سكّين العشق قتّال
اليوم سأعيش أجمل اللحظات باسترداد محبوبتي التي ابتعدت عنّي، وغيّبها الهجر سنين...الليلة ستكون لي وحدي، بعد الفراق الذي أضناني.
"يا لها من أيّام جميلة، عشتها في طفولتي وربيع شبابي!... لا عليك يا ثائر، ستعيدها الليلة راضية أو مكرهة، وستتذكّر عشقك لها إلى الأبد..."
خاطب ثائر نفسه وهو يقطّع حبّات الطّماطم، مجهّزا طعام فطوره، ومحملقا في صورة محبوبته تارة، وأخرى مراقبا النّافذة التي تطلّ على الحارة وزقاقها الذي كانت تمرّ منه بهيّة الطّفلة التي حضرت والدته ولادتها، وطلبت من (الدّاية) قطع حبل صرّتها على اسمه؛ لتكون زوجا له في المستقبل.
رُبط هذا الحبل عشقا على قلبه، يوم رآها ذاهبة إلى مدرستها تلوح بحقيبتها، وجديلتيها اللتين زيّنتا بزيقَين من قماش الحرير الأبيض.
كان يكبرها بعشر سنوات، لكنّ مستعمرة العشق التي بناها في قلبه، والمدعومة بخلايا جسده، جعلته ينتظرها حتّى تبلغ سنّ الرّشد، ويذهب لمصارحتها، وطلب يدها. وعزاؤه حتّى ذلك الحين حديقة الشّوق التي سيّج بها عمارات عشقه، وقطف منها زهرات استمتع بأريجها، كلّما رآها تمرّ أمام ناظريه.
افترّ عن ثغره، وهو يتذكّر ساعة صارحها بما يكنز في قلبه من حبّ لها، حين تبعها، أثناء عودتها من المدرسة، يوم أن أنهت تعليمها في الصّفّ التّاسع. كان قد انتظرها عند بوّابة المدرسة ساعات، ومشى خلفها. وبعدما فارقت صديقاتها، اقترب منها، معرّفا بشخصه، وعارضا عليها أن يحمل حقيبتها. يومها، احمرّت وجنتاها، ورفضت اقتراحه، ومشت تتلفّت حولها خوف أن يراها أحد. ولم تقو على صرفه، أو أن تسرع الخطى لتسبقه، بل تثاقلت مشيتها، وخفق قلبها دهشة، عندما اقترب منها، وهمس في أذنها:"أحبّك". توقف هو في مكانه، وأكملت هي المسير بخطوات غير متناسقة!...
دخلت بهيّة البيت متجاهلة الأهل الذين طلبوا منها مشاهدة نتائج حصيلة علمها، بعد أن كانت ترقص فرَحًا لدى استلامها نتيجة كلّ امتحان...
أثارت سَحْنَتُها غير المعهودة شكوك الوالدين اللذين ألحّا عليها في الطّلب، وراحا يسألانها فيما إذا تعرّضت لأيّ اعتداء أو إهانة خاصّة؛ وأنّ تفوّقها في مدرستها يوجب رؤية ما اعتاداه من حركة دورانها في فناء البيت ملوّحة بأوراقها، ومدندنة أغنية عبد الحليم "وحياة قلبي وأفراحه".
كانت حجّتها أنّ رأسها يؤلمها، وأنّها حزينة على فراق زميلاتها في المدرسة.
بدا الأمر مقنعا... ودخلت بهيّة إحدى الغرف، وأغلقت الباب بإحكام، ليفتح بعد ذلك دماغها شريطا من الصّور طبعت عليها وقفات ثائر الطّويلة أمام بوّابة المدرسة سنوات عديدة يرقبها عن بعد... ولم تفكّر للحظة أنّ وقفته هناك كُرمَى لها؛ رغم أنّه كثيرا ما مشى خلفها أثناء عودتها للبيت محافظا على مسافة بينهما.
تذكّرت وقفته خلال الثّلاث السنين الأخيرة على شبّاك غرفته يتأمّلها كلّ صباح، وهي في طريقها إلى المدرسة.
تقاذفها دوار العاطفة، وألقى بها في بحر كلمات خالد زميلها الذي بسط أمامها سجّادة إعجابه قبل أسبوع فقط، وكادت تسقط عليها خجلا وفرحا...
"لا أمتلك الجرأة على مصارحته، والاعتراف له بأنّي لا أريد هذا الحبّ من شخص لا أعرفه، وأفضّل حبّ من كان في مثل سنّي؛ لأتزوّج منه مستقبلا، بعد إنهائي دراستي".
صرخت، وحشرجة صوتها تبتلعها دقّات السّاعة المزعجة، وغمامة فكرها توحي لها بانعدام بارقة حلّ للمشكلة، ونامت ملطّخة بوحل خوف الآتي، وحمأ خشية الحاضر...
مرّ صيفان على اعتراف ثائر لبهيّة بحبّه، ولم يتلقَ ردّا. وكان يقينه أنّ السّكوت علامة الرّضا، وأنّ الخجل يمنع بهيّة من التقائه، فقرّر التّوجّه بشكل رسميّ إلى الأهل، وطلب يدها، وضغط على بنصره التي ستطوّقها جوهرة السّعادة الذّهبيّة المنتظرة منذ سنين.
انتظر أسبوعا على رَمَض الشّوق؛ ليحقّق ما يبغي... "لا شكّ أنّ بهيّة تتراقص بهجة، وتزداد بهاء، وهي تسرّ لصديقاتها نبأ خطبتها ممّن يحبّها". حدّثته نفسه مطمئنّة.
