أحدث المشاركات
صفحة 1 من 4 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 35

الموضوع: سكّينُ العشقِ قتّالٌ

  1. #1
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي سكّينُ العشقِ قتّالٌ

    سكّين العشق قتّال

    اليوم سأعيش أجمل اللحظات باسترداد محبوبتي التي ابتعدت عنّي، وغيّبها الهجر سنين...الليلة ستكون لي وحدي، بعد الفراق الذي أضناني.
    "يا لها من أيّام جميلة، عشتها في طفولتي وربيع شبابي!... لا عليك يا ثائر، ستعيدها الليلة راضية أو مكرهة، وستتذكّر عشقك لها إلى الأبد..."
    خاطب ثائر نفسه وهو يقطّع حبّات الطّماطم، مجهّزا طعام فطوره، ومحملقا في صورة محبوبته تارة، وأخرى مراقبا النّافذة التي تطلّ على الحارة وزقاقها الذي كانت تمرّ منه بهيّة الطّفلة التي حضرت والدته ولادتها، وطلبت من (الدّاية) قطع حبل صرّتها على اسمه؛ لتكون زوجا له في المستقبل.
    رُبط هذا الحبل عشقا على قلبه، يوم رآها ذاهبة إلى مدرستها تلوح بحقيبتها، وجديلتيها اللتين زيّنتا بزيقَين من قماش الحرير الأبيض.
    كان يكبرها بعشر سنوات، لكنّ مستعمرة العشق التي بناها في قلبه، والمدعومة بخلايا جسده، جعلته ينتظرها حتّى تبلغ سنّ الرّشد، ويذهب لمصارحتها، وطلب يدها. وعزاؤه حتّى ذلك الحين حديقة الشّوق التي سيّج بها عمارات عشقه، وقطف منها زهرات استمتع بأريجها، كلّما رآها تمرّ أمام ناظريه.
    افترّ عن ثغره، وهو يتذكّر ساعة صارحها بما يكنز في قلبه من حبّ لها، حين تبعها، أثناء عودتها من المدرسة، يوم أن أنهت تعليمها في الصّفّ التّاسع. كان قد انتظرها عند بوّابة المدرسة ساعات، ومشى خلفها. وبعدما فارقت صديقاتها، اقترب منها، معرّفا بشخصه، وعارضا عليها أن يحمل حقيبتها. يومها، احمرّت وجنتاها، ورفضت اقتراحه، ومشت تتلفّت حولها خوف أن يراها أحد. ولم تقو على صرفه، أو أن تسرع الخطى لتسبقه، بل تثاقلت مشيتها، وخفق قلبها دهشة، عندما اقترب منها، وهمس في أذنها:"أحبّك". توقف هو في مكانه، وأكملت هي المسير بخطوات غير متناسقة!...
    دخلت بهيّة البيت متجاهلة الأهل الذين طلبوا منها مشاهدة نتائج حصيلة علمها، بعد أن كانت ترقص فرَحًا لدى استلامها نتيجة كلّ امتحان...
    أثارت سَحْنَتُها غير المعهودة شكوك الوالدين اللذين ألحّا عليها في الطّلب، وراحا يسألانها فيما إذا تعرّضت لأيّ اعتداء أو إهانة خاصّة؛ وأنّ تفوّقها في مدرستها يوجب رؤية ما اعتاداه من حركة دورانها في فناء البيت ملوّحة بأوراقها، ومدندنة أغنية عبد الحليم "وحياة قلبي وأفراحه".
    كانت حجّتها أنّ رأسها يؤلمها، وأنّها حزينة على فراق زميلاتها في المدرسة.
    بدا الأمر مقنعا... ودخلت بهيّة إحدى الغرف، وأغلقت الباب بإحكام، ليفتح بعد ذلك دماغها شريطا من الصّور طبعت عليها وقفات ثائر الطّويلة أمام بوّابة المدرسة سنوات عديدة يرقبها عن بعد... ولم تفكّر للحظة أنّ وقفته هناك كُرمَى لها؛ رغم أنّه كثيرا ما مشى خلفها أثناء عودتها للبيت محافظا على مسافة بينهما.
    تذكّرت وقفته خلال الثّلاث السنين الأخيرة على شبّاك غرفته يتأمّلها كلّ صباح، وهي في طريقها إلى المدرسة.
    تقاذفها دوار العاطفة، وألقى بها في بحر كلمات خالد زميلها الذي بسط أمامها سجّادة إعجابه قبل أسبوع فقط، وكادت تسقط عليها خجلا وفرحا...
    "لا أمتلك الجرأة على مصارحته، والاعتراف له بأنّي لا أريد هذا الحبّ من شخص لا أعرفه، وأفضّل حبّ من كان في مثل سنّي؛ لأتزوّج منه مستقبلا، بعد إنهائي دراستي".
    صرخت، وحشرجة صوتها تبتلعها دقّات السّاعة المزعجة، وغمامة فكرها توحي لها بانعدام بارقة حلّ للمشكلة، ونامت ملطّخة بوحل خوف الآتي، وحمأ خشية الحاضر...
    مرّ صيفان على اعتراف ثائر لبهيّة بحبّه، ولم يتلقَ ردّا. وكان يقينه أنّ السّكوت علامة الرّضا، وأنّ الخجل يمنع بهيّة من التقائه، فقرّر التّوجّه بشكل رسميّ إلى الأهل، وطلب يدها، وضغط على بنصره التي ستطوّقها جوهرة السّعادة الذّهبيّة المنتظرة منذ سنين.
    انتظر أسبوعا على رَمَض الشّوق؛ ليحقّق ما يبغي... "لا شكّ أنّ بهيّة تتراقص بهجة، وتزداد بهاء، وهي تسرّ لصديقاتها نبأ خطبتها ممّن يحبّها". حدّثته نفسه مطمئنّة.
