أنماط الطّبقات وفنون الرّسم الرّقمي

بقلم: حسين أحمد سليم

ما قبل إستخدامات الحواسيب الشّخصيّة, والبرمجيات الرّقميّة الهندسيّة والفنّيّة المختلفة والمتعدّدة, والمهيّأة للإستخدامات السّهلة في إعداد وتشكيل, تقنيّات فنون الرّسم الهندسي بجميع تفرّعاته, والرّسم الفنّي بكافّة أنماطه وأنواعه, وعمليّات معالجة الصّور الرّقميّة وغيرها... أيّ ما قبل العام 1982 للميلاد, حيث بدأ ظهور وإستخدامات الحواسيب الشّخصيّة فيما بعد هذا التّاريخ, والتي قلبت الكثير من المفاهيم التّقليديّة, والموازين والمعايير المتّبعة في التّقنيّات, التي كانت سائدة فيما يتعلّق بتقنيّات التّصاميم والدّراسات الهندسيّة, وتقنيات فنون تشكيل الرّسم الهندسي والرّسم الفنّي وما يستتبعهما من أنواع وأنماط, كان يتمّ الإعتماد فيها على أدوات وخامات معيّنة, بعفقات وحركات الأصابع وتمسيداتها للأقلام والمساطر والأدوات القديمة, التي غدت من التّراثيّات المتحفيّة اليوم...
ما قبل نهايات القرن السّالف, وما قبل الثّمانينات منه, كانت فنون تشكيل الرّسم الهندسي, وكذلك الرّسم الفنّي, بأنواعهما وأنماطهما, كانت تستهلك وقتا طويلا من الجهد كي ينتهي الرّسّام الهندسي أو الفنّي من إستكمالها... بحيث كان يتّبع أساليب معيّنة ودقيقة في عمليّات التّوقيع, وتوزيع عناصر التّفاصيل في فنون الرّسم, إلى ما يشبه الطّبقات, ما بين وجهيّ ورقة الرّسم في حال كانت من الخامة الشّفّافة... فيضع ما هو من الثّوابت التي لا يطالها التّعديل أو التّغيير أو التّبديل, كطبقة أساسيّة, على وجه من ورقة العمل, وكان يُفضّل في ذلك الوجه الخلفي, فيما كان يقوم برسم ما يُتوقّع, ما يطرأ عليه من تعديل أو تنقيح أو تبديل أو ما شابه, كطبقة كذلك, إنّما على وجه الورقة الأساسي... ويتحوّل الأمر إلى صعوبة مع الأوراق غير الشّفّافة, كالوق المقوّى وورق الرّسم المعروف...
وكان الرّسّام الهندسي المتخصّص في ذلك الوقت يستخدم الأدوات الهندسيّة التّقليديّة, والتي كانت وما زالت معروفة, كالأقلام التّحبيريّة وأقلام الرّصاص وأقلام التّلوين والمساطر الهندسيّة ومساطر الأشكال والرّموز وغيرها... رغم ندرة وجودها وإستخدامها اليوم, مع شيوع أجهزة الحواسيب وبرمجيّاتها الرّقميّة... وكان الرّسّام الهندسي أو الفنّي, يستخدم أنماطا متعدّدة من سماكات الخطوط, تتوزّع من الرّفيع إلى السّميك فالغليظ, ومنها الشّكل الممتد والموصول والمنقوط والمتقطّع والمنقوط المتقطّع والمرموز والمتكسّر والمزدوج... فيما كان يُستخدم لتغطية المساحات, أسلوب التّنقيط الخفيف أو الكثيف, وأسلوب التّظليل الخطوطي المتقارب أو المتباعد, بواسطة مساطر الزّوايا أو بواسطة آلة التّسطير الميكانيكي... إلى جانب إستخدامات أوراق رماديّة أو ملوّنة أو تحتوي على رموز ومصطلحات وحروف وأرقام وغيرها... إنّما شفّافة ورقيقة, كان يتمّ إستخدامها لإبراز جوانب معيّنة في عمليّات إعداد وتوقيع اللوحة, سواء كانت هندسيّة أو فنّيّة أو تجاريّة أو إستعراضيّة أو إعلانيّة... وكانت الأحبار الصّينيّة السّوداء والملوّنة, هي قوام فنون الرّسم الهندسي والفنّي يومها, إلى جانب أقلام الرّصاص المختلفة والمنوّعة القساوة والطّراوة والليونة... وكانت كتابة الشّروحات والعناوين والملاحظات تتمّ إمّا باليد من قبل الرّسّام, أو بالإعتماد على مساطر حروفيّة ورقميّة وأدواتها الملحقة بها...
