الإبتكارت الفنّيّة من المعالم الطّبيعة
ومن رحم الحاجة يولد فعل الإبتكار والإختراع

بقلم: حسين أحمد سليم

نشأ وترعرع منذ وعيه في بيت قرويّ ريفيّ بقاعيّ, وشبّ في كنف أبوين فقيرين, رغيفهما كفاف يومهما... أبواه وجدّاه يعملان من الفجر إلى النّجر في فنون الفلاحة القديمة والزّراعة التّقليديّة, على مدى إمتدادات وفجاجات سهل البقاع, غربي مدينة الشّمس, عند الطّرف الغربي لمجرى نهر الليطاني التّاريخيّ, الذي يقسم سهل البقاع إلى قسمين: غربي يمتدّ حتّى حضيض سلسلة الجبال الغربيّة, وشرقي يمتدّ أيضا, حتّى حضيض سلسلة الجبال الشّرقيّة, تتوزّع في رحاب القسمين من السّهل الإهراء, العديد من البلدات والقرى والمزارع والمراحات الرّيفيّة...
جدّاه وأبواه كانوا يصطحبونه معهم صغيرا ويافعا, يمتطون صهوات الدّواب من حمير وبغال وجمال وخيل, ويُحمّلونها متاعهم وزادهم اليومي, وصولا إلى رحاب السّهل... ليتركونه يلهو ويلعب بالتّراب والحصى, ومياه نهر الليطاني, وملاحقة النّحل والفراشات الحوّامة فوق الأزهار والورود, والإستمتاع برؤية العصافير وقبّرات الحقول, وهي تمارس طيرانها البهلوانيّ في الفضاء, ومراقبة فنون بناء أنواع أعشاش الطّيور ومخابيء الخفافيش الليليّة, وطيور الغربان والبوم واليمائم, المتوارية بين المزروعات وبين أغصان وأوراق الأشجار, ومتابعة ومراقبة حشرات العناكب الصّغيرة, وهي تنسج بيوتها الواهية من الخيوط الفضّيّة اللامعة تحت أشعّة الشّمس, وممارسة تعقّب الزّواحف المختلفة, وفراخ الأفاعي الصّغيرة واللعب بها, وقطاف الأزهار البرّيّة وورود السّهل, كالأقحوان وشقائق النّعمان وبخّور مريم والبابونج وغيرها, وجمعها وتجفيفها لصناعة الأشكال المتعدّدة منها, بأسلوب اللّصق على الورق المقوّى... وحيث جدّاه وأبواه, من جهة أخرى, يُمارسون فنون الفلاحة القديمة, بواسطة ثورين من البقر أو بغل قويّ, مستخدمين أدوات الفلاحة التّراثيّة, المحراث والسّكّة والمسّاس والنّير والصّمِدْ والمشحاف والفطّامة والرّسن والقطريب... والتي أصبحت منسيّة وإنقرضت مع دخول أدوات الفلاحة الآليّة الحديثة, وأصبحت من تراثيّات متاحف حضارة القرية القديمة...
وكانوا يومها, جدّاه وأبواه, يقومون بفنون الزّراعة اليديويّة التّقليديّة, بحيث يقوم جدّه وأبوه, بتعبئة الخرج بالحبوب, وحمله على الكتف, وبذر الحبوب في التّربة, بعد أو قبل فلحها وتعريضها لأشعّة الشّمس, لتموت ديدانها, وينتظرون إنتهاء فصل الشّتاء وقدوم فصل الرّبيع, لتتفتّق الحبوب, وتشقّ التّراب, وينبت الزّرع وينمو, فيما هم يقومون بفنون الزّراعة الرّبيعيّة من بذور وشتول الخضار والبقول والبطاطا والبصل والملفوف والقنبيط والثّوم والبطّيخ والخيار والقثاء واليقطين والقرع... بإنتظار حلول فصل الصّيف, ونضوج الحبوب في سنابلها, لحصدها وجمعها ونقلها إلى البيادر المعدّة لتكويمها, ومن ثمّ درسها بواسطة النّورج, الذي يجرّه دورانيّا ثور أو بغل, حتّى ينتهي الدّرس والتّنعيم, إلى فصل الحبّ عن القش, وتخزين كلّ مادّة وفق ما يرونه مناسبا للإستخدامّ...

