دموع طائر( منظومة شعراً )
منذُ أعوامٍ وأنا أعملُ في إحدى محطّاتِ الأسفارِ إلى المجهولِ، ففيها مَنْ يمضي منها حين الترحيبَ بهِ، وهناك مَنْ يبقى حتى يأتي دورهُ في الرحلة. ومنِ العاداتِ لديّ، هوَ المشي إليها في الصُّبحِ الباكرِ، اعبرُ في سيري مُنتزهاً للروح .
فيهِ أشجارٌ ووردٌ تتراقصُ حينَ يهبُّ عليها نسيمُ الأصباحُ ، وما كان يُسعدني أنّ هناك عصافيرَ تأتي إليهِ طائفةً وكأنّهُ يبدو كعبتهم .
ألقيتُ بجسمي على العُشبِ الأخضرِ والعينانِ تنظرُ في الأشجارِ الممدودةِ أعناقها نحو سماءِ اللهِ، كأنّها تدعو الخالقَ تسبيحاً وجلالاً، يمتزجُ التسبيحُ بتغاريدَ عصافيرَ الفرحةِ والألوانِ، وبينما كنتُ استمعُ إلى الأنغامِ كأنّها لحنٌ ينقرُ قلبي يملأهُ طرباً وحبوراً، حاولتُ التفريقَ بين الأنغامِ كأنّي أُفرّقُ بين حروفِ هجاءٍ نسمعُهُ. أطلقتُ عَنانَ خيالي ليترجمَ تلك النغمات إلى لُغةِ الإنسان.
نظرتْ عيناي عصفورين على غُصنٍ قابلا رأسي تماماً وقريباً مني، كان إحداهم يغمسُ منقارهُ في ريشِ أخيهِ، لَست أدري هل تبدو مُداعبةً أو تفتيشاً عن قملٍ فيه.
إذ بعيني تسدلُ جفنَ الأحلامِ، عصافيرُ قلبِي تنصتُ أيضاً، قال الأوّل ذو اللون الأزهى : أتَرى هذا الإنسانَ هنا كُلَّ صباحٍ يستلقي فوق العُشبِ هذا ؟!، ، يبدو عليهِ سرورٌ أتُراه سعيداً دوماً ، أم يبدو عليهِ هُنا أكثرَ مِن أي مكانٍ آخر؟! أجابَ الثاني وهْو يرتجفُ قليلاً : إنّ الإنسانَ ليسعد للخُضرةِ في الأرضِ الخلّابةِ للروحِ كما نحن نسرّ بها، وقدِ اصطنعوا جِناناً في مُدنٍ عدّةٍ ليُسرّ بها حين الكربةُ تغزوه .
سألَ الأوّلُ: كيف ينشئها حيناً، ويدمّرها حيناً ؟! فترى زمناً يقطع الغاباتِ، يدمّرها في كُلّ مكانٍ، وهْي تمدّ الخَلقَ بألطفِ نسمة ريحٍ، تزيّنُ هذي الأرضَ، وفي مُدنٍ حَزَّ الأشجارَ ليغرسَ غابات الإسمنت ، ولوّث فيها هواءَ الأرضِ، وحتى زروعٍ من ذُرةٍ أو قمحٍ ... هيَ أغلى مِن ذهبِ الدنيا... بدّلها بعُشبٍ يمضغهُ ثم يتقيّأهُ رماداً مثل خُفاشٍ، أو ما يدري أنّا مَن ألهمهُ الطيران، فكان لهُ كنسورٍ فينا وصقورٍ؛ ترمي شُهباً يُحرقُ فيها الأرضَ معاً والإنسانَ بما فيها فناءهِ عِوّضاً أن يسعى لرخائهِ . كيف يسعى هذا المخلوقُ البشري أن يقتلَ نفسهُ بيديه ؟!
قال الثاني : يا أخي هذا الإنسان خليطٌ من الخير والشرّ، فالخيرُ نورٌ من نورِ اللهِ تسمو به نحو الأعلى، والشرُّ شهوةُ شيطانٍ، كلٌّ سكنَ الجسدَ الطينيِ هذا ، وكُلٌّ منهم تجذبُ ذاك الجسدَ المُضنى إليها كي ينصرها على الأخرى. هكذا يبقى صراعٌ بينهما حتى تهجرهُ الروحُ يوماً، مُتحررةً منهُ .
قالَ الأوّلُ: إني أمقتُ هذا الإنسانَ لِما يسمحُ للشهْوة فيهِ تدمير الأرضِ والنفسِ معاً، أو ما يدري أنّها ليست مِلكهُ وحدهُ، إنّها مَلك المخلوقات على الأرض جميعاً .
صمت الطيرُ قليلاً والعينُ تنضحُ حزناً منها، هبّ نسيمٌ داعبَ جفنيّ ، فرأيت العصفورين يقفانِ على الغصنِ فوقي تماماً. أحسستُ في خدّي قطرةَ ماءٍ تسري فوضعتُ السبّابةَ فيها، تذوّقتُ القطرةَ إذ بها مالحةٌ كالدمعِ، عندئذٍ لم أسطعْ أن أعرفَ هل كنتُ في حلمٍ أم علمٍ. لكنّي أدركتُ بأنّ الأرضَ أمُّ الخلقِ جميعاً، كلٌّ يحنو عليها إلا الإنسان .