أحدث المشاركات

مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»» قراءة في مقال يأجوج و مأجوج ... و حرب العوالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» الطفل المشاكس بقلمي» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» @ تَعَاويــذ فراشَــةٍ عَاشِقـَـة @» بقلم دوريس سمعان » آخر مشاركة: دوريس سمعان »»»»»

صفحة 1 من 4 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 33

الموضوع: لم أقل شيئاً لأبي ..

  1. #1
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,366
    المواضيع : 199
    الردود : 2366
    المعدل اليومي : 0.56

    افتراضي لم أقل شيئاً لأبي ..

    احتوى الليل بعباءته كل شيء ..؟ وسبحت القرية في ظلام دامس، ليل حالك يذرع الغرفة بخطى ثـقيلة، خوف نادر ينهش صدره .. عيناه تلتقطان دبيب القلق، وهو يراقب خوفاً مدمراً يتسلل كلص عبر شقوق الباب الخشبي ..
    دفـس أحمد وجهه في صدر أمه ، اجتاحته سعادة عارمة ، فتخيل أن لبنها سوف يتقطر في فمه كