عَزاء
توفى عديلي – رحمه الله تعالى - قبلَ أيام ، وكان لي أكثر من قريب ، كانَ أخاً كبيراً حيثُ لا أخ لي ، وكان رفيقاً مؤنساً في غربة الجسد والروح .
شاركتُ في الغسل والتكفين ، وصلينا عليه ، وحملته معهم إلى القبر ، وأنزلناه ، ولحدناه وأهلنا عليه الرمال . وفي صالتَي التعزية – وقدْ غُصّتا بالمعزّين والمعزّيات – راحت ذكريات عشرين عاماً قضيناها معاً تهطلُ على فكري وقلبي وحسّي ، فتهتز لها عيناي وأدمعي .. لقد لحفني فراغٌ قاسٍ شديد ، ولسعتني غربةٌ من نوع جديد !
في حضرة السجوّ المقدّس شطح بي خيالي ، طار بي إلى المدينة المنورة قبل ألفٍ و أربعمئة عام ، يوم قيلَ : انتقلَ الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى رأيتُ الصحابة الكرام وقد سمعوا بالنبأ العظيم واستشعرتُ صدمتهم وجزعهم بفقد المصطفى الذي كان ملء قلوبهم وعقولهم وعيونهم ، بأيّ فراغ رهيب شعروا، وبأيّ غربة تُركوا ، كيفَ ضاعوا فجأةً ! وأيّ ضياع !!
أدركتُ الحال النفسيّة التي عاشوها ساعةَ " انفجر المسجد بالبكاء ، فهذا علي بن أبي طالب أقعد، وهذا عثمان بن عفان كالصبي يؤخذ بيده يمنة ويسرة .. وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - دخل علي النبي واحتضنه وقال: وا خليلاه ، واصفياه ، وا حبيباه ، وا نبياه ، وقبّل النبيّ وقال: طبتَ حيّاً وطبتَ ميتاً يا رسول الله ! "
وأدركتُ أنّ الفاروق - رضي الله عنه – حين صاحَ بالناس ملتاعاً شاهراً سيفه : ( من قال إنه قد مات قطعت رأسه، إنه ذهب للقاء ربه كما ذهب موسي للقاء ربه وسيعود ويقتل من قال إنه قد مات .. ) أدركتُ أنّه كان لسان حالهم وقلوبهم جميعاً ..
ثمّ رأيتُ أبا بكرٍ يرتقي المنبر ويخطب في الناس : " وما محمدٌ إلاّ رسولٌ قدْ خلت من قبله الرسل ، أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم " " من كان يعبد محمداً فإنّ محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " فيهدأ الناس ولا تهدأ دموعهم ، ويهدأ عمر مُسلّماً ويرتمي أرضاً لا تحمله ركبتاه !
أدركتُ كم كان أبو بكرٍ رجلاً ، وأدركتُ كم كان مؤمناً .. وأدركتُ ثقله في دولة الإسلام الحديثة آنذاك .. كيف تماسك ، وكيفَ هدأ ، وكيف استحضر الآية ، وكيف خطب في الناس، وقد مات أحبّ الناس إليه ، ومَن كان هو أحبّ الرجال إليه : " دعوا لي صاحبي .. " .
ارتاحت نفسي وهدأ وجيبي ، حين شعرتُ بضآلة مُصابنا أمام مُصاب الصحابة بالمصطفى وحين تذكرتُ كيف عادوا بعدما فرغوا من تجهيزه ودفنه – صلى الله عليه وسلم – والتفتوا إلى تدبير أمر الأمة بعده ،حتى إنّهم سيّروا – بعد قليل - جيشاً منهم لقتال الروم !
حقاً إنّ لنا في وفاة رسول الله خير عزاء وأصدق مواساة ، وحقاً إن لنا من سيرة صحابته الكرام نجوماً نهتدي بها في السراء والضرّاء ...
اللهمّ صلّ وسلّمْ وبارك على حبيبنا وسيّدنا وقدوتنا محمد . اللهم ارضَ عن صحابته أجمعين واحشرنا معهم يوم الدين . اللهم أحببْ من يُحبّهم ، وحاسبْ بعدلك – لا برحمتك – من يُبغضهم . آمين .