في هذه الأجواء القرويّة الرّيفيّة التّراثيّة القديمة, ترعرع ونما عوده, وشبّ منذ صغره, ميّالا لفنون الإبداع والإبتكار في الرّسم والتّشكيل والنّحت والتّصوير... متأثّرا بالمحاكاة بداية, بما كان يراه, من فنون ومشهديّات مختلفة ومتنوّعة من حوله في القرية وسهولها وهضابها وقمم جبالها وطرقاتها وحواكيرها...
تعلّم من نسج العناكب لبيوتها الواهية بالخيوط الرّفيعة, بتلك الأساليب الهندسيّة الدّقيقة, ولم يكن يُخطّط ليكون يوما ما, رسّاما هندسيّا مبدعا في تقنيّاته التّشكيليّة, وفنّانا تشكيليّا, مبتكرا وخلاّقا في إبداعاته الفنّيّة, تيمّما ومجارة لتلك الفنون البسيطة, المبتكرة من قبل أستاذته ومعلّمته الأولى العنكبوت, التي كانت أوّل من ناصر محمّد في غار ثور...
وتعلّم فنون التّشكيل والتّجسيم من فنون بناء العصافير, لأعشاشها وبيوتها وأوكارها, من مختلف العيدان والقشّ والأوراق وبقايا الشّعر, بتلك الطّريقة الفنّيّة المميّزة والمبتكرة, والتي مهّدت له الطّريق وسهّلت له, لتقنيّات فنون الأشغال اليدويّة والمرونة في إبداعات صناعتها, فكانت لقبّرة الحقل دورها الرّياديّ في تكوين مهارته في الأشغال اليدويّة...
وتعلّم من مياه مجرى نهر الليطاني التّاريخيّ, التي تنساب هادئة في مجراها الضّيّق, كيف يصبر على فعل التّشكيل والنّحت, وإستخدام الحجارة والحصى والتّراب والطّين في المكان الأجمل لمنحوتاته, وما زال يُكنّ ذلك التّقدير لمياه مجرى نهر الليطاني, ويزور ضفاف ذلك النّهر دوريّا...
وتعلّم من بدائع صنع الخالق في الطّبيعة, كيف يقتبس فنون التّصوير, بإختياره لأجزاء من المشهديّات الطّبيعيّة العريضة, ولم يكن يُدرك أنّ هذا الفنّ هو من فنون التّصوير البانورامي الحديث...
وتعلّم صناعة الأشكال المختلفة, من الكرتون والورق المقوّى, من جدّته التي كانت تستفيد من كلّ أنواع وبقايا الأوراق والكرتون, وتحاول الإستفادة منها, بصناعة أشكال مختلفة تستخدمها في قضاء حوائج المنزل, وتقوم بتزيين زواياه ببعض منها...
وتعلّم ممارسة فنون القصّ واللصق والتّركيب, للعديد من الموادّ المتوفّرة له ومن حوله, مقتبسا هذه الفنون من أمّه التي كانت تستفيد من بقايا أقمشة الملبوسات المستهلكة في صناعة الطّراريح والمساند والبسط والسّجّاد, ولم يكن يدري يوما أنّ هذا الفنّ هو من مدارس الفنون التّشكيليّة الحديثة, وهو ما يُسمّى بفنون الكولاّج...
وتعلّم من الفراشات كيف ينتقي أجمل الورود وأزهاها, لينعم في النّظر إليها متعة للعين لترفل لها, فكانت معايير له ومقاييس في قراءة فلسفة الجماليّات فيما بعد, لنتاجات الفنّانين والتّشكيليين...
وتعلّم من أسراب النّحل كيف يمتصّ من مياسم الأزهار والورود خلاصتها ورحيقها, لصناعة العسل, وحفظه في أقراص شمعيّة منتظمة هندسيّا, وهو ما كان له الأثر البالغ في مسلكه الفنّيّ الهندسيّ والتّشكيليّ, حيث ما زلا يقوم بتقليد النّحل في تشكيل أقراصه المنتظمة هندسيّا في أشكال ترفل لها العيون...
وتعلّم من الزّواحف كيف يرسم له, مسارات ودروب ومتاهات, يتوارى في نهاياتها عن الأنظار, إذا ما حدّقت به الأخطار, فتعلّم منها فنون اللجوء إلى التّقيّة والتّخفّي عند الضّرورة...
وتعلّم الكثير الكثير, من الأفاعي, رغم الخشية منها, والخوف والفزع, والتي كان يُلاعبها دون أذيّة, وتلاطفه بحنوّ وليونة, وتنام بين يديه وفي أحضانه, وتشاركه فراشه ووسادته ولحافه... تعلّم منها اللطافة والليونة وفنون الإنسياب النّاعم, كما وتعلّم منها كيف يجب أن يمارس اللدغ القاتل إذا ما تعرّض للأذيّة... فكانت الأفعى معلّمته المميّزة في فنون العلاقات العامّة...
