على شفا حفرة
..وأخيراً استجابت إدارة البلديّات لالتماس أهالي قرية" السروة" بتركيب عمودي إنارةٍ على طرفيْ مدخل قريتهم بعد انتظارٍ والحاحٍ دام عدّة سنين!
يومَها عاد ابو أحمد* مختارُالقرية - والتي أضحتْ على جانب الطّريقِ السّريع من وإلى العاصمة- عاد من مكتب البلدية منفرجَ الأسارير ويلوّح من بين يديه بنسخةٍ من الالتماس الذي ذيّله مديرُ البلدية بامضائه الذي يشبه رسمُه- كما علّق ظرفاءُ القرية- عجلاً بلديّا بلا رأس .!.كانت خطّة أبو أحمد ومعه أهل القريةِ أنْ يَصلوا بينَ عمودي الانارة بلافتةٍ عريضةٍ تعلو المدخلَ الوحيد للقرية ترحّبُ بالقادمين وتشيرُ إلى قريتهم بعبارةٍ تعريفيّة موجزة فهي قرية قديمةٌ تشخص فيها أطلالٌ لا تزال شاهدةً على أجيال عاشت في ذات المكان منذ قرون خلتْ ..
- بعد أسبوعٍ من الآن ستأتي لجنةٌ من البلديّة لتكشفَ على الَموقع قبلَ تركيب الأعمدة ..وقدْ أخبرتُهم بأننّي وأولادي الثلاثة سنتكفّلُ بأعمالِ الحفر بحُضورهم توفيراً للوقت..ليتمّ بعد ذلك تركيب العمودين بسرعة- هكذا خاطبَ المختارُ بحماستهِ المعهودة و جهاءَ القرية الذين ألحّوا عليه بالمساهمة في اعمال الحفر فأبى .
بعد أسبوع حضَرتْ لجنة البلديّة وكان في استقبالِهم المختارُ وأولاده الثلاثة ووجهاءُ القرية ..كانوا أربعة رجالٍ ترجّلوا من سيّارتهم ذاتِ الدّفع الرّباعيّ يتقدمُهم رجلٌ مكتنز اللحم يضَع نظّاراتٍ سوداء و يقبضُ ربطة عنقه بيده اليسرى ويبرقُ من بين أصابعهِ خاتمٌ ذهبيٌّ عريض..تقدم مصافحاً المختارَ وعرّف َبنفسه قائلاً: الله يعطيكم العافية.. انا رئيس اللجنة ..، تقدم الآخرون وعرّف كل منهم بنفسه :
- الله يعطيكم العافية .. أنا مسؤول السّلامة العامّة .
-الله يعطيكم العافية ..أنا مسؤول الجَوْدة.
- الله يعطيكم العافية ..و أنا مسؤولُ المحاسَبة.
رحّب بهم المختار ومَن حضر معهُ من وجَهاء القرية بعفويّتهم وكرمهم المعهود مع أنهم لا يُحيطونَ علماً بشيءٍ مما سمعوه من تلك المناصب والألقاب ..ثمّ هتف باولاده الثلاثة لتشتدّ قبضاتُهم وترتفع فؤوسُهم فيلمع بريقها بعدما انعكست عليها شمس الضحى.. ويبدأ الحفر، بينما تراجع أعضاء اللجنة مع ثورة الغبار.
..لم يمض وقتٌ طويلٌ إلا و الحفرتان قد اكتملتا ..قال المختار مخاطباً أعضاء اللجنة بصوتٍ متهدّج قطّعته زفرات التعب بينما يتحرّكُ صدرُه في عُلوّ وهُبوط وقد سحَّ عرقهُ : ..ها قدْ اكتملَ الحفرُ يا سادة..ونحن بانتظاركم غداً لتركيب العمودين لنحتفلَ معكُم وأهلَ القريةِ بهذا الحدثِ الّذي طالَ انتظارُه ونشكركُمْ عليْه!
ما إن أتمّ عبارته حتّى هتفَ مسؤولُ السلامة العامة شاهراً سبابته: مهلاً ..لا يجوز أن نترك الحفرتين هكذا مكشوفتين..؟لا بدّ من تركيب حواجزتحيط بأطراف الحفر لسلامة المشاة و الحيوانات ..
ردّ عليه مسؤولُ الجودة : ..وقبل تركيبِ هذه الحواجز،يجب التحقّق من مُطابقتِها للمواصفات.
هتفَ مسؤولُ المحاسبة: لايوجد عندناحتى الان ميزانية لتلك الحواجز..؟
هنا بذلَ مديرُ اللجنة خُطوتين ثقيلتين تقدّم بهما.. قابضاً ربطة عنقه بيديه وبريقُ خاتمه العريض قد انعكس على نظارته السوداء بينما ارتفع حاجباه فوق إطار النظارة قائلاً كأنما يجود بحكمة : علينا أن نعقد اجتماعاً ونعدّ تقريراً فنّياً ليتم تقديمه لاحقاً لرئيس البلدية في الاجتماع العمومي القادم ..!
كان المختارُ و أولادُه قد تيبّسَ عرقُهم على تضاريسِ وجوههم بعدما اختلطَ بالغبار وهم يتابعون العبارات المترامية ما بين أعضاء اللجنة...هنا تقدم المختارليطلب من أعضاء اللجنة ان يرتدّوا قليلا الى الخلف...أومأ لأولاده بإشارة،.. فثار الغبار مرة أخرى ولم تمضِ دقائق إلا و قد طُمرت الحُفر وسُوّت بالأرضِ كأنْ لم تكنْ...
وضعَ المُختارُ فأسَهُ عَلى كتفِه..ثمّ استدار ومنْ مَعهُ نحو عُمق القرية وهو يَهتفُ باللجنة : الله يعطيكم العافية ..!
*ابو أحمد و " السروة" أسماء وهمية