صُنع فى الصين
منذ أن أعلن الصباح قدومه، بنور باهت ثم ضوء خافت، ونسيمات عليلة ثم فجرت الشمس أشعتها المتوهجة معلنة بزوغها. دبت الحركة فى البلدة. وإسيقظ الكون بجميع أحيائه، بعد أن غمره ضوء الصباح. نهض أبى مبكرا وهرع خارج البيت يتفقد الحيوانات التي تعيش فوق سطح البيت، ويلقى لها بحزم من العشب، وبالقرب من سور الشجيرات المحيطة بالبيت تمتد الحقول، بساط أخضر لانهاية له . اعتمر أبى قبعته المنسوجة من القش، وحمل معاول الزراعة ومضى أركض خلفه متأملة استيقاظ الكون. تحلق فوقنا الطيور أسرابا تصفق باجنحتها مغردة بلحن الصباح، والفراشات الملونة، تهرب من أمامنا كلما توغلنا فى الحقول ناشرة الوانها الزاهيه مجملة لوحة الطبيعة. كنت أنظر على إمتداد البصر لا أرى سوى بساط ممتد من الخضرة. كنت أظن إنها كل العالم فعالمي صغير محدود، بلدتي وأبي وحيواناتنا القابعة فوق رؤوسنا وحقول الأرز الممتدة. أقضى جُل وقتي مع أبي، سماء ماطرة ورياح عاصفة ، كانت السبب فى رحيل أمى الأبدى. ذات ليلة أختفى فيها القمر، وتنفست الأرض زافرة غضبا محموما فوق سطحها. فاهتزت وانهارت فاختفت الأحياء مستسلمة لقدرها وغاصت تلتحف الركام.
عبرت مركبة، بلدتنا محدثة ضجيجًا عاليًا. جعل الجيران يطلّون من كوات بيوتهم يستطلعون الأمر .إ ن وجود المركبة هنا حدث بالغ الأهمية. بلدتي لاتعرف المركبات. هبط رجل منها لايشبه أهل بلدتي، يرتدى ملابس غريبة ويعتمر قبعة مختلفة. تحدث الرجل إلى أبى كان أحد أقربائى . رأيت أبى يهز رأسه موافقا وفرحا، فقد طلب منه أن يسمح لى بمرافقته إلى المدينة. لأعمل فى مصنع الملابس الجاهزة. فرح ودهشة وحزن اجتاحني. غادرت في المركبة الهادرة محركاتها. المرة الأولى التي أغادر فيها البلدة. كنت أطل من النافذة وأرى الأشياء تجرى إلى الخلف، فزاد عقلى اتساعا. فما زالت الصين كبيرة وواسعة، مازالت هى كل العالم في مخيّلتي..
بدأت الخضرة تختفى رويدا رويدا. وخيوط من دخان منبعثة، تتلوى فى الفضاء كانها راقصة ثملة فقدت إيقاعها .وأبخرة غير التي ألفتها تنبعث من روائح خانقة. حين وصلت حيث المصنع. ماهى إلا صباحات وأتقنت عملى الذى وجدته منظما ونظيفا. فحقول الأرز كانت مجهدة ومطّيّنة وشاقة. كنت أقوم بتعبئة السراويل الرجالية المصنوعة من النسيج صينى. وأضعها فى فى صورتها النهائية معبأة للشحن.
نسكن مجموعة من العاملات الصغيرات فى غرف مكتظة نلجأ اليها بعد أن نهدر طاقتنا فى العمل المضنى تحت رئاسة متسلطة، ونعود مع قليل من المرح نتبادله فى أوقات الاستجمام.
لقد أثرت الطبيعة التي الفتها منذ نعومة أظافري ووحدتي في مخيّلتي. جعلتني كثيرة التأمل. ولدى خيال خصب كنت أخاطب الأحياء من الحشرات والفئران وأتحدث إلى الطيور. والخراف والشجيرات والفراشات وأخالها تبادلنى الحوار .لاشى يعكر تأملى سوى صوت أبى يدعونى للذهاب إلى البيت..
جاءنى صوته هامسا : أمسحى على بيديك قبل أن أغادر.. فأجبته وأنا أتحسس نعومته: أتدرى إلى أين أنت ذاهب؟ همس بصوت منخفض: لست أدرى لعالم آخر. وضعت يدى عليه أتحسسه مودعة . وأخبره بوجهته التى نعلمها من جودة الصناعة.. مضت السفينة تتهادى فى طريقها إلى امريكا حيث تنتظرها محيطات وإمتدادات لترسوا فى سواحلها.
ياإلهى ماهذا الضجيج والإضاءة الساطعة. أنظر اليهم كيف يتأملونى، أيادى خشنة وقاسية لابد أنه من الكاوبويات يقف مزهوا ثم يمضى، ويأتى هذا الأشقر . ويتاملنى بعينيه الخضراوين ويتحسسنى ويمضى بى إلى غرفة القياس. أ صرخ وأتمزق ولم يدعنى حتى رفضت الصعود إلى أعلى جسده. إ نه بدين ولايعرف قياسه هؤلاء الأمركيون بدناء لقد سئمت غرفة القياس. أنظر إلى مؤخرته كيف تهتز وتقف فى سبيل صعودى.هذا البدين قفز قفزتين إلى أعلى ممسكا بى بكلتا يديه. يريد أن يحشر كل هذا الترهل فى نسيجى. يقذفنى داخل غرفة القياس ويخرج متذمرا ليأتى بآخر ويقفز فوقه ويلقى به وينصرف لم يجد قياسه. وتكومنا على الأرض نعانى من شروخ عملية التعذيب والإرتداء غصبا. أنا سروال متين متقن. صنع فى الصين، لو كانت رحلتى صوب إفريقيا لتمزق نسيجى من هشاشته، ولدارت معارك مع صاحب المحل البائس يعتقد أن الزبون تعامل بعنف، ولايدرى أن للصين مكيالين في الصناعة وإن التمزق ناتج عن ردائتها.... يد ناعمة تعيد ترتيبنا، وفك أسرنا من غرفة القياس الضيقة التي كادت أن تنفجر عندما كان يقفز هذا البدين ليغتصبنا .
أنه قادم نحوى، أشارت له إمرأة بسبابتها ذات الظفرالطويل المطلي. فتناولني وحشرني داخل كيس وخرج لاقياس ولاتذمر. أسمع أزيز وطنين وهدير وأصوات ولغات أخرى. أنا فى بلدة أخرى بعيدة، لقد كنت مكرفسا داخل صندوق. لفترة خلت إن أنفاسى ستخمد .هذا الرجل لم يدخلنى غرفة القياس، ألهذه الدرجة واثق من قياسه، أم أنه غريب الديار لم يهتم بالتفاصيل، ويبدو نحيفا لم يتناول البيرقر والبطاطا المقلية والببسى وهذه امريكا تغير مقياسك كل أسبوع.
إنها السعادة صعدت أعلاه دون قفز ومط وخربشة. لامؤخرة لديه ولامقدمة.قدمت له كهدية كان يتحسسني برفق. وعرفت لماذا لم أودع غرفة القياس. لم يعذبني في إرتدائه لى كثيرا.ولكن حلل نسيجى من كثرة الغسيل والصابون المعطر ودوران هذه الآلة المؤلمة التى تسمى الغسالة آه آه من المجفف وحرارته .لقد كاد أن يقضى على نسيجى ويفككنى.هؤلاء العرب يحبون الهدايا والشراء .زارامريكا وعاد وأمتعته مكدسة بالملابس.سمعت فى المصنع فى الصين أن سروال الجينز لايتمزق ولايغسل. ولكنى هرمت مبكرا فى بلاد العرب. دسونى مع كومة من الملابس بعد أن عطرونا ونظمونا. وكنت فرحا كانت معى ملابس نسائية فرنسية ماأجمل الرفقة، ولكن أبلاها الغسيل مثلي فهرمت. ولم تشاركنى الحوار، فاودعونا مؤسسة خيرية .
يالطول الطريق متى يصل هذا الرجل. إننا نمشى منذ يوميين منذ أن قذفتنا طائرة فى مكان مجهول. وهرع الينا أناس حفاة عراة واهنى الجسد. وقفزوا فوقنا يتقاتلون في الحصول علينا. وسعدت أن هذا القفز من هؤلاء الذين ليس لهم وزن، ماذا سيكون مصيرنا لوقفز فوقنا امريكى غرفة القياس لخسف بنا الأرض. مازلنا نمشى ونمشى....وكان جسده يفارقنى شيئا فشيئا حتى حدث فاراغا داخليا . أين ذهب؟ تلاشى من طول الطريق .جلس أخيرا.. آه.. آه جلس فوق حجارة وشوك إنها تؤلمنى صوت معذب همس.لى:..هيا.... أمشى ذلك خيرلك حجر صغير. جلست فوقه يئن ويتدحرج يريد الخروج من تحت المؤخرة الفارغة :تنحى قليلا أرجوك.. من أين أنت؟
أجبته من الصين.....سألنى: ماذا أتى بك هنا فى مجاهل إفريقيا؟ هذه منطقة حزام الجفاف لقد كنت صخرة كبيرة. فأرسلت شمس أفريقيا الحارقة أشعتها المتوهجة، ورياحها العاصفة، فعرتني الطبيعة القاسية. فأصابني هذا الضمور، وصارت الأقدام الحافية تمر فوقي، أصبحت حجرا صغيرا لافائدة مني ، ولا يرونى .ها هو صاحبك يجلس فوقي، دعه يتحرك أرجوك.صرخت محاولا دحرجته، لا تزعجنى أيها الحجر الغبىّ أ نا لاأتحسس جسمه، ليس له جسم، أحس أحيانا أنى معلق على حبل غسيل. والرياح تعبث بى . مضى يوم... ويومان والهيكل لايتحرك. ..والرياح تعصف، وسيل من الرمال يغطى جزء مني، لم أعد أرى أو أسمع. لقد دفنت . تمزقت أوصالى إنتزعت الرياح جزء منى تعلق بشجرة شوك. يتأرجح مودعا،وقد بدت تجرده منى قطعة قطعة..أتى القادمون وحفروا له قبرا مريحا، حتى لاتعبث الطبيعة بمكوناتها الجوية والحيوانية، برفات النازح الإفريقى. تلاشيت وذاب نسيجى مختلطا بتراب الأرض المجهولة .