    ملأ غرفته حُبورا عندما خطر هذا بباله، ورسم على كلّ شبر فيها، الشّفاه المفتوحة بنون النَّعَم. وفي غمرة الانتظار، ونشوة وهم الموافقة، قرع الباب ، فعَلَت صرخات التّهديد والوعيد الصّادرة من الغرفة لمن سيتجرّأ، ويقترب؛ ليخطب بهيّة التي رفضت قلبه، وعمره اللذين انتظراها طويلا...
    "هل يعقل أن ترفضني بهيّة؛ لأنّي قصير القامة، وأكبرها بعشر سنين؟ لا، لا يمكن... هذه أفكار أهلها المتباهين بطول قاماتهم، وبياض بَشَراتهم... بهيّة لن يتزوّجها أحد غيري!".
    وشاءت إرادة الأقدار، بعد سنة، أن تغلب ثورة ثائر وعواطفه، وزُفّت بهيّة لمن ارتضته وأهلها عريسا لها. زفّت للشّاب الذي أعجبها جماله، ولطفه، وسبق "ثائر" في تقديم مشاعره على بَلّورَة الإعجاب، وحظي بها.
    يومها، غاب ثائر عن البلدة، وخاف أهل الحيّ الذين سمعوا تهديداته- يوم رفضته بهيّة- من عاقبة غيابه... فيما والدته تولول وتتضرّع إلى الله؛ طالبة أن يضفي على قلبه السّكينة... وأثلج صدرها حين سمعت وقع خطواته، وهو داخل إلى غرفته، ويصفق بابها بقوّة!
    "ألا تبّا لك أيّها الضّعف المسمّى قلبا! لم تستطع رقّة شرايينك، ودفق محبّتك جذب من تهواها إلى ديارك. وها أنت قابع ها هنا، ومسجون في قفص اعوجّت أعواده، بينما أسكنت من تحبّ قلبها في بيت اتّسعت أرجاؤه، وأغراها بهاؤه... لا بدّ أن تتحرّر يوما ما، وتنطلق إلى قفص من حرمت منها... وحتّى ذلك الحين، سأبقيك حبيسا عطشا... فتحمّل!".
    قال هذا، ويداه تتّخذان من حافّة الشّرفة متّكأ، فيما عيناه تحملقان في الطّريق الذي اعتاد مراقبته كلّ صباح، ونور البدر يضيء له آثار خطوات بهيّة...
    مرّت بضع سنوات، وثائر لا يحبّ الخوض في أموره الخاصّة، ولم يتردّد في إغضاب أمّه التي عرضت عليه كلّ شهر اسم فتاة؛ محاولة إقناعه بالزّواج؛ اعتقادا منها أنّه وَأَّدَ حبّ بهيّة، فكان يصرخ في وجهها: "بهيّة أو العزوبيّة!".
    قضى يومه الذي بدأ صباحه بتلهّف للقاء محبوبته في البيت، ورفض تناول الدّواء الذي وصفه له الطّبيب النّفسيّ إثر حالات الهيجان، والقلق التي كثرت في الآونة الأخيرة...
    لاحظ أفراد العائلة أنّ ريشة الفرح ترسم لوحاتها على وجهه، الذي جعل البؤس والعبوس منه وجه تمثال غاضب، يقبع تحت وهج الحرّ، ولسع القرّ، فسرّوا لذلك التّحوّل؛ اعتقادا منهم أنّ كُربته في طريقها للزّوال...
    حملق في المفكّرة، وفي التّأريخ الذي حوّطه باللون الأحمر، ابتسم وقال: ستبقى يوما مخلّدا... ففي مثل هذا اليوم اعترفت لبهيّة بحبّي، وفيه سأعترف لها ثانية، وستكون لي، لي وحدي أنا، وإلى الأبد...
    حام حول بيت بهيّة، ونقيق الضّفادع، وصوت صراصير الليل يعكّران صفو الجوّ، وضوء القمر يتأرجح بين الأشجار التي يطلّ منها، عندما يداعبها نسيم الليل. وحين يظهر النّور ينكشف ثائر، فيعلو نباح الكلب الرّابض أمام البيت، وحين يختفي، يخفت الصّوت.
    كان متأكّدا أنّه سيجد إحدى النّوافذ مشرعة، فتهلّلت أسارير وجهه، وفاضت بِشْرًا، وانهمرت دموعه فَرَحا، وازدادت خطواته ثقة... فالليلة سَيَفي بِعَهده...
    "يا لحظّي! شبّاك السّعادة يرحبّ بي، وبهيّة تنتظرني... سأخبرها بصدق مشاعري، وبِزيف حياتها... هل لا تزالين يقظة؟ أم أنّك سترتعبين عندما أوقظك في الظّلام يا غاليتي؟!... لا تغضبي منّي إذا ما أيقظتك من نومك، وأفزعتك".
    مدّت شجرة اللّوز فرعها صوب النافذة المفتوحة، وما احتاج سوى أن يقفز ليمسك بإفريز الشّرفة، ويدخل الغرفة... مشى بتُؤَدة على البساط الضّوئي الذي مدّه نور القمر في الغرفة، فرأى وجه بهيّة، وقد انعكس عليه ضوء المصباح الخافت بلونه السّحريّ، فزاد الوجه جمالا ورقّة... غازل فرحُ عينيه سحرَ جمالها... وبَغتةً، امتقع لونه، وكاد جمر ناظريه يعميه. فقد رأى ذراعين تحتضنان معشوقته... هاله ما رأى، فاستلّ سكّينه، وهوى بطعناته الهوجاء على الجسد الذي أغاظته ذراعاه. وخوفا على بهيّة أن تفزع ممّا ترى، وقبل أن يردّد المكان صدى صراخها ممزوجا بصوت حشرجة زوجها، أغمد السّكين في قلبها، وصرخ بدلا منها: سكّين العشق قتّال يا بهيّة!...

