أنا رجل ... قررت أن أتزوج غزة
بحر غزة يتبعني بغربتي
أينما سرنا, أو سافرنا هنالك دوما بحر يمشي معنا, بحر من الأفكار يسكن في داخلنا ... بحر من الأحلام يبدد وحشة غربتنا ... بحر من العشق يفجر ركود عواطفنا ... ولبحر العشق أمواج تضرب في كل الاتجاهات .

بحر من المياه يحمل كل الأسماء والألوان, بحر ابيض كقلوب الناس ... بحر أحمر كدم الشهداء ... بحر اسود كرايات الحداد على الهنود الحمر الذين أفناهم من رفعوا تمثال الحرية فوق الجماجم ...

مذ كنت طفلاً كان هنالك دوما هاجس يتبعني ويقول لي أن بحر غزة أحمر, لم أكن جاهلا في الجغرافية الطبيعية, إلا أني كنت أتغاضى عن هذه الحقيقة التي تقول أن غزة مثل صور وصيدا و يافا وحيفا وعكا التي قهرت جيوش نابليون على البحر الأبيض, لأني دوما أحاول أن أميز غزة بلون يحمل بين ثناياه لون الدم, والدم رمزية تضحيات ولون يحبه الشهداء... وغزة كانت مثلاً أعلى حمل كل الشهداء ... لم اشهد بحياتي مدينة قدمت شهداء بهذا السخاء مثل غزة.

كنت دوما حين يقول مدرس التاريخ أن الجزائر بلد المليون شهيد يتملكني من كل جسدي الغضب, أحاول أن اكسر قاعدته التاريخية و أقول:
بل غزة أستاذ, ولكن الأستاذ كان يصُّر على أن الجزائر بلد المليون شهيد.

هذه الصور البسيطة لغزة التي لم أزرها يوما, ولم تمنحني الأيام فرصة لقاء بحر غزة بكل ما يملك هذا البحر من تقلبات وتصورات وحنية وعنفوان بذات الوقت, هذا البحر الذي دوما تصورته أحمرا من صبغ دماء الشهداء, هذا البحر الذي يحسن قراءة كل الأشياء.

لا يعرف أن يصمت, و أمواجه دوماً متلاطمة تمنح أهل غزة العنفوان والصمود الأسطوري بوجه كل محاولات التهجير والتقسيم والإخضاع والتذليل التي انتهجها كل من كان رئيس للوزراء لدولة الكيان الغاصب حتى جعل الغبي رابين يتمنى أن ينام ويصحو فيجد البحر قد ابتلع غزة, أي غبي هذا يتمنى أن يبلع البحر أهله.

لم أزر بحر غزة يوما لكن ... بحر غزة لحقني إلى غربتي وكشف عن وجهه الأسطوري الذي حمل ملامح أنثى بين ثناياه ... بحر غزة كان أنثى أسطورية يلاحقني مثل ظلي أينما ذهبت ...
عنقاء خرجت من تحت ركام البيوت المدمرة في رفح ... طائر برق حمل كل أمنيات المدينة التي تدخل عامها الجديد ...
غزة التي رآها العرب (بابا نويل) الذي يحمل لهم في ليلة الميلاد ما يشاءون من غضب وثورة في كيس (بابا نويل) ليلة الميلاد...
تمنح العالم مقاتلين والعرب نائمين ... تمنح فلسطين شهداء وهؤلاء العرب سعداء ... تمنح العدو لعنات من غير أن يجد أي منهم مكان للاختباء ...

دوما الكل ينتظر غزة ... وغزة لا تنتظر أحد ... دوما البحر الأنثى في غزة يعطي الحب ولا ينتظر أن يعطيه أحد الحب ...
دوما بحر غزة كان أماً طاهرة لكل الشهداء ... دوما بحر غزة كان أنثى عذراء كالسيدة العذراء لا ينجب إلا أنبياء, من غير أن يمسسها بشر ...

غزة التي لم أزرها, تبعني بوجه أنثى, لفَّحتني بالكبرياء
أعشقها لأنها تعد لي القهوة كل صباح, وتفتح المذياع في السابعة في غرفة يملأها رائحة الملل والزمان المستعار في الغرفة لتهديني صوت فيروز ...
تأتيني غزة من غير موعد, أسمع من بعيد هدير قادم .. أمل فوق التصور, يصاحبه صوت فيروز كل صباح مثل القهوة المرة والمرأة ... تسميني المرآة ...

صوت فيروز وقهوة مرة في صباح معتم من جراء تلبد الغيوم التي تغار من أن يبللني بحر غزة ... وأنثى هي البحر بعنفوانه وضجره من البلادة ...

تحسن قراءتي وتجبرني أن افضح أشواقي حين أترجمها حروفاً أنثرها في كل مكان, يقرأها كل إنسان ...
غزة التي رأيت ببحرها الأنثى جاءتني دون موعد مسبق, ومن غير حتى تدق الباب, أعلن تبنيها لغريب في بلد غريب ...

