لم يكن الأستاذ كمال لديه بد من النوم المبكر. كونه يدرس في ناحية قروية نائية، جعل الرتابة تكون موجزا لحياته، بل عنوانه الشخصي وهويته. اِلْـتَحف بلحاف تنبعث منه رائحة الموت، فكم عانق هذا اللحاف في ليالي بائسة رغم المرح الذي كان يصطنعه مع زملائه لمراوغة عقارب الساعة. هذه الليلة اضطر للبقاء بمفرده في مسكنه هذا، وهو عبارة عن جحر ضيق، وقد مل القراءة و سماع المذياع الذي لا يذيع شيئا جديدا مفيدا أو مسليا.
حاول أن يغمض عينيه ويستسلم لبساط الريح يأتيه النوم في صفته عسى أن يأخذه في رحلة شيقة ممتعة. تظاهر بالنعاس وابتكر الأحلام وشرائط حيوات كان يفضل لو كانت حياته واحدة منها.
لم تدم نشوته الخيالية مدة طويلة إذ فجأة أحس بحركة في مسكنه الترابي. أطرق سمعه لعله يدرك ما يقع بجواره. الحركة لم تهمد فتمكن منه الخوف. وما زاد رعبه تأججا بزوغ ضوء ضعيف تسلل منه شعاع تحت اللحاف الذي كان يغطي رأسه.
أُُزيح عنه اللحاف أخيرا وأ ُرغـِـم على الجلوس وإذا به يرى ثلاثة أشخاص قد التفوا حوله، الأول تمثل أسدا، الثاني ثورا أسود والثالث ثورا أحمر. خيل إليه أنه هو الثور الأبيض الذي أ ُكـِل سابقا. حاول أن يستغل جمود الأسد لإقناع الآخرين أن مصيرهما لن يخالف مصيره إذ لم يتحدا معه. صرف الأسْوَد نظره هازئا و كأن الأمر قد ﻘُطِﻊ، فلا بديل عن تطبيق ما جاؤوا من أجله. تودد للأحمر أن يصغي إليه فصرف هو الآخر عنه وجهه إلى جهة الأسد الذي كان يصمم على إبقاء عينيه مغمضتين. فصنع مثله الأستاذ كمال وأبقى على عينيه مغمضتين. كان حينها يبرهن لنفسه أنه لا زال نائما وأنَّ ما يراه الآن مجرد حلم وأنه قد أثرت عليه تلك المسافة التي قطعها في نزهة حول الدواوير تلك النزهة التي رأى فيها قطعانا منتشرة من الأبقار ترعى وقد راقه منظرها. اعترف أنه كان مخطئا حينها لما سمح لفكرة تنط بذهنه مفادها أن الأبقار أسعد منه.
مد الثور الأحمر رجله فركله ولم يصرخ كمال ولم يحاول أن يفتح عينيه وقال: لا أنا في حلم وعلى عيني أن تبقيا مغمضتين مهما كان.
توالت الركلات منهما معا، الأسود والأحمر، واستغرب الأستاذ كمال للثورين لم يخورا إلى حد الآن، فخار بدلا منهما كأنه يستغيث بهما ويوقظ فيهما الهمم والشهامة وهنا استيقظ السبع ولم يزأر بل خار مثل خوره وكأنه يلمزه. شرع الثلاثة يقهقهون بصوت متحشرج مريب زاد كمالا روعا على روعه. ثم اختفى الضوء أخيرا وعاد اللحاف إلى جسم كمال الذي أرغم على التمدد ليلفه اللحاف حد الاختناق، فأحس أنه يحمل على محمل وأن لا مفر من موت هو فيه. حاول تحريك سبابته للتشهد فاستعصى عليه الأمر وأيقن أنه قد مات وأن لحمه سينهش وعادت إليه صورة البقرات التي كانت ترعى مطمئنة البال وقال في نفسه: أجل إن الأبقار أفضل مني حظا، و الخرفان و الماعز أيضا.
ظل يردد هذه العبارة وجسمه يُنْهَشُ حتى النخاع في حفرة هاوية جدا.
ما كان لكمال أن يعود للفصل في الصباح الموالي إلا شبحا حتى إن تلاميذه لم يكونوا يحسون بوجوده رغم زعقه وتوبيخه وسخطه ووعيده، بل كانوا طوال الوقت في هرج ومرج لا يبالون بشيء، وتمنى لو يأتي زائر يعيد الوضع إلى إطاره الطبيعي، يأتي ولا يأتي.
غير أن في الساحة المترامية الأطراف للمدرسة، بالغت شياه هي الأخرى في الثغاء وهي لا تكف عن الحركة الثورية، محتفلة بيومها العالمي، فاليوم كان الخامس من تشرين الأول.
فاس في 27 أكتوبر 2011
• اليوم الخامس من تشرين الأول عيد الأستاذ ببلادنا.