  2. #2
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,009
    المواضيع : 130
    الردود : 7009
    المعدل اليومي : 1.49

    افتراضي

    الأديبة كاملة بدارنة
    لست ناقداً أدبياً بل هاوٍ محبّ للأدب ..
    نص ممتع وكانت بدايته من قيام بطل القصة بتحضير الفطور" مقطّعاً الطماطم" لتنذر بالثبور..
    كانت بداية المأساة حين قطعت "الداية" حبل صرة الضحية لتربطه بالوهم الذي عاش عليه ثائر سنين لقد شقت تلك الأم لابنها بجهلها درب الهلاك
    التفصيل في حديث "ثائر" لنفسه لم يكن اطالة بل اضاءة بينت تفاعلات ما في نفس بطل القصة
    تحياتي أختي كاملة على هذا العمل المبدع
    وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن

  3. #3
    قاصة
    تاريخ التسجيل : May 2012
    المشاركات : 1,224
    المواضيع : 115
    الردود : 1224
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    نص يخطف الأنفاس.سرد ماتع شكرا لك على هذا الالق والأبداع.(.جرائم الشغف). العشق المجنون.العام الماضى ارتكبت فى بلدى ثلاث من جرائم الشغف.طالبة جامعية تركت زميلها قتلها فى قاعة الدراسة..أخرى تسلل لمنزلها فى غياب الام وقتلها لخطبتها لآخر..داخل الكوافير يوم عرسها هاجمها المحب المجنون. نصك أثار معضلة عاطفية موجودة فى العالم.بوركت
    البحر ...رغم امتلائه بالماء..
    دائما يستقبل المطر

