الفنّ التّجريدي والأنصاب النحتية
بقلم: حسين أحمد سليم

فنّ النّحت ظهر مع جيل المعماريين ومهرة البنّائين, الذين كانوا يهتمّون بتشييد الأبنيّة المميّزة عبر حقب الزّمن السّالف, بحيث كانوا يبحثون ويُنقّبون عن المقالع الأفضل للحجارة, ليقتطعوها من أماكنها ويعملون على تشذيبها ونحتها وزخرفتها بالرّسوم وغيرها, بأدوات تقليديّة معروفة كالمطرقة والإزميل ومن ثمّ نقلها, تمهيدا لإستخدامها في حركة البناء للقصور وأماكن العبادة, كالمساجد والأديرة والكنائس وأبنية الإدارات الرّسميّة والحكّام, وهو ما زال بارزا من خلال ما تبقّى من هذه المعالم في بعض الأماكن المعروفة حتّى يومنا هذا في غالبيّة المدن اللبنانيّة, بيروت وجبيل وطرابلس وبعلبك وصيدا وصور وراشيا وزحلة وبعبدا وعاليه وغيرها...
مع بدايات إنبعاث الفنّ التّشكيلي اللبناني عام 1880 للميلاد, بدأت المعالم الأولى لفنّ النّحت تتبلور مه إهتمامات بعض الفنّانين التّشكيليين الأوائل, الماهدين لولادة معالم الفنّ التّشكيلي اللبناني, بحيث أخذ هذا الفنّ يتجلّى من خلال الدّراسات الأكّاديميّة في الخارج, لبعض من كتب لهم أن يسافروا ليكتسبوا الخبرات في هذا المجال, بحيث برزت إبداعاتهم بعد عودتهم والبدء بتطبيق ما إكتسبوه من تجارب وخبرات في حركة فنّ النّحت...
بداية كانت المنحوتة محصورة في أمكنة معيّنة ضيّقة وخاصّة أو في بعض السّاحات النّادرة والتي كان يقتضي تواجد منحوتة فيها, وإقتصرت المنحوتة في تلك المرحلة على الأنصاب والأعمدة والتّماثيل النّصفيّة أو الكاملة لبعض الكهنة والرّؤساء والحكّام, وإستخدمت كنواصب فوق بعض القبور في المدافن ذات الطّابع الخاصّ...
فيما بعد ومع تطوّر حركة فعل النّحت مع تطوّر الفنّ التّشكيلي اللبناني, انعتقت المنحوتة اللبنانيّة وانتفضت وتحرّرت من الأماكن الضيّقة, وخرجت للأماكن العامة والساحات, فتمّ على مراحل زمنيّة متفاوتة من تنفيذ أعمال نحتيّة مختلفة الحجم, توزّعت في أماكن عدّة فوق الأراضي اللبنانيّة, فيما كان للمنحوتة التي تولد من بين انامل بعض الفنّانين التّشكيليين اللبنانيين وتتجلّى بأزاميلهم ومطارقهم, أن تتماهى في ساحات بعض المدن العربيّة...
برز في مجال فنّ النّحت اللبناني الكثير من الفنّانين التّشكيليين اللبنانيين, كيوسف الحويّك وألفرد بصبوص وميشال بصبوص وجوزيف بصبوص وحليم الحاج ومحمّد الحفّار وزافين هادشيان وعارف الرّيّس وبولس مرعي ريشا وجوزيف غانم وحسّان صعب وحسن بدوي وحسين منيف ياغي وخالد رمضان ودلال كنج ورودولف شمعون ورياض عويضةوسايد أبو محرز وسامي بصبوص وسليمان سليمان وشربل فارس وعدنان خوجة وعدنان حقّاني وعصام خير الله وكولين طوروسيان ديروبوغوصيان ومارون الجكيم ونديم الشّوباصي وندى رعد وبيار كرم وحسن الشّوباصي وخليل عليق ورضا علي السّيّد وسهيل ذبان وراغد شمس الدين ورودي رحمة وريما رفيق بومطر وريما شمس الدين وزاهر شريف ملاعب وسناء الشّوّا ونايف علوان ونبيل الحلو ونادين أبو زكي وإميل عقل وأندريه نمّور وبسّام كيرللوس وجميل ملاعب وجوزيف الحوراني وطوني فرح وعادل صالحة وميشال حدّاد وهشام حسن وفيرا فرح وزياد الحاج وساميا علو وسامي كنعان وشكر الله فتّوح ويوسف غزّاوي ومعزّز روضة وناظم إيراني وسامي الرّفاعي ورشيد سمعان وشوقي شوكيني وسميح العطّار وتوفيق عبد العال وعماد عيسى وفارس غصّوب وعزّت مزهر وفريد منصور وسعد الله لبّس وغيرهم...
يعتبر الفنّان التّشكيلي عارف الريس أحد أعمدة الفن التّشكيلي اللبناني, فقد أنجز العديد من الأنصاب والتّماثيل بمواد مختلفة عكست مراحله الفنّيّة, ومنذ العام 1960 تبدلّت أعماله من حركة التشخيص إلى فعل التجريد الحروفي, والتراكيب الهندسية فأتت في مجملها رموزاً حملت في مضامين طياتها أفكاره وفلسفته ومعتقداته, بحيث يوصلك الشكل إلى المعنى الفكري لما يتراءى للفنّان, وهناك شواهد نحتية كثيرة للفنّان عارف الرّيّس في المملكة العربية السعودية, معظمها حروفي إضافة إلى أعمال تجريدية متعددة الأحجام والمواد نفّذت في عاليه وغيرها في لبنان...
حوّل آل بصبوص ميشال وجوزيف وألفرد قريتهم راشانا في السّتينات من القرن الماضي إلى محترف ومتحف للنحت في العراء, حلم بدأ مع ميشال بصبوص وساعده أخواه جوزيف وألفرد في تحقيقه, وأعلنتها الدولة فيما بعد كأحد المعالم السياحية اللبنانيّة, وفي مطلع التسعينات أنشئت سيمبوزيومات نحتيّة عدّةً في راشانا, وتتالت السيمبوزيومات في بعض المدن اللبنانيّة الأخرى كمدينة عالية وجونية وجبيل وإهدن وطرابلس وزحلة والخيام, بحيث أصبحت ظاهرة ساعدت على تغيير الثقافة البصرية عند العامّة لصالح النّحت التّجريدي, فكانت ملتقيات متعدّدة للفنّانين من بلدان مختلفة عربية وأوروبية في آن...

فنّ التّجريد اللبناني من منظور بحت تحليلي, يغلب عليه الطّابع الغربي في مجمله, وهو إلى حدٍّ ما يخلو من نكهته الوطنيّة والمحلّيّو, بحيث يبرز عند النّحّات اللبناني الرّغبة العارمة في النّزول عند رغبات المتلقّين من الجمهور لإرضائه, كما أنّ حركة فعل النحت في لبنان تتّسم بطابع التّقنية, ثم تتمحور في كينونة الشّكل, لتتماهى في المحصّلة النّهائيّة في حركة الرؤي, والفنّان اللبناني يقدم على اختيار فعل السهولة في منهجيّة الأسلبة إضافة للإهتمام بالحركة الخارجية للمنحوتة, و إبراز حركة الخطوط والمسطحات, فكلّها ثوابت تدعم أهميّة الشّكل على حساب الرؤيا والبعد الروحي...