هذا, وكانت المشكلة تكمن في عمليّات التّنقيح والتّعديل والتّبديل... فإذا كانت بسيطة, كان يلجأ الرّسّام الهندسي إلى إستخدام شفرات الحلاقة المعروفة, في عمليّة الحكّ فوق الورقة الشّفافة, لإزالة العناصر المطلوب تعديلها, أو تنقيحها أو تبديلها أو إلغائها, وإعادة الرّسم مكانها, بعدما يتمّ تنعيم وجه الورقة في المساحة التي تمّ حكّها, حتّى لا تتشرّب مسامّها الحبر بشكل يُفسد جودة الرّسم والتّوقيع, ويُشوّه ملمس الورقة لجهة الرّسم فوقها... وغالبا ما كانت تتمزّق ورقة الرّسم تحت تأثير كثرة أو شدّة الحكّ, ممّا يتطلّب ترقيعها أو رتيها بقطعة من نفس خامتها, يتمّ لصقها مكان القسم التّالف بواسطة الورق الشّفاف اللاصق, بعد إجراء عمليّة قصّ دقيقة... أمّا إذا كانت عمليّات التّعديل واسعة ممّا يتسبّب في سرعة تلف الورقة, أو الورقة لا تتحمّل عمليّات الحكّ المنهكة, لكثرة ما تعرّضت له من حكّ, فكان الرّسّام الهندسي يقوم بإعادة الرّسم مجدّدا, أو كان يلجأ إلى سحب نسخة شفّافة عنها, بواسطة طابعة توقيع خاصّة, تستخدم موادّ كيميائيّة من الأمونياك, تحت تأثير ضوئي وحراري معيّن, بحيث تنتشر منها رائحة نفّاذة ومؤذية...
من ناحية أخرى, كثيرا ما كان الرّسّام المتخصّص, يقوم بتصنيف عناصر لوحة الرّسم إلى مجموعات تشكيليّة فنّيّة متجانسة فيما بينها, وبرسم كلّ مجموعة بلون معيّن على ورقة شفّافة منفردة... فيتجمّع لديه عدد من الأوراق, بمثابة طبقات معيّنة, كلّ طبقة تحمل مكوّنات تشكيليّة معيّنة ومدروسة بدراية, يتم لصقها فوق بعضها البعض, في نهاية العمل, بالإعتماد على نقاط ثابتة وزوايا مشتركة فيما بينها, لتأتي متطابقة بمجموعها وفق ما أراد لها الرّسّام... وهي عمليّة مجهدة ومكلفة وعمليّة وليست مرنة كفاية... ولكن كان لا بدّ من إعتمادها عند الضّرورة... وكانت عمليّات توثيق وحفظ هذه اللوحات, يتطلّب خزائن خاصّة من الخشب أو الحديد أو معدن آخر على شكل جوارير, يتم حفظ اللوحات فيها, بعيدا عن الغبار والرّطوبة والحرارة, لحين الحاجة إليها... وكثيرا ما كان يتغيّر لونها مع مرور الوقت, ويميل إلى الإصفرار والنّشفان, ممّا يستدعي التّعامل معها بكثير من الدّراية, حتّى لا تتشقّق أو تتمزّق وتُفتقد معلوماتها...
إنتشرت الحواسيب الشّخصيّة وشاع إستخدامها, والبرمجيّات الملحقة بها, ولجأ الكثير إلى شرائها وتشغيلها والإستفادة من قدراتها... وإعتمدت المؤسّسات والشّركات والمكاتب الهندسيّة على هذه الآلات الحديثة وملحقاتها, في عمليّات تحسين جودة وتقنيّة نتاجها, إلى جانب إختزال الوقت وكسب السّرعة المتوخّاة في تنفيذ مشاريعها... وهو ما فتح المجال واسعا, أمام الرّسّام الهندسي والفنّي, لتوظيف إمكانيّة هذه الحواسيب في خدمة جودة وتقنيّة نتاجه, في مجالات فنون التّشكيل والرّسم الهندسي والفنّي وغيره... معتمدا على حزم من البرمجيّات الرّقميّة المتخصّصة, في شؤون ومعالجة فنون الرّسم, وتشكيل اللوحة الفنّيّة والهندسيّة بجودة عالية, وتقنيّة مميّزة... وهو ما دفع هذا الرّسّام إلى تطوير كفاءاته بالمحاكاة والتّدريبات على إستخدامات هذه الحواسيب وبرمجيّاتها, لتصنع منه شخصيّة تقنيّة عصريّة, باإعتماد على ثقافته الفنّيّة والهندسيّة التّقليديّة, بحيث أنّ هذه الحواسيب والبرمجيّات الرّقميّة لها, ليست إلاّ أدوات مساعدة على نتاجات الجودة والدّقة, ولا يمكن إعتبارها بديلا للمستخدم لها, أو عوضا عن المهندس أو الرّسّام, مهما بلغت حداثتها وتقنيّة برمجيّاتها...