  4. #4
    الصورة الرمزية محمد الشرادي أديب
    تاريخ التسجيل : Nov 2012
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 721
    المواضيع : 35
    الردود : 721
    المعدل اليومي : 0.17

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كاملة بدارنه مشاهدة المشاركة
    سكّين العشق قتّال

    اليوم سأعيش أجمل اللحظات باسترداد محبوبتي التي ابتعدت عنّي، وغيّبها الهجر سنين...الليلة ستكون لي وحدي، بعد الفراق الذي أضناني.
    "يا لها من أيّام جميلة، عشتها في طفولتي وربيع شبابي!... لا عليك يا ثائر، ستعيدها الليلة راضية أو مكرهة، وستتذكّر عشقك لها إلى الأبد..."
    خاطب ثائر نفسه وهو يقطّع حبّات الطّماطم، مجهّزا طعام فطوره، ومحملقا في صورة محبوبته تارة، وأخرى مراقبا النّافذة التي تطلّ على الحارة وزقاقها الذي كانت تمرّ منه بهيّة الطّفلة التي حضرت والدته ولادتها، وطلبت من (الدّاية) قطع حبل صرّتها على اسمه؛ لتكون زوجا له في المستقبل.
    رُبط هذا الحبل عشقا على قلبه، يوم رآها ذاهبة إلى مدرستها تلوح بحقيبتها، وجديلتيها اللتين زيّنتا بزيقَين من قماش الحرير الأبيض.
    كان يكبرها بعشر سنوات، لكنّ مستعمرة العشق التي بناها في قلبه، والمدعومة بخلايا جسده، جعلته ينتظرها حتّى تبلغ سنّ الرّشد، ويذهب لمصارحتها، وطلب يدها. وعزاؤه حتّى ذلك الحين حديقة الشّوق التي سيّج بها عمارات عشقه، وقطف منها زهرات استمتع بأريجها، كلّما رآها تمرّ أمام ناظريه.
    افترّ عن ثغره، وهو يتذكّر ساعة صارحها بما يكنز في قلبه من حبّ لها، حين تبعها، أثناء عودتها من المدرسة، يوم أن أنهت تعليمها في الصّفّ التّاسع. كان قد انتظرها عند بوّابة المدرسة ساعات، ومشى خلفها. وبعدما فارقت صديقاتها، اقترب منها، معرّفا بشخصه، وعارضا عليها أن يحمل حقيبتها. يومها، احمرّت وجنتاها، ورفضت اقتراحه، ومشت تتلفّت حولها خوف أن يراها أحد. ولم تقو على صرفه، أو أن تسرع الخطى لتسبقه، بل تثاقلت مشيتها، وخفق قلبها دهشة، عندما اقترب منها، وهمس في أذنها:"أحبّك". توقف هو في مكانه، وأكملت هي المسير بخطوات غير متناسقة!...
    دخلت بهيّة البيت متجاهلة الأهل الذين طلبوا منها مشاهدة نتائج حصيلة علمها، بعد أن كانت ترقص فرَحًا لدى استلامها نتيجة كلّ امتحان...
    أثارت سَحْنَتُها غير المعهودة شكوك الوالدين اللذين ألحّا عليها في الطّلب، وراحا يسألانها فيما إذا تعرّضت لأيّ اعتداء أو إهانة خاصّة؛ وأنّ تفوّقها في مدرستها يوجب رؤية ما اعتاداه من حركة دورانها في فناء البيت ملوّحة بأوراقها، ومدندنة أغنية عبد الحليم "وحياة قلبي وأفراحه".
    كانت حجّتها أنّ رأسها يؤلمها، وأنّها حزينة على فراق زميلاتها في المدرسة.
