أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: عندما يأتي المساء .. قصة قصيرة

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Dec 2004
    المشاركات : 20
    المواضيع : 10
    الردود : 20
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي عندما يأتي المساء .. قصة قصيرة

    “عندما يأتي المساء”


    في المساء، ترى ذلك الزقاق الصغير مملوءاً بالمارة العائدين من جولاتهم كالمعتاد، تلتفت يمنة ويسرة، ترى الكثير من المشاهد المتكررة يوميا، مجموعة من الصبية الصغار يعدون بعضهم خلف بعض، يتضاحكون بصوت مرح، الأصوات الصاخبة ترتفع من مقهى صغير في وسط ذلك الزقاق وبيوته الحجرية القديمة، قد ترفع ناظريك أحيانا مثلي فتحملق في الوجوه التي اعتادت الجلوس في ذلك المقهى، عندها ترى ملامح أعمل الزمن فيها فأسه، تتخيل أن ثرثرة الرجال ستصبح مخلوقاً خرافياً بإمكانه القضاء عليك أينما كنت.
    اعتدت أن أمرّ أمام ذلك المقهى وأنا عائد من عملي. رائحة القهوة تفوح لدرجة تظن معها أنها تطبخ في أنفك، يأسرك تدفق الحياة في الزقاق فتقترب أكثر وأكثر من المقهى وتنظر إلى أرجائه بتمعن، هناك على مقعد خشبي تراه جالسا في أواخر الخمسين من عمره، تقوس ظهره ووهنت ملامحه، تقترب منه تجده وحيدا، كلا، لم يكن وحيدا هناك، كومة كبيرة من الجرائد القديمة موضوعة على الطاولة بجوار كوب الشاي يقرؤها بنهم شديد، في البداية كان أهل الزقاق ينظرون إليه بحذر، يتفحصون ملامحه التي أصبحت مهددة بالخريف، يحاولون التوغل إلى عينيه الحادتين، محاولاتهم تفشل، كثيرون جازفوا بالاقتراب منه، تحدثوا معه، سألوه عن كومة الجرائد التي ينهال عليها بالقراءة كل مساء، فلا يتلقون إلا تحرك شفتيه برنين متصل، بكلام غير مفهوم، حسبما يترجم الكلام إلى عقولهم، يتحدث عن أشياء قد تبدو بالنسبة إليهم خارقة، مجهولة، خفية. مع الأيام ابتعدوا عنه، نفروا منه، أصبحوا ينظرون إليه بتوجس وخيفة، أحدهم قال إنه ليس من أهل الحي، وآخر أقسم أنه يراه يختفي في الظلام عندما يترك المقهى، ولا يصعد إلى بيته الذي نراه نازلاً منه في الصباح.
    ظل هكذا سنوات وسنوات حتى كثرت الشائعات حوله، تناقلتها الأفواه، فاختلطت بعضها ببعض، وجعلت منه شخصية مستعصية. طوال السنوات كنت أرمقه في شغف، أتابعه بولع مكبوت، وعيناي تحدوهما الرغبة في النظر إليه والجلوس معه، أسمع الهمس الذي يدور حولي، فيتفاعل في أعماقي ويتحول إلى ما يشبه الحكايات التي كنت أسمعها من جدتي، مثيرةً في خيالي الفضول والخوف معا. أتذكر أنني حينها كنت في الثانية عشرة من عمري، كثيرا ما أحاول الاقتراب منه، أتفحصه بعيني، لم يلحظ نظراتي، ولكن تكرار قدومي ووقوفي بجوار المقهى جعله يدعوني للجلوس معه، ترددت ولكن لهجته كانت أقرب إلى الأمر، دفعني الفضول إلى المجازفة، فجلست.

    تكررت اللقاءات بعفوية وكان بعضها جلوساً صامتاً، والأخرى كلاما أفهم أقله، لكنني وكأنني كنت على دراية من قبل بهذا العالم الذي يمثله هو، فلم أشعر بغربة من عدم فهمي للكثير مما أطلع عليه. عَلِم والدي بالأمر فمنعني من الخروج من المنزل، ولكنني عدت إليه بدافع من الاحتياج الشديد بسبب الفراغ الذي بدأت أشعر به تجاه نفسي قبل أن أتعرف عليه. شعرت بأن هناك شيئاً ما يربط بيننا، ربما في الملامح، أو نبرة الصوت والأفكار، عشقت جرائده العتيقة التي أكل الدهر منها الكثير، ويكاد يأتي على ما تبقى. لم يحتمل والدي عصيانه، فضربني حتى كاد يسبب لي عاهة، ولولا والدتي لكنت في عداد الموتى، وأخيراً وجدت نفسي أنسحب بالرغم مني. مرت الأيام كعقارب الساعة، لم أستطع إيقاف الثواني أو الدقائق، صحيح أنني حاولت أن أتعثر في عقاربها المسرعة ولكنني كنت أتراجع وأنفاسي اللاهثة تعبّر عن سخطها بمحاولاتي العديدة الفاشلة.
    أعود من الكلية عند المساء، أجده جالسا على مقعده، أتمعن في ملامحه، وأرى كيف يحتضنه الزمن بوداعة، شعر أبيض، وسَكينة لا نهائية. يرفع رأسه، يلمحني، أخفض عيني، أنسحب إلى منزلي، أنفاسي تتابعه في لهاث متقطع، وصورته تغزوني، ودائما أحاول أن أبعدها عني بيدي، دائماً وبلا فائدة.
    تخرجت في الجامعة بامتياز، شدتني الحياة إليها بكل مفاتيحها ومغاليقها، رحت أغوص في كل شيء جميل فيها، وقبيح أيضاً، تزوجت وابتعدت عن الزقاق. مرّت السنون، حتى شعرت بأن الزمن قد تمكن من رأسي ولم تعد لأفكاري أي فائدة، فاستبد بي الحنين إلى الزقاق، وراحت قدماي تقوداني إليه. وجدت المقعد خاليا، سألت عنه، فأكدوا أنهم لم يروه منذ مدة طويلة، حتى أنهم شككوا من الأصل في وجوده بيننا. شعرت بأن مقعده يناديني، فأصبحت كلما يأتي المساء أحمل كومة جرائد أشتريها من بائع متجول للأشياء القديمة، وأنكبّ على قراءتها سطرا سطرا، .. أهل الحي يرمقونني بنظرة رأيتها من قبل، يسألونني أسئلة ليست غريبة عليّ، حتى إذا كان ذات مساء رفعت رأسي فإذ بي ألمح طفلاً في نحو الثانية عشرة من عمره ينظر إليّ بفضول، فأعود إلى تفحص جرائدي كما كنت أفعل كل مساء.

  2. #2
    الصورة الرمزية د.جمال مرسي شاعر
    تاريخ التسجيل : Nov 2003
    الدولة : بلاد العرب أوطاني
    العمر : 67
    المشاركات : 6,096
    المواضيع : 368
    الردود : 6096
    المعدل اليومي : 0.82

    افتراضي

    سعدت بهذه ايضل أيتها القاصة
    المتمكنة فاطمة المزروعي
    فحينما أشرقت شمس هذا الصباح و وقعت عيني علىمن
    ≈حكاية قديمة مستمرة،
    و عندما يأتي المساء ..
    غصت في أعماق كلماتك فإذا بقاصة جميلة تحمل كل أدوات الإبداع تنتسب لواحتنا الجميلة
    أشكرك على كل لحظات المتعة التي عشتها مع كلماتك هذا الصباح

    و تقبلي الود

    د. جمال
    البنفسج يرفض الذبول

  3. #3
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Dec 2004
    المشاركات : 20
    المواضيع : 10
    الردود : 20
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي

    مساء الخير د. جمال ..
    تحية طيبة ..

    انني سعيدة للغاية بتعليقك الجميل على قصتي، اعتبر كلماتك هذه بمثابة تشجيع لي للكتابة في هذا المنتدى الرائع ..

    تحياتي لك ..

  4. #4
  5. #5

  6. #6
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Aug 2003
    المشاركات : 684
    المواضيع : 55
    الردود : 684
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    ماذا أقول؟
    جميلة؟
    لا
    رائعة؟
    لا لا
    بل هي أكثر

    أختي الكريمة "فاطمة"
    أسلوبك مميز

    أعجبتني بشدة " عندها ترى ملامح أعمل الزمن فيها فأسه"

    والنهاية كم كانت مفاجئة
    وجميلة

    شكرا لقلمك المتمكن
    بانتظار فيض منه فلا تأتل

  7. #7
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Dec 2004
    المشاركات : 20
    المواضيع : 10
    الردود : 20
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي

    ما أجمل أن يجد الانسان من يشاطره كتابته وهمه الأدبي !
    شكرا لاساتذتي الأدباء على مروركم الطيب على قصتي ..
    قرأت التعليقات ..
    وأعجبتني ..
    وهي اعتبرها مصدر تشجيع وفخر لي ..

  8. #8
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2012
    المشاركات : 4,790
    المواضيع : 82
    الردود : 4790
    المعدل اليومي : 1.10

    افتراضي

    حقا أسلوب مميز وخيال رائع تجعلينا نبحر معك ونغوص لأعماق الحرف كأننا من أشخاص القصة
    تقديري

المواضيع المتشابهه

  1. عندما يأتي الخريف
    بواسطة محسن العافي في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 16-01-2017, 10:07 PM
  2. قصة قصيرة :- عندما زارنى الشيخ فى المنام
    بواسطة سامح عبد البديع الشبة في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 06-06-2013, 07:58 PM
  3. ( عندما لا ينصهر الجليد ) قصة قصيرة ... بقلم محمد محمود م
    بواسطة محمد محمود محمد شعبان في المنتدى مَدْرَسَةُ الوَاحَةِ الأَدَبِيَّةِ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 21-04-2012, 01:37 AM
  4. بإنتظار طيف قد لا يأتي \ زياد جيوسي
    بواسطة زياد جيوسي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 04-11-2005, 06:10 PM
  5. عندما يأتي المساء
    بواسطة عبلة محمد زقزوق في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 24-09-2005, 08:15 PM