ومع إستخدامات البرامج الرّقميّة المتطوّرة, الهندسيّة منها والفنّيّة على السّواء, مع أجهزة الحواسيب الشّخصيّة الثّابتة والمحمولة والهاتفيّة, توفّر للرّسّام الهندسي والرّسّام الفني, ومعالج الرّسوم التّصويريّة, الكثير من التّسهيلات في عمليّات نتاج لوحته, هندسيّة كانت أو تشكيليّة أو فنّيّة, أو تصويريّة... وقدّمت له هذه البرامج الرّقميّة, العديد من المكوّنات الرّقميّة المبرمجة مسبقا, والمدمّجة في برامج خاصّة, بذكاء صناعي مميّز وفريد, وسريع التّجاوب والمحاكاة, مع تسهيلات في الشّروحات المساعدة على التّدريبات والمحاكاة... ومنها مسألة التّخلّص من مشكلات محدوديّة الطّبقات, بحيث صار بإمكان الرّسّام الهندسي والرّسّام الفنّي, التّحكّم بخلق عدد لا حصر له من الطّبقات الضّوئيّة, وتوزيع عناصر مكوّنات لوحته الهندسيّة أو الفنّيّة أو التّصويريّة عليها, وتصنيف وتبويب هذه الطبقات, وحفظها في لوائح مخفيّة للوحته الهندسيّة والفنّيّة, الحاسوبيّة الرّقميّة, وفق ما يراه مناسبا, في سرعة تناولها كيفما يشاء, والرّجوع إليها ساعة يشاء, وإجراء التّعديلات أو التّنقيحات أو تبديلها, وفق ما يتطلّب عمله الهندسي أو الفنّي... مع إختيار حزمة واسعة من الألوان, وحزمة واسعة من أنماط الخطوط, وحزمة واسعة من أشكال الحروف, وباللغة التي يريد, وإستخدامها بأدوات هندسيّة مختلفة ومتنوّعة, إنّما ضوئيّة... ممّا يعطيه الفرص الكثيرة في عمليّات الجودة والدّقة والإخراج والتّكامل في لوحته الهندسيّة أو الفنّيّة, وهو ما ترتاح له العين كشكل عام, إضافة للدّقة والجودة والنّظافة والسّرعة والتّحديث في تقديم المعلومات...
وبالإطار العام, يستطيع الرّسّام الهندسي أو الفنّي أو التّصويري, أن يعتمد لكلّ عنصر من عناصر مكوّنات لوحته طبقة خاصّة, سواء أكانت هندسيّة أو فنّيّة أو تصويريّة أو تشكيليّة, ويمكن له أن يجمع عدّة عناصر متجانسة في طبقة واحدة, وذات لون واحد, ونمط خطوطي واحد... ويعود للرّسّام الهندسي, تحديد عناوين وأسماء وسمات طبقاته, ومن المفضّل أن تأتي تسميات الطّبقات بما يرمز لمحتواها... بحيث تُسمّى كلّ طبقة بما تضمّ من مكونات وعناصر... فللكتابة طبقة مثلا, وللعناوين طبقة, وللمقاييس طبقة, وللخطوط الممتدّة والموصولة طبقة, وللخطوط المنقوطة طبقة, وللخطوط المقطّعة طبقة, ولكلّ لون طبقة, ولكلّ رمز طبقة, ولكلّ شكل طبقة, ولكلّ سماكة خطّ طبقة, ولكلّ مكوّن، طبقة... هذه الإجراءات في تشكيل وخلق وتنظيم طبقات متعدّدة في لوحة الرّسم, تساعد الرّسّام الهندسي والفنّي والتّصويري, وتتيح له إمكانيّة التّسهيلات اللازمة والكافية, في جميع العمليّات اللاحقة, والتي قد تتطلّب من الرّسّام الهندسي والفنّي, العمل بها تنقيحا وتعديلا وتبديلا وإصلاحا وتحديثا...