    بدا الأمر مقنعا... ودخلت بهيّة إحدى الغرف، وأغلقت الباب بإحكام، ليفتح بعد ذلك دماغها شريطا من الصّور طبعت عليها وقفات ثائر الطّويلة أمام بوّابة المدرسة سنوات عديدة يرقبها عن بعد... ولم تفكّر للحظة أنّ وقفته هناك كُرمَى لها؛ رغم أنّه كثيرا ما مشى خلفها أثناء عودتها للبيت محافظا على مسافة بينهما.
    تذكّرت وقفته خلال الثّلاث السنين الأخيرة على شبّاك غرفته يتأمّلها كلّ صباح، وهي في طريقها إلى المدرسة.
    تقاذفها دوار العاطفة، وألقى بها في بحر كلمات خالد زميلها الذي بسط أمامها سجّادة إعجابه قبل أسبوع فقط، وكادت تسقط عليها خجلا وفرحا...
    "لا أمتلك الجرأة على مصارحته، والاعتراف له بأنّي لا أريد هذا الحبّ من شخص لا أعرفه، وأفضّل حبّ من كان في مثل سنّي؛ لأتزوّج منه مستقبلا، بعد إنهائي دراستي".
    صرخت، وحشرجة صوتها تبتلعها دقّات السّاعة المزعجة، وغمامة فكرها توحي لها بانعدام بارقة حلّ للمشكلة، ونامت ملطّخة بوحل خوف الآتي، وحمأ خشية الحاضر...
    مرّ صيفان على اعتراف ثائر لبهيّة بحبّه، ولم يتلقَ ردّا. وكان يقينه أنّ السّكوت علامة الرّضا، وأنّ الخجل يمنع بهيّة من التقائه، فقرّر التّوجّه بشكل رسميّ إلى الأهل، وطلب يدها، وضغط على بنصره التي ستطوّقها جوهرة السّعادة الذّهبيّة المنتظرة منذ سنين.
    انتظر أسبوعا على رَمَض الشّوق؛ ليحقّق ما يبغي... "لا شكّ أنّ بهيّة تتراقص بهجة، وتزداد بهاء، وهي تسرّ لصديقاتها نبأ خطبتها ممّن يحبّها". حدّثته نفسه مطمئنّة.
    ملأ غرفته حُبورا عندما خطر هذا بباله، ورسم على كلّ شبر فيها، الشّفاه المفتوحة بنون النَّعَم. وفي غمرة الانتظار، ونشوة وهم الموافقة، قرع الباب ، فعَلَت صرخات التّهديد والوعيد الصّادرة من الغرفة لمن سيتجرّأ، ويقترب؛ ليخطب بهيّة التي رفضت قلبه، وعمره اللذين انتظراها طويلا...
    "هل يعقل أن ترفضني بهيّة؛ لأنّي قصير القامة، وأكبرها بعشر سنين؟ لا، لا يمكن... هذه أفكار أهلها المتباهين بطول قاماتهم، وبياض بَشَراتهم... بهيّة لن يتزوّجها أحد غيري!".
    وشاءت إرادة الأقدار، بعد سنة، أن تغلب ثورة ثائر وعواطفه، وزُفّت بهيّة لمن ارتضته وأهلها عريسا لها. زفّت للشّاب الذي أعجبها جماله، ولطفه، وسبق "ثائر" في تقديم مشاعره على بَلّورَة الإعجاب، وحظي بها.
    يومها، غاب ثائر عن البلدة، وخاف أهل الحيّ الذين سمعوا تهديداته- يوم رفضته بهيّة- من عاقبة غيابه... فيما والدته تولول وتتضرّع إلى الله؛ طالبة أن يضفي على قلبه السّكينة... وأثلج صدرها حين سمعت وقع خطواته، وهو داخل إلى غرفته، ويصفق بابها بقوّة!
    "ألا تبّا لك أيّها الضّعف المسمّى قلبا! لم تستطع رقّة شرايينك، ودفق محبّتك جذب من تهواها إلى ديارك. وها أنت قابع ها هنا، ومسجون في قفص اعوجّت أعواده، بينما أسكنت من تحبّ قلبها في بيت اتّسعت أرجاؤه، وأغراها بهاؤه... لا بدّ أن تتحرّر يوما ما، وتنطلق إلى قفص من حرمت منها... وحتّى ذلك الحين، سأبقيك حبيسا عطشا... فتحمّل!".