ملأ غرفته حُبورا عندما خطر هذا بباله، ورسم على كلّ شبر فيها، الشّفاه المفتوحة بنون النَّعَم. وفي غمرة الانتظار، ونشوة وهم الموافقة، قرع الباب ، فعَلَت صرخات التّهديد والوعيد الصّادرة من الغرفة لمن سيتجرّأ، ويقترب؛ ليخطب بهيّة التي رفضت قلبه، وعمره اللذين انتظراها طويلا...
"هل يعقل أن ترفضني بهيّة؛ لأنّي قصير القامة، وأكبرها بعشر سنين؟ لا، لا يمكن... هذه أفكار أهلها المتباهين بطول قاماتهم، وبياض بَشَراتهم... بهيّة لن يتزوّجها أحد غيري!".
وشاءت إرادة الأقدار، بعد سنة، أن تغلب ثورة ثائر وعواطفه، وزُفّت بهيّة لمن ارتضته وأهلها عريسا لها. زفّت للشّاب الذي أعجبها جماله، ولطفه، وسبق "ثائر" في تقديم مشاعره على بَلّورَة الإعجاب، وحظي بها.
يومها، غاب ثائر عن البلدة، وخاف أهل الحيّ الذين سمعوا تهديداته- يوم رفضته بهيّة- من عاقبة غيابه... فيما والدته تولول وتتضرّع إلى الله؛ طالبة أن يضفي على قلبه السّكينة... وأثلج صدرها حين سمعت وقع خطواته، وهو داخل إلى غرفته، ويصفق بابها بقوّة!
"ألا تبّا لك أيّها الضّعف المسمّى قلبا! لم تستطع رقّة شرايينك، ودفق محبّتك جذب من تهواها إلى ديارك. وها أنت قابع ها هنا، ومسجون في قفص اعوجّت أعواده، بينما أسكنت من تحبّ قلبها في بيت اتّسعت أرجاؤه، وأغراها بهاؤه... لا بدّ أن تتحرّر يوما ما، وتنطلق إلى قفص من حرمت منها... وحتّى ذلك الحين، سأبقيك حبيسا عطشا... فتحمّل!".
قال هذا، ويداه تتّخذان من حافّة الشّرفة متّكأ، فيما عيناه تحملقان في الطّريق الذي اعتاد مراقبته كلّ صباح، ونور البدر يضيء له آثار خطوات بهيّة...
مرّت بضع سنوات، وثائر لا يحبّ الخوض في أموره الخاصّة، ولم يتردّد في إغضاب أمّه التي عرضت عليه كلّ شهر اسم فتاة؛ محاولة إقناعه بالزّواج؛ اعتقادا منها أنّه وَأَّدَ حبّ بهيّة، فكان يصرخ في وجهها: "بهيّة أو العزوبيّة!".
قضى يومه الذي بدأ صباحه بتلهّف للقاء محبوبته في البيت، ورفض تناول الدّواء الذي وصفه له الطّبيب النّفسيّ إثر حالات الهيجان، والقلق التي كثرت في الآونة الأخيرة...
لاحظ أفراد العائلة أنّ ريشة الفرح ترسم لوحاتها على وجهه، الذي جعل البؤس والعبوس منه وجه تمثال غاضب، يقبع تحت وهج الحرّ، ولسع القرّ، فسرّوا لذلك التّحوّل؛ اعتقادا منهم أنّ كُربته في طريقها للزّوال...
حملق في المفكّرة، وفي التّأريخ الذي حوّطه باللون الأحمر، ابتسم وقال: ستبقى يوما مخلّدا... ففي مثل هذا اليوم اعترفت لبهيّة بحبّي، وفيه سأعترف لها ثانية، وستكون لي، لي وحدي أنا، وإلى الأبد...
حام حول بيت بهيّة، ونقيق الضّفادع، وصوت صراصير الليل يعكّران صفو الجوّ، وضوء القمر يتأرجح بين الأشجار التي يطلّ منها، عندما يداعبها نسيم الليل. وحين يظهر النّور ينكشف ثائر، فيعلو نباح الكلب الرّابض أمام البيت، وحين يختفي، يخفت الصّوت.
كان متأكّدا أنّه سيجد إحدى النّوافذ مشرعة، فتهلّلت أسارير وجهه، وفاضت بِشْرًا، وانهمرت دموعه فَرَحا، وازدادت خطواته ثقة... فالليلة سَيَفي بِعَهده...
"يا لحظّي! شبّاك السّعادة يرحبّ بي، وبهيّة تنتظرني... سأخبرها بصدق مشاعري، وبِزيف حياتها... هل لا تزالين يقظة؟ أم أنّك سترتعبين عندما أوقظك في الظّلام يا غاليتي؟!... لا تغضبي منّي إذا ما أيقظتك من نومك، وأفزعتك".
مدّت شجرة اللّوز فرعها صوب النافذة المفتوحة، وما احتاج سوى أن يقفز ليمسك بإفريز الشّرفة، ويدخل الغرفة... مشى بتُؤَدة على البساط الضّوئي الذي مدّه نور القمر في الغرفة، فرأى وجه بهيّة، وقد انعكس عليه ضوء المصباح الخافت بلونه السّحريّ، فزاد الوجه جمالا ورقّة... غازل فرحُ عينيه سحرَ جمالها... وبَغتةً، امتقع لونه، وكاد جمر ناظريه يعميه. فقد رأى ذراعين تحتضنان معشوقته... هاله ما رأى، فاستلّ سكّينه، وهوى بطعناته الهوجاء على الجسد الذي أغاظته ذراعاه. وخوفا على بهيّة أن تفزع ممّا ترى، وقبل أن يردّد المكان صدى صراخها ممزوجا بصوت حشرجة زوجها، أغمد السّكين في قلبها، وصرخ بدلا منها: سكّين العشق قتّال يا بهيّة!...