويات الإنسانية والحضارة الحقيقية

ومن الأهم تفعيل دور القيم الأخلاقية والقيم والتقاليد وموروثاتنا المتراكمة التي صانت مجتمعاتنا لقرون عدة وصنعت له إمتداد حضاري ساد العالم قرونا

ما هو الحل الحقيقي الواقعي بالإضافة لما ذكر سابقا؟؟؟؟؟

هذا ما سأترك الباب فيه مفتوحا للقارئ للبحث فيه ومحاولة الخروج بنتيجة منطقية وعملية ومحاولة تطبيقها وتشكيلها بعقول المحيطين به

………………………………………… ………………………………..

(1) لمزيد من المعلومات يرجى مراجعة مقالي السابق بعنوان (الفضائيات العربية / لسان الرأسمالية الناطق الصادرة في صحيفة الحوار
المتمدن - العدد: 733 - 2004 / 2 /3

(2) لمعلومات إيضاحية اكثر حول هذه الظاهرة مراجعة مقالي الصادر بعنوان (الدعارة آفة اجتماعية حقيقية بحاجة لعلاج) في الحوار المتمدن - العدد: 857 - 2004 / 6 / 7