    قال هذا، ويداه تتّخذان من حافّة الشّرفة متّكأ، فيما عيناه تحملقان في الطّريق الذي اعتاد مراقبته كلّ صباح، ونور البدر يضيء له آثار خطوات بهيّة...
    مرّت بضع سنوات، وثائر لا يحبّ الخوض في أموره الخاصّة، ولم يتردّد في إغضاب أمّه التي عرضت عليه كلّ شهر اسم فتاة؛ محاولة إقناعه بالزّواج؛ اعتقادا منها أنّه وَأَّدَ حبّ بهيّة، فكان يصرخ في وجهها: "بهيّة أو العزوبيّة!".
    قضى يومه الذي بدأ صباحه بتلهّف للقاء محبوبته في البيت، ورفض تناول الدّواء الذي وصفه له الطّبيب النّفسيّ إثر حالات الهيجان، والقلق التي كثرت في الآونة الأخيرة...
    لاحظ أفراد العائلة أنّ ريشة الفرح ترسم لوحاتها على وجهه، الذي جعل البؤس والعبوس منه وجه تمثال غاضب، يقبع تحت وهج الحرّ، ولسع القرّ، فسرّوا لذلك التّحوّل؛ اعتقادا منهم أنّ كُربته في طريقها للزّوال...
    حملق في المفكّرة، وفي التّأريخ الذي حوّطه باللون الأحمر، ابتسم وقال: ستبقى يوما مخلّدا... ففي مثل هذا اليوم اعترفت لبهيّة بحبّي، وفيه سأعترف لها ثانية، وستكون لي، لي وحدي أنا، وإلى الأبد...
    حام حول بيت بهيّة، ونقيق الضّفادع، وصوت صراصير الليل يعكّران صفو الجوّ، وضوء القمر يتأرجح بين الأشجار التي يطلّ منها، عندما يداعبها نسيم الليل. وحين يظهر النّور ينكشف ثائر، فيعلو نباح الكلب الرّابض أمام البيت، وحين يختفي، يخفت الصّوت.
    كان متأكّدا أنّه سيجد إحدى النّوافذ مشرعة، فتهلّلت أسارير وجهه، وفاضت بِشْرًا، وانهمرت دموعه فَرَحا، وازدادت خطواته ثقة... فالليلة سَيَفي بِعَهده...
    "يا لحظّي! شبّاك السّعادة يرحبّ بي، وبهيّة تنتظرني... سأخبرها بصدق مشاعري، وبِزيف حياتها... هل لا تزالين يقظة؟ أم أنّك سترتعبين عندما أوقظك في الظّلام يا غاليتي؟!... لا تغضبي منّي إذا ما أيقظتك من نومك، وأفزعتك".
    مدّت شجرة اللّوز فرعها صوب النافذة المفتوحة، وما احتاج سوى أن يقفز ليمسك بإفريز الشّرفة، ويدخل الغرفة... مشى بتُؤَدة على البساط الضّوئي الذي مدّه نور القمر في الغرفة، فرأى وجه بهيّة، وقد انعكس عليه ضوء المصباح الخافت بلونه السّحريّ، فزاد الوجه جمالا ورقّة... غازل فرحُ عينيه سحرَ جمالها... وبَغتةً، امتقع لونه، وكاد جمر ناظريه يعميه. فقد رأى ذراعين تحتضنان معشوقته... هاله ما رأى، فاستلّ سكّينه، وهوى بطعناته الهوجاء على الجسد الذي أغاظته ذراعاه. وخوفا على بهيّة أن تفزع ممّا ترى، وقبل أن يردّد المكان صدى صراخها ممزوجا بصوت حشرجة زوجها، أغمد السّكين في قلبها، وصرخ بدلا منها: سكّين العشق قتّال يا بهيّة!...
    أخت كاملة