سألت الأنثى البحر: كيف علمتِ بوجودي في هذا الزقاق المعتم في الغربة ؟
قالت : أنا أنثى مبحرة في حزن الغرباء, أسمع دوما من يبكي وطناً في الغربة وأنا افضل من يحسن سماع النداء...
أنا أنثى تقن قراءة الكلمات بكل اللغات ... أهب نفسي أماً لمن لا يملك أماً في الغربة, وأتبنى كل الفقراء ...
أنا أنثى وهبت نفسها عاشقةً لكل غريب نسي طعم العشق, أنا أنثى علمتها الأيام أن يكون لها قلب تقسمه قسمين, قلب يمنح عشقا للغرباء المسكونين بحزن الغربة, وقسم يمنح شجاعته للمقاتلين والشهداء.

الأنثى التي جاءت من غزة من غير موعد, حملت لي معها هدايا ليلة الميلاد, أجراس وحلوى ووجوه كل الأصدقاء ...

الشيء الجميل أني أصبحت مكتشفا حين قابلت أم الفقراء هذه كباقي المكتشفين العظماء من أمثال كريستوفر كولمبوس, لقد اكتشفت أن لهذه الأنثى اسما أخر غير البحر, بحر أسمه الابتسام ... بحر من الفرح الطويل استقبل سفن الأجداد القادمين من جزر البحر المتوسط, قدم لهم تحيته الأولى ... أطلق طلقات المدفع الواحدة والعشرين ترحيبا بقدوم الزوار, وفي الناحية الأخرى كان بنو كنعان يشدون الرحال نحو غزة ... وكانت غزة تلبس أزهى الثياب لاستقبال القادمين من جزيرة العرب يحملون الهدايا والغضب, يبحثون عن بلد يمنحهم الوطن والكفن والسفن والمدن والغضب, وكانت وجهتهم باتجاه فلسطين...

كانت ابتسام البحر في تلك اللحظات تعد قصيدتها, لتصف فيها زحف الثوار , كانت الابتسام تهبهم روح الإنسان الأول الذي يسكن الوطن ... كانت تعلم القادمين الصبر وبحور الشعر, وتحذرهم من غضب البحر وكيف يحترمون الموج حين يلامس خد الأنواء...

أنا رجل قرر أن يتزوج بحر غزة ويصارع معه الأنواء ... وكتب معه شعراً ويتحدى معه سطوة الأعداء ...
أنا رجل قرر أن يكون بحر غزة له وطن.

أنا رجل قرر أن يتزوج الأمواج في السر والعلن... وأن أعلن تحدي قرارات مجلس الأمن بعزل غزة عن العالم ... أنا رجل قرر أن يتحدى كل قرارات الجبابرة المتسلطين ...

أنا رجل قررت وأنا بكامل قواي العقلية وبكامل الأهلية أن أتزوج امرأة أسمها بحر غزة ...

غزة التي لا تزال تعلم الأعداء دروساً في التشريع الكوني ... وأن الغزاة مهما طال ليلهم لا بد من نهاية تسحقهم ...
غزة علمت الجند من قبلهم أن البداية لا بد أن تصبح في يوم نهاية ... وأن النهاية التي انتهى فيها الغزاة الأوائل مهزومين, كانت في يوم بداية مثل بداية الغزاة الذين جاءوا بعدهم وضاعوا بأمر غزة في صحراء مصر ...
غزة التي تزوجتها قصيدة كتبها في لحظة عشق هذا البحر ...
غزة التي عشقتها هي التي علمتني أن أكسر فوضى الغربة لأكتب قصيدة شعر ...
غزة التي ذبت في أمواجها أعطت دروسا للصامدين في أرضها في فن الصبر ...
غزة التي عبدتها كما عبد المصريين القدماء اله النيل وكما عبد الإغريق إله الحب ...
كان غزة شركي وصنمي الذي أشركت به ليقربني إلى الله الذي يكبر الشمس والقمر ...
كانت غزة الكلمة الأولى في كتابي المقدس ... كانت غزة لي دستور الحياة ...
غزة التي اعشقها كانت ابتسام وليد لحظة لقاء أمه ... غزة التي أعرفها لم يعرفها إلا القليل الذين كانوا مثلي ... يحسنون قراءة عشق البحر ... ويعشقون وجه القمر.

يا من علمني أحبو حين كنت طفلا ... ومنحني عشقا حين صرت رجلا ... امنحي غزة قبل أن يغزوني الشيب ... امنحني الابتسام في لحظات كآبتي في الغربة ... في لحظات تشدقي بالأزمان, وفي ضجر الإنسان حين يفارق الإنسان ...

يا حامل غيم المطر إلى الأرض العطشى بالماء ... امنحني بحر غزة لحظة, فليس سواه يستطع أن يوصلني حد الارتواء ...

