من فنون الصّناعات الحرفيّة اللبنانيّة

بقلم: حسين أحمد سليم

يعود تاريخ فنون الصّناعات الحرفيّة اللبنانيّة في غالبيّتها إلى العصر الفينيقي, تطوّرت على مرّ العصور والحقب التّاريخيّة, وتفتّق ذهنيّة اللبناني عن إبتكار صناعات حرفيّة جديدة ومستحدثة, إتّصفت بالإبداع في التّصميم والتّقنيّة في التّصنيع, ممّا جعلها تتواكب وتتجدّد مع الأيّام...
وفنون الصّناعات الحرفيّة اللبنانيّة, هي مزيج خاصّ من الحرف التّقليديّة المصنوعة يدويّاً، ونذكر منها على سبيل المثال, الصّواني النّحاسيّة المطروقة والمزيّنة بالزّخرفة العربيّة، والسّكاكين ذات القبضات المصنوعة من قرون الحيوانات، والعلب الخشبيّة والمفروشات المحفورة، والحلي، وألواح صابون زيت الزّيتون، والفخّار والخزف، والمصنوعات النّحاسيّة، والأقمشة، والبياضات، والتّطريز, وأشغال الرّقش والمنمنمات, وغيرها من المنتجات.
هذا, وتشتهر غالبيّة المناطق اللبنانيّة المختلفة, بمساهمتها المميّزة في رفد الصّناعات الحرفيّة اللبنانيّة, بالكثير من تشكيلات هذه الصّناعات الحرفيّة الفنّيّة التّ{اثيّة والتّقليديّة, بما يعكس لمسات فنّيّة تشكيليّة تتجلّى في معالم الحضارة اللبنانيّة...
إكتشف الإنسان اللبناني خصائص الطّين و أدرك أنّ بإمكانه أن يقوم بتصنيعه يدويّا, ويجعله صلباً بتعريضه للنّأر, ثمّ إكتشف صناعة الخزف... والأرض اللبنانيّة غنيّة بهذه المادّة, وما على المحترف الفاخوري إلاّ أن يتعرّف عليها ويستعملها، بجميع ألوانها التّرابيّة وأينما وُجدت فوق الأراضي اللبنانيّة...
وكثيرة هي المدن والقرى التي قام البعض من سكّانها بصناعة الفخّار وإن بدائيّا... ومنها قرية آصيا اللبنانيّة في جبل لبنان قرب جبيل, حيث يتمّ صناعة الفخّار فيها يدويّا, وهي حرفة تقتصر اليد النّسائيّة العاملة, بحيث تتولّى النّساء الحرفيّات تحضير مختلف الصّفائح, القعر والجوانب الدّاخلية اللازمة, لتكوين الوعاء ثمّ تثبيتها بضغط الطّين بالأصابع من أسفل إلى أعلى... أمّا تحديد الشّكل النّهائي للقطع، فيتمّ من خلال التّربيت على الطّين بواسطة مطرقة من الدّاخل والخارج... هذا وتعمل النّساء الحرفيّات على إبتكار أواني الحساء و الأطباق و الصّحون البنيّة اللون المشهورة بمتانته و نقاوة أشكالها...
وتشهد قرية بيت شبات، شرقي بيروت في جبل لبنان، إستمراراً لحرفةٍ عرفت إزدهاراً طويلاً فيما مضى إذ لا تزال عائلة من الحرفيين, تصنع جراراً بإرتفاع متر, كانت تُستخدم قديماً لحفظ الزّيت والزّيتون و الخلّ والعرق و القورما و تساعد الفلاّحين اللبنانيين على حفظ مونتهم لقضاء فصل الشتاء...
وفي الجنوب اللبناني, وفي راشيا الفخّار شرقي مرجعيون, التي نجد فيها الدّواق, و هي عبارة عن أباريق من الفخّار, تحمل رسوماً هندسيّة, درج اقتناؤها في المنازل لتبريد المياه...
من جهة أخرى, وفيما يتعلّق بحرفة صناعة ونفخ الزّجاج, فتعود حرفة نفخ الزّجاج لصناعة أباريق تقديم الشّراب، وأباريق المياه والكؤوس الملوّنة إلى العصر الفينيقي، ولعلّ ما تمّ العثور عليه بين آثارات المدن اللبنانيّة السّاحلية خير دليل على عراقة صناعة هذه الحرفة, وهناك نماذج كثيرة معروضة في المتحف الوطني اللبناني ببيروت...
والمشهور أنّ مهارة نافخي الزّجاج الفينيقيين ضاهت ونافست مهارة الحرفيين البندقيين... ومن إحدى أشهر القرى اللبنانيّة بهذه الحرفة هي بلدة الصرفند السّاحلية, جنوب لبنان، حيث يُصنع الزّجاج المنفوخ من مواد مكرّرة، ويتوفّر بعدد من الألوان الزّاهية الشّفّافة والجميلة... هذا, وقد تطوّرت حرفة صناعة نفخ الزّجاج في لبنان, بحيث أصبح من الممكن الحصول على ألوان جديدة عبر مزج التقنيتين التّقليديّة والحديثة، كما يمكن صقل الشّكل والحجم حسب التّصميم المراد تنفيذه, وعلى أيدي مهرة بهذه الحرفة...
أمّا بالنّسبة لحرفة صناعة الصّابون في لبنان, فيكتسب الصّابون المصنوع من زيتِ الزّيتون، صابون لبنان التّقليدي، شعبيّة عالميّة بفضل نقاوته وميّزاته الترطيبيّة الطّبيعية... فإذا كان يُصنع تقليديّاً من الزّيت الخاصّ الذي تعصره كلّ عائلة من أشجار الزّيتون التي تملكها، فيتم نقش اسم العائلة على ألواح الصّابون بالعربيّة أو غيره من الرّموز، دلالة على نوعيّة الزّيت المستخدم، ومهارة صانع الصّابون، أو وصفته السّريّة...
وفي لبنان مناطق عديدة تشتهر بصناعة صابون زيت الزّيتون كمدينة طرابلس في شمالي لبنان, والكورة، وحاصبيا، وصيدا والشوف وغيرها... وبحسب تقاليد التّراث اللبناني، يشفي صابون زيت الزّيتون أكثر من داء, ويمنع من تساقط الشّعر، ويقضي على القشرة في شعر الرّأس, ويشفي من الإكزيما, الحساسيّة الجلديّة...
وفي الكثير من المناطق اللبنانيّة, يتمّ صناعة صابون زيت الزّيتون, بطريقة مميّزة وخاصّة, بحيث تمزج فيه تقليديّاً أنواع مختلفة من الزّيوت النّباتيّة، بواسطة تقنيّات مستوحاة من تقليد شرق أوسطي شمالي في صناعة الصّابون... هذا, وتشتهر معامل إنتاج الصّابون في بعض المناطق اللبنانيّة كطرابلس مثلا, بالزّيوت الخاصّة للتّدليك والمنتجعات الصّحيّة التي إستخدمتها الحمّامات التّركيّة...
ويُعدّ استخراج الملح من البحر الأبيض المتوسّط عند الشّوطيء اللبنانيّة, من التّقاليد القديمة في أكثر من مدينة وقرية لبنانيّة ساحليّة... ومن بينها، قرية أنفة اللبنانيّة الشّماليّة، الموقع التّاريخي والحالي لإنتاج الملح في لبنان, ومن النّوعيّة الممتازة والصّالحة للإستخدام في الطّبخ...
هذا, ويستخدم الملح البحري اللبناني في الحمّامات لفوائده على البشرة والجسد... وغالباً ما تُعطّر الأملاح بالزّيوت الخاصّة لإستخدامها في علاجات المنتجعات الصّحيّة أو الأكياس المعطّرة التي تُوضع بين الثّياب وفي الخزائن...
ولقد نشأت تقليديّا حرفة صناعة القشّ القروي من الحاجة لإستعمال المواد المحلّيّة لصناعة بعض المنتوجات العمليّة للإستخدام اليومي... وما زال هذا التّقليد سارياً في عدّة مناطق لبنانيّة لصناعة بعض المنتجات بأشكال وأحجام مختلفة...
وقد نشأت في السّنوات الماضية حركة متنامية هدفها إعادة إحياء تقنيّات صناعة القشّ التي تصل الإبداعات الحديثة بالجذور اللبنانيّة... ففي بلدة عمشيت اللبنانيّة، تقوم إحدى المحترفات, بإحياء تقنيّة قديمة جداّ, تقوم على صناعة أوراق النّخيل لإنتاج قطع مفروشات بغاية الجمال, تناسب المفروشات العصرية... وفي عكّار، شمالي لبنان, يستعمل بعض السّكّان النّباتات المزروعة محليّاً لصناعة بعض المنتجات الحرفيّة. فيما تصنع في قرى أخرى السلال من البامبو المحليّ المسمّى بالعود... وتتضمّن بعض المنتجات اللبنانيّة المصنوعة محليّاً سلالاً، وقبّعات، وبسط من القصب وأوراق النّخيل وشرائح قضبان القصب الذي ينمو عند ضفاف الأنهار وخاصّة في الجنوب اللبناني...
أمّا المنسوجات في لبنان, فتتميّز ببساطة نقوشها وشكلها الهندسي ورموزها المستوحاة من الطّبيعة اللبنانيّة... ويستخدم الكثير من أهل القرى في حرفة صناعة النسيج اليدوي آلة النّول... ونشأت في أكثر من منطقة لبنانيّة منظّمات إجتماعيّة، أنشئت تعاونيّات نسائيّة لإحياء تراث حرفة صناعة النّسيج... مساهمة في إحياء نمط الحياة التّقليديّة مع مربّي المواشي ورعاته الذين يوفرّون الموادّ الأوّليّة للنّاسجات...
وتشتهر بلدتا عرسال و الفاكهة في البقاع اللبناني بصناعة المنسوجات من بسط معقودة و سجّاد, حيث يُصبغ صوف الحمل و الماعز بصباغٍ خفبف, ويُغزل بعدها و يبدأ النّسيج...
أمّا فيما يختصّ بحرفة الحفر على الخشب في لبنان, يصنع الحرفيون اللبنانيون منتوجات جميلة من خشب أشجار الزّيتون، المشهور بطول عمره وحبوبه الطّبيعية الجميلة... حيث يقوم حرفيوّ هذه الصّناعة بينقش الصّناديق والمفروشات الخشبيّة المصمّمة بعناية ويُطعّمونها بالصّدف, أو بقطع صغيرة من الخشب الدّاكن أو الفاتح اللون... ومن المنتجات الشّعبيّة المسابح وأباريق الماء، التي تمثّل تذكارات عمليّة من صناعة الحرفيين في لبنان...
وفيما يتعلّق بحرفة وصناعة فنون التّطريز في لبنان, فهذه الحرفة الشّعبيّة, تُعتبر من العلامات المميّزة في التّراث اللبناني، والتي ينتج عنها مفارش المائدة والأسرّة المطرّزة بإتّقان... وتُعدّ أعمال فنون التّطريز من الحرف المنزليّة التي تناقلتها أجيال النّساء، وطوّرنها طوال أشهر وسنين, عملن جاهدات مع الإبرة والخيط والقماش خلال أيّام السّنين المتعاقبة...
وفي بعض القرى اللبنانيّة، هناك تقليد موروث, يُجيز للشّابّات بعد الإنتهاء من تطريز أغطية أسرّتهن, أنّهنّ أصبحن على جهوزيتهنّ للزواج... وتتنافس النّساء في لبنان لإنتاج أفضل الإبداعات، والتّشكيلات والتّقنيّات في فنون التّطريز...
وتتداخل الفنون التّطريزيّة في الهندسة المنزليّة الدّاخلية، من خلال إنتاج بعض الأغراض, كالوسائد واللوحات الجداريّة، و كقطع بعض الملابس، والحلى، والحقائب اليدويّة، والكفوف وأغطية الرّأس, وغيرها من أغراض الزّينة للنّساء...
أمّا بالنّسبة للأواني المنزليّة, فإنّ الصّواني النّحاسيّة المطروقة, تُعتبر من الأساسيّات في لبنان، إذ يُصادف وجودها في كلّ الأماكن, في الأسواق القديمة مثلا, وفي ردهات المقاهي العصريّة, وتُستخدم في أرقى المجالس وفي غرف الإستقبال في المنازل... وتُستخدم هذه الصّواني، في ضيافة القهوة، و الشّاي و الحلويات التي تقدّم
عليها، وترمز إلى ثقافة الإسترخاء اللبنانيّة مع ما يُصاحبها من فنون التّرفيه...
ويقوم الحرفيّ النحّاس بطرق الصّواني النّحاسيّة الحمراء والصّفراء بأحجام وأشكال مختلفة وزخرفة أطرافها برسوم ومنمنمات ورقوش عربيّة... وتشتهر لوازم المائدة من النّحاس الأحمر والفضّة, التي تُصنع في بعض قرى لبنان, كبلدة القلمون الشّماليّة, بطرازها الشّرقي، وزينتها التي يتمّ طرقها يدويّأ... و أهمّ لوازم المائدة كالسّكاكين مثلا, فيتمّ صنعها في قرية جزّين الجنوبيّة... بحيث يقوم الحرفيّون بتطعيم السّكاكين الجزّينيّة المميّزة بقبضاتها المصنوعة من العظم بقطع من الذّهب، والفضّة، وغيرها من المعادن الثّمينة... وغالبا ما تأخذ القبضات شكل طاووس أو طائر وتطلى بألوان زاهية... هذا, وتحظى هذه السّكاكين بسمعة طيّبة, ممّا جعلها تُقدّم كهدايا مميّزة للشّخصيّات المهمّة في لبنان وخارجه...