    سكين العشق قتال...يقتل العشيق أو العشيقة...زمان كالقثل بحرارة الصبابة يهم العاشق بمحبوبته...يحفها بين رموش عينيه...لا يوذيها أبدا حتى و لو تجرع الموت من اجلها.
    فعروة بن حزام عاشق عفراء بنت عمه لا يعرف له شعر إلا في جبها. يوم تزوجت غيره ...مات حزنا و أرسل مناديا ينادي قرب دارها.
    يا أهل البلاط المنعم إليم ننعى عروة بن حزام.
    لكن حب صاحبنا ممزوج بالنانية المفرطة...حب مرضي إما أن يتملك معشوفته او يقتلها. ربما زمان ليس هو اليوم تغيرت الأحوال و تغير معها كل شيء.
    نص عاطفي بامتياز...و قصص الحب التراجيدية توجع القلب.
    دام الألق ليراعك.

  5. #5
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,786
    المواضيع : 391
    الردود : 23786
    المعدل اليومي : 4.14

    افتراضي

    سكّين العشق قتّال ..
    ولكن ليس دائما فهناك من العشق ما أحيا وإن كانت لغير عاشقه
    نص أثار الشجون واستحوز على ذائقتي بحبكته وتصاعد أحداثه رغم أن العنوان مع طعام الفطور كشف النقاب عن النص منذ البداية
    بوركت أديبتنا الرائعة على تلك الوجبة الدسمة على مائدة الأدب
    تحاياي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  6. #6
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,110
    المواضيع : 317
    الردود : 21110
    المعدل اليومي : 4.95

    افتراضي

    الحب الحقيقى هو تضحية وعطاء بلا حدود
    أما مانراه أمامنا فهو حالة من جنون العشق
    أو أنانية الحب الجنونى , وحب التملك ..
    أوحوا له أنها له منذ ولادتها فأحبها فى خياله
    وكبر وهمه معه فى كل يوم من عمره , فلم يستطع
    أن يستوعب أن تقول له لأ .

    قرأت هنا لأديبة متميزة , فجذبنى سحر اللغة
    وبراعة التعبير , وروعة القص ..
    طرح ماتع بجمالية أدبية مبهرة
    دمت عزيزتى والأبداع .

  7. #7
    الصورة الرمزية د. مختار محرم شاعر
    تاريخ التسجيل : Feb 2011
    الدولة : في بيتٍ ما
    المشاركات : 3,219
    المواضيع : 139
    الردود : 3219
    المعدل اليومي : 0.67

    افتراضي

    توقفت أنفاسي وأنا أقرأ هذه الرائعة أستاذتي
    أيفعل جنون الحب هذا؟؟
    أسلوبك السردي مذهل ويجعلنا نشاهد الأحداث بمخيلتنا
    تبعثين في الحروف حياة .. حتى وإن كانت هذه الحياة أفضت إلى موت بسكين العشق
    أأعذري تقصير أحرفي أستاذة كاملة..

  8. #8
    الصورة الرمزية مصطفى حمزة شاعر
    تاريخ التسجيل : Apr 2012
    الدولة : سوريا - الإمارات
    المشاركات : 4,424
    المواضيع : 168
    الردود : 4424
    المعدل اليومي : 1.01

    افتراضي

    أختي العزيزة ، الأستاذة كاملة
    أسعد الله أوقاتك
    - قصّة واقعيّة ، حتى وإن لم تحدث ، لأنّ مجرياتها ، وشخوصها ، وبيئتها ..واقعيّة .
    - تكاتف الوصفُ مع السرد مع الاسترجاع مع الحوار بنوعيه في حبكة هذا القصّة ، ومهارة القصّ عند الأستاذة كاملة
    تجلت في استخدامها تلك التقنيات بحرفيّة عالية ، وتقديمها بلغة فائقة البلاغة والإيحاء .
    - الومضة لم تكن باهرة مُفاجئة ، فما تقدمها من تسلق البطل المجنون بحبه واقتحامه غرفة المغدورين كان يُنبي بها .
    - الصراع كان خارجياً بين البطل وأهله ، وبينه وبين محبوبته . وداخلياً بينه وبين عواطفه الجارفة ، التي ذهبت به وبعقله !
    - لعبَ الحوار الداخلي - المنولوج - دوراً كبيراً في رسم ملامح البطل النفسيّة .
    - سكين العشق قتّال : عنوان فضح إلى حدّ بعيد نهاية القصّة ، قبل أن تنتهي ، وكان أيضاً ممّا أضعف الومضة ( القفلة ) .
    - سكين العشق قتّال ، وقتّالة كذلك ، فالسكين مما يُذكّر ويؤنّث
    تحياتي وتقديري
    * ملحوظة أرجو أن تكون فَكهة ... :
    - أختنا العزيزة الأستاذة سعاد لتعليقاتها طعمٌ مميّز ، فهي دائماً تُنكّهه بتجارب من بلدها ، أو من حارتها ، أو من تجاربها الحياتيّة ههه ، كما فعلت هنا في ردّها على قصّة الأستاذة كاملة ، وفي ردّها على ( منى ) للعبد الفقير محدّثكم ..و ( لأجلها ) لأديبتنا نادية .... وفي أماكن أخرى كما أذكر
    لاحُرمنا التميّز في هذه الواحة الغنّاء
    اللهمّ لا تُحكّمْ بنا مَنْ لا يخافُكَ ولا يرحمُنا
    التعديل الأخير تم بواسطة مصطفى حمزة ; 28-01-2013 الساعة 07:09 PM

