كم تمنيت أن تسنح لي فرصة لأكتب شيئاً عن أمي وكم تمنيت أن أسطر في سيرتها تاريخاً يروى على مد العصور لأخلد ذكرها واجسد فضلها لتنهل منه الأجيال القادمة، ويشهد التاريخ أن قد مرت به نماذج رائعة من البشر ليس أقل من أن يحمل لهم باقات مزهرة من مواقف حياتهم لتشهد على صفاء قلوبهم ونقاء حياتهم وعبق تاريخهم .
قد يتبادر إلى الأذهان أني سأتحدث عن أمي ذات السيرة العلمية أو التاريخ الأدبي الكبير، وقد تظنون أني ساتحدث عن امرأة طافت أنحاء العالم تتنقل بين جامعاته المختلفة تنهل من علومها وتحضر الرسالات العلمية المتخصصة وربما تظنون أن أمي امرأة سبرت أغوار التاريخ ودرست حياة الأمم السالفة والحاضرة وجمعت ثقافة هائلة تمكنها من تولي أقى المناصب وتتسنم أعلى المراتب إلا أن الأمر ليس كذلك .
إن أمي أمرأة أمية لم تدخل المدارس ولم تتعلم بل عاشت حياتها بسيطة دون تكلف لا تعرف الكثير من العلوم غير مبادئ بسيطة تمكنها من أداء العبادات وبعض الآيات والسور القصيرة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة التي تلقتها مشافهة أو سماعاً.
إلا أنها تمكنت رغم امكاناتها المتواضعة أن تضفي على حياتنا نمطاً حياتياً رائعاً وذلك عندما تولت تربيتنا تربية فائقة ورعتنا رعاية عظيمة حين استطاعت أن تزرع فينا آداباً وأخلاقاً ربما يعجز عن زرعها كثير من الأمهات المتعلمات اللواتي درسن امهر أساليب التربية وأفضل طرقها، لقد علمتنا كيف نتعامل مع ربنا أولاً ثم مع مجتمعنا ثانياً وكيف نتراحم بيننا ، كانت تعلمنا أن نرحم الصغار ونحترم الكبار ولا نتبذل في ألفاظنا ، الضيف له مكانة عالية والمسكين له رعاية خاصة والطفل يلعب بالعابنا والمحتاج والجائع ياكلان من طعامنا ، الدنيا لا يدوم حالها والفرح الزائد لا يستوي مع الجادين والحزن الكثير ليس من صفات المؤمنين هكذا تعلمنا ونحن في سن الطفولة ، كم جلسنا متحلقين حولها تروي لنا قصص الشجعان وحكايات الكرماء كم علمتنا من الحجايا والألغاز ، كم روت لنا من الأساطير الشعبية التي كلها حكم ودروس حياتية لا زلت اتذكر الكثير منها وأرويها إلى يومنا هذا رغم اني سمعتها قديما منها غير أن اسلوبها المشوق الذي لا يصل اليه المتخصصون الذي يبذلون قصارى جهدهم لاستعمال أفضل الطرق لايصال أفكارهم للمستمعين كان اسلوبا رائعاً .
كانت مثالاً رائعاً للزوجة المثالية وذلك لحسن تعاملها مع والدي ،فكم استطاعت أن تعينه على امور حياته في تلك الظروف القاسية التي مرت بها حياتهما إلا أنها تمكنت من إدارة بيتها وفق برامج اقتصادية واجتماعية لم تذهب فيها الى خبراء ولم تدرس فيها طرقا حديثة لتجاوز الأزمات الأسرية التي تكاد تعصف باستقرار الاسرة الفقيرة في زمن لم تكن فيه الامكانيات متوفرة ولكنها استطاعت أن تصنع من بيتها جنة وارفة الظلال واستطاعت ان تظلل أسرتها بروح مفعمة بالرضا والقناعة ولم تكن لتنسى جيرانها فكم حملت الطعام الى الجيران وانا طفل صغير كما فعل اخواني .
لم تمر بي ساعة بجوارها الا ولسانها يلهج بذكر الله تعالى تشكره على نعمه وآلائه وخاصة عندما تتراكم عليها الآلام ويشتد عليها المرض وتقول دائما بلسان الرضا ان الذي اعطاني ربي كثير والذي ابتلاني به قليل .
فلله درك يا امي كم تعلمت منك وكم تربيت على يديك .
كما أنها كانت خلوقة مع جاراتها مشاركة لهن أفراحهن وأحزانهن ولست أنسى كيف يكون حالها عندما تحصل بينهن بعض الخصومات التي اعتاد عليها بعض النساء إما بسبب تعارك الأطفال أو وشاية بعض النساء وذلك عندما تجهش بالبكاء حين تتطاول عليها احداهن وليس ذلك ضعفاً منها ولكنها لا تستطيع ان ترد بكلمات نابية أو عبارات فاحشة كما تصنع بعض النسوة فتسكت حتى تنتهي المشاجرة وتعبر عن مشاعرها بالبكاء وتعلمنا الا نطلق الستنا بالفحش فانه اسوأ الاخلاق.
أعزائي انني أعلن عجزي عن وصف أمي فهناك كلمات عجزت عن سردها وقصص لا أقوى على الاستطراد فيها فهناك الكثير والكثير ولكن يكفيني أن أقول لكم لقد تعلمت في مدرسة أمي مالم اتعلمه في أي مدرسة أخرى ونهلت من معين خبرتها مالم اتلقاه عن أي مرب أو معلم فغرساتها أزهرت وأثمرت في حياتي ثماراً عظيمة .
فليرع الله أمي وليحفظها ولتعذرني لأني لم أتمكن من إيفائها حقها ولم أصل إلى ماتمنيت أن اكتبه عنها ولكن ستبقى أمي منارة تدلني الطريق ما حييت .
فلك كل التحية والتقدير يا أمي .
مداد قديم