كيف جاءتني الأنثى بحر غزة ؟
حين عجز الآخرون عن تبديد غربتي وإعطائي متسعا للوقت كي أحدد قامتي ... كنت أنكسر باتجاه الأسفل .. آلف خطوة بالدقيقة أغوص فيها بوحل الغربة والخوف...
كان الليل وكان البرد يحاصران كل الأبواب والشبابيك ... كان الضوء يتراقص خوفاً من ريح تعوي خلف الباب ... كان الكتاب يغوص بداخل أغطيتي خوفا من غضب الصواعق ... كان الخوف داءً في تلك الليلة حاصر كل الأشياء ... وكنت وحدي عاجزا عن قراءة كتاب .. هابطا في دفئ الغطاء ... كباقي الأشياء الخائفة الأخرى التي شاركتني غربتي في غرفتي ... كنت في تلك الليلة بلا أصحاب .

قررت في لحظة أن أعلن التحدي للريح وللبرد وللعواصف التي تعوي بخيلاء خلف الأبواب ... فتحت الأبواب ومشيت هائما على وجهي بلا وجه ولا وُجهة, ابحث عن شيء يمنحني الدفء وقليلا من روح التحدي, ويبدد عني هذه الغربة ...

صورة لملاك تراءت لي من بعيد ... ظننت نفسي أحلم في يقظتي وسرت باتجاه الضوء العابق من شيء صغير يأخذني حيث أردت دون أن أطير مثل الصدفة ... خلفه كانت أنثى ... تملك ما لا يملكه الناس ...
قالت : اقترب أيها الغريب الشاحب الوجه المسكون بالتوهان, لا تخف وأطلب ما شئت من أمنيات فهذه ليلة الميلاد...
طلبت الدفء فأهدتني سجائر وقصائد ونبيذ ...
طلبت أمناً فمنحتي البحر ... طلبت حباً فمنحتني نفسها أماً وعاشقة ...
طلبت وطناً ... فبكت معي في حرقة و شجن... وقالت :
أنا لا أمنح ما لم يمنحني إياه الزمن.
لم اكن احلم أن تهديني امرأة يوماً (وميض الغيمة الحبلى) ...
لم اتصور يوما أن أجد من يفسرني ويترجمني بكل المفردات العربية ... يتفهم ضجري ويفسر عشقي .. ويقرا سكوني ... ويبدد صمتي ... يتناول من جعبته عشقا ويهديني ...

بعد كل ما رأيت قررت أن أتزوج البحر المسمى الابتسام على ذات الميناء الذي التقينا فيه في ذلك المساء وأنشدنا أغنيات البقاء ... حيث احتضنتني وتبنتني وعشقتني حين قرأت حروفي في الغربة التي بها دفنت ...

كنت أخشى أن تكون حلماً ومن شدة خوفي بكيت ... علقت أمنياتي على شباك البيت .. ودعوت بقلب مخلص أن تعود من حيث ذهبت وتقاسمني حزني وفرحي وابتسامتي وأملي ... وتكون لي شجرة الميلاد, أتميز بها عن باقي السهرانين, فتكون شجرة زيتون تعبق عطرا ونبيذا وعشقا وزيت ... تلك الأنثى التي تمنيت ... تلك غزة التي رأيت ... آية لم تكن في سفر التنزيل ... وملاكاً أتاني حين بكيت .

لا أدري لماذا لم تزل خائفة من اجتياز الأشواك نحو المرحلة, يغزوها التردد والأماني والخوف من الحنظل القادم في طيات الآتي ...

أحبها كي يتحقق وجودي في ذات التفاصيل التي إلتقينا بها ... احفظ ملامح وجهها من ميناء وأمواج وأطفال تلعب في رملها, وأنواء ...

كانت نرجسة البحر تقف أمامي تطلب مني أن ارقص معها رقصة البحارة العائدين من رحلة صيد .
كانت تريدني أن اشربها فنجان قهوة .. أو أُعمدَ جسدها ببخور و زيت .
كانت تراني من بعيد حين حلُّقت كالصقر بعيداً ورمت بكلماتها في شطأني قائلةً :
(تعال قبل يوم دعوتني للطيران معك، ضع يدك على خاصرتي لملمني هل تشم رائحتي ؟ أشربني قطرة، قطرة حتى الثمالة، لست في عجلة من أمري، تفاصيلي الصغيرة برائحة رجل هزه الشوق لمن يرافقه التحليق في سماء الصقور....)

تلك هي قصة حبي مع بحر غزة الذي رأيت ...
أنا رجل قرر أن يتزوج غزة مع رقص الأمواج ...
ويهدي الأسماء لكل سماء ... أزرع في كل موجة حرفاً تصبح طفلاً ... ويكون مقاتل.
أنا عاشق في زي مقاتل ... قررت أن أكون لبحر غزة رجلاً ... لكن قيدتني السلاسل ...
أنا طفل برمالها الصفراء ألعب ... وعلى شدو نشيدها أطرب ... وبخصلات شعرها أغلب.
أنا شاعر قررت أن أستقيل من الشعر, و أتجند بصفوف جنود البحر وأقاتل ... أنا دمعة تحولت سؤالاً, لكن ...من غير سائل