في سدرة الحكيمي
د. إعتدال عمر الكثيري-عدن
يختصر الشعر الحقّ المسافات، ويختزل الأزمنة ، ويصنع أبطالاً ، ويضع رجالاً . وليس عجيباً أن يكون الشعر (ديوان العرب) ، فهو كان ويظل الفن الذي يلخص تجارب البشر بلسان الشاعر الصادق المعايش لواقعه ، والمعبر عن هموم مجتمعه.
وقراءة ديوان جديد أشبه بالسير في عقل إنسان ، واكتشاف تجربة الحياة من خلال الخوض في كلماته ، والإحساس بمعاناته . وهذا الديوان بوصفه المولود الثاني للشاعر محمد نعمان الحكيمي، يدفعنا إلى البحث عما هو أكثر من مجرد الاكتشاف ، فقد دلفنا إلى عقل الشاعر عبر ديوانه الأول (بوابة الشجن)، وعشنا معه تجربة الإبداع الجديد ، وعودة الشاعر إلى مشاركتنا تجربته الشعرية الجديدة تعني ضمناً أن لديه شيئاً جديداً يريد مشاركتنا إياه .
ومن أول قصيدة يبرز الالتزام في شعر الحكيمي بقضايا أمته ، وتراثها، ويبرز الاتجاه الصوفي شيئاً فشيئاً ليعبر عن مفهوم جديد للخلاص من واقع مرير تعيشه الأمة منذ زمن بعيد ، وذلك بتطهير النفس ، وخوض الصراع الداخلي ، لتجهيزها من أجل حرب طويلة الأمد ضد من عاثوا في الأمة فساداً سواء من الأعداء الخارجيين أو من الحكام المهادنين .
ومما يدهش القارئ لهذا الديوان أن خيط البلاغة لا يفلت من يد الشاعر وهو يعبر عن قضايا مصيرية ، بل يزداد تماسكاً ، فالصور الشعرية تأتي خادمة للسياق لا محشورة فيه حشراً ، فالشاعر لا يأتي بها صوراً مفككة، لا رابط يشدها ، بل ينسج منها كلاً واحداً ، ولا يفرغ منها إلا وقد انتهى إلينا المعنى حياً ومؤثراً ، ولعلّ هذه الأبيات من قصيدته الرائعة ( أحد أحد أو عفّر جبينك) خير مثال على ذلك :
تركوك- ثَمَّةَ- في البرية عارياً *** تذويٍ ، ولا من مشرب أو مطعمِ
تهوي النسور إليك قبل المنتهى *** فتظل ناظرة إلى أن ترتمي
ميتاً ، وتصبح جثة – يا للنُّهى ! - *** أفضت إلى القدر ِالعظيمِ الأكرم
يدنو العُقاب ودونه استحياؤه *** فيراك تلهج بالدعاء الأعظمِ
يأبى – وإن أكل الرميمة لاحقاً - *** أن يستحيلَ أذىً على مستسلمِ
يأبى – وإن كانت له قدراته - *** قتلَ البريء وقهرَ شخص ٍ معدم
ويقودنا الشاعر عبر لغة قوية معبرة ، فتعلو نبرته وهو يستنهض الأمة ويستصرخ الضمير ، في حين تخفت وهو يستشعر الرأفة على مخلوق بريء كأمل التي كشفت لنا عن روح شاعر تسكنه الرأفة ، بقدر ما تأسره القسوة على أعداء الأمل ، وتكفينا نظرة إلى مطلع القصيدة ومقطع آخر منها لنرى هذا الفارق بين الحالتين الشعوريتين وكيف أوصلنا الشاعر إلى التأثر بصدقه ، ففي المطلع تعلو نبرة الحزن ويتجه الخيال إلى اللامحسوس، وتبرز أصوات الهمس(السين والحاء والهاء والتاء) ، حيث يدلف معنا إلى مأساة أمل:
قبْل أنْ تنقلبي
على القبحِ والبؤسِ
كان مهوى الصباباتِ مُستاثراً
بابتذالاتنا
والفيوضات كانت هباءً
لدى الشعرِ والبوحِ
في حين تقسو تعبيراته، وتعلو سخريته ، ويتجسد خياله في المحسوسات ، و تبرز أصوات الجهر ومنها : حروف الحلق ( العين والخاء والغين) عندما يتكلم على... :
أًوْلاءِ يظنونَ أنَّ انتعالَ الهُويَّاتِ
خروجٌ حميدٌ
من الجلدِ للرشدِ
يريدوننا أن نميدَ انقلاباً
على الشمسِ
بالرجسِ
وأنْ نلعنَ الصبغةَ الآدمية !
وعلى الرغم من أن الشاعر يختار الشكل التقليدي في أكثر قصائده ، ويبدو مرتاحاً أكثر وهو يعبر به عن أغراض شتى، إلا أنه يحاول التجديد باستعمال شكل الشعر الحر والمنثور في عدد من القصائد ، مما يمنحنا صورة واضحة عن شخصية شاعر يستلهم الموروث ، وفي الوقت نفسه يعيش تجارب جديدة ، مؤمناً بضرورة التجديد.
وحسبي أنني أشرت هنا إلى أهم ما أثار انتباهي وأسر اهتمامي في هذا الديوان، فلا أريد أن أقف حاجزاً بين الشاعر والقارئ ، فما أجمل أن يكتشف كل قارئ في الديوان شيئاً خاصاً ، فيمنحه ذلك بهجة الاكتشاف ، ويدفعه إلى الاستزادة وقراءة الديوان مرة بعد مرة ، كما صنعتُ
--