  9. #9
    الصورة الرمزية نسرين بن لكحل أديبة
    تاريخ التسجيل : Jul 2012
    الدولة : تبسة - الجزائر-
    العمر : 37
    المشاركات : 1,250
    المواضيع : 31
    الردود : 1250
    المعدل اليومي : 0.29

    افتراضي

    أستاذتي الفاضلة كاملة:
    قصة موجعة قريبة من الواقع و ان اختلفت الشخصيات أو وقائع الأحداث، لكن شخصياتها،و أحداثها تشكل جزء كبيرا من مجتمعاتنا العربية،
    كان السرد جميلا و جذابا،جعلني أتابع بانتباه و تركيز.و رغم أن العنوان أوحى منذ البداية إلى نهاية مأساوية، لكن هذا لم يمنع حضور عنصر التشويق..
    "وطلبت من (الدّاية) قطع حبل صرّتها على اسمه؛ لتكون زوجا له في المستقبل"
    هنا معضلة عاشق واهم بنى آماله و أحلامه انطلاقا من رغبة سمعها و زينها في مخيلته، هي هكذا الأوهام اذا ملكت قلب صاحبها، تصبح جزء من واقعه الذي لا يقبل أن يعكّر صفوه أحد..
    "انتظر أسبوعا على رَمَض الشّوق؛ ليحقّق ما يبغي... "لا شكّ أنّ بهيّة تتراقص بهجة، وتزداد بهاء، وهي تسرّ لصديقاتها نبأ خطبتها ممّن يحبّها". حدّثته نفسه مطمئنّة. " سكوت الضحية كان مأساة ثائر ..بدل أن تتبادر إلى ذهنه الشكوك اعتبر صمتها قبولا نتج عن حياءها .. فالصمت ليس علامةالرضا في كل الأحوال.
    و كانت النهاية المأساوية زوج بريء لا يعلم مما كان شيئا، و بهية التي اختارت لنفسها من ترضاه. أما ثائر فدفع ثمن تخيلاته بضياع مستقبله و لذة انتقام ستورثه آلاما في سجنه..
    تحياتي لك أستاذتي الكريمة .و لحرفك الزاخر بالجمال.
    محبتي.
    إنّ في حسنِ البيَان حكمةَ للعقل تُرتَجى،و فُسحة للرّوح تُبتغى..

  10. #10
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2012
    المشاركات : 4,790
    المواضيع : 82
    الردود : 4790
    المعدل اليومي : 1.10

    افتراضي

    هي المشكلة في ثائر لاغيره , هو يعشقها لكنه لم يتفهم ولم يتحسس هل تبادله نفس الشعور أم لا ؟ وهذا هو السبب الرئيسي لحزن الآخر الذي قد يفقده العشق عقله فيرتكب جريمة شنيعة
    وأصبتِ في وضع كلمة ( العشق ) في العنوان لأنَّ الإنسان الطبيعي هو الذي يحب وهذا هو الوسط لاأن يعشق لدرجة الجنون ولا أن يتبلد حسه فيكون كالثلج أو كجلمود قاسِ
    شكرا لكِ أستاذتنا كاملة على هذا السرد المؤثر , والوصف البسيط الجميل القريب للقلب فقد رأيتُ المشهد بكلِّ تفاصيله أمامي
    دمتِ بحفظ الله ورعايته

صفحة 1 من 4 1234 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. سكّين قابيل
    بواسطة كاملة بدارنه في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 25
    آخر مشاركة: 14-12-2016, 08:29 PM
  2. عقابٌ مخلبي سكينٌ
    بواسطة عماد محمد اليونس في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 21-10-2015, 05:15 PM
  3. قتال الأيام
    بواسطة مصعب السحيباني في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 15-06-2010, 10:38 PM
  4. قاتلة بلا قتال !!
    بواسطة د. عمر جلال الدين هزاع في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 11-04-2009, 08:29 PM
  5. قتال بين الفكر والبال لكسب المال
    بواسطة داليا الفياض في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 16-08-2008, 08:42 AM