وتعلّم من تراب الأرض, أنّه إذا لم تُشقّ بالمحراث, ويُبذر في قلب ترابها الحبوب لتموت, لم ولن ولا تتفتّق تلك الحبوب من رحم الموت, وتشقّ التّراب وتنمو, وتتضاعف حبوبها في السّنابل...
وتعلّم الصّبر على المشاقّ والتّعب, من ثوريّ الفلاحة, اللذان كانا يُجهدهما جدّه من الفجر إلى النّجر, في حركات فعل الأشغال الشّاقّة بالفلاحة للأرض اليابسة...
وتعلّم العناد في قناعاته, من عناد حمار جدّه, الذي كان يُمارس عناده, ساعة يشاء, وعلى مزاجيّته, ومدى فلسلفته التّحليليّة للمشهديّات, التي كانت تتراءى له, ويقوم بدرسها فلسفيّا, وبسرعة بديهيّة عجيبة... دون أن يعلم أو يتناهى لمداركه يومها, أنّ الحمار الذي يُنعت زورا وظلما بالغباء, هو ذلك المهندس القديم للطّرقات الجبليّة وإنسياباتها المنتظمة وميولها وإنحناءاتها وأكواعها الإنتقاليّة, والذي سبق فيه الإختصاص العصري لفنون هندسة الطّرقات... ولم يكن يُدرك يومها, رغم حبّه للفرس والحصان, أنّهما يتمرّغان في الوحول والمياه الآسنة, بينما الحمار لا يتمرّغ إلاّ في التّراب النّاشف وفوق الحشائش...
وتعلّم الإستنباط والإبتكار من أبيه, الذي كان يتفكّر بإختراع الأدوات التي تتطلّبها مهنة الفلاحة والزّراعة, وتعلّم من أمّه كيف كانت تأتي بصنوف من التّراب ذات الألوان الأبيض والأحمر والبنّي والأصفر من محافر القرية, وتمزجه بالماء بنسب مزاجيّة, وتقوم بطرش ودهان الحوائط والجدران والأبواب للمنزل في القرية... وتعلّم من تجاربه الصّبيانيّة, بمزج التّراب بالماء بنسب معيّنة, للّعب به مع أقرانه, وتشكيل المنحوتات الطّينيّة, فإستنبط ألوانه التّرابيّة الأولى, وإستخدمها في صباغ وتلوين رسوماته وشخبطاته الأولى, ويعود الفضل في تفتّح فنونه اللونيّة إلى أمّه, ولم يكن يُدرك يوما أنّه سيبتكر أسلوبا ونمطا تشكيليّا في الرّسم بالألوان الحرّة فقط...
ثمّ راح يقوم بتجاربه على خلاصة عصائر أوراق الورود والأزهار البرّيّة, ذات الألوان الزّاهية المتعدّدة... حيث بدأ تجاربه في تلوين الصّور الفوتوغرافيّة القديمة ذات اللونين الأسود والأبيض, وإستطاع من خلال تجاربه المتتالية, ورغم منيانه بالفشل مرارا وتكرارا, إستطاع أخيرا تحقيق نجاحاته فيما ذهب إليه, مبتكرا ومخترعا أسلوبها ونمطه الخاصّ به, في عمليّات تلوين الصّور القديمة بألوان خلاصة عصير ألوان الورود والأزهار الزّاهية... بحيث يقوم بجمع كمّيات من الورود والأزهار المختلفة الألوان, ويقوم بإستحلاب عصارتها الملوّنة, ويحفظها في أنابيب وزجاجات خاصّ, لإستخدامها في نلوين صوره...
وكان يُتابع جدّته وهي تقوم بقطاف وتجميع أزرار الورود من النّوع الجوري, وأزهار البابونج, وأزهار الزّوفا, وأوراق القصعين, وغيرها, وتعمل على تجفيفها في الظّلّ, ثمّ حفظها لإستخدامها فيما بعد في صناعة الشّاي والزّهورات في صباحات ومساءات أيّام الشّتاء... فكانت جدّته القائدة له والمدرّبة له في فنون تجفيف أوراق وأزهار الأشجار, والورود البرّيّة المختلفة, لصناعة لوحاته الخاصّة والمميّزة, دون أن يُدرك يومها, أنّ ما يقوم به, هو فنّ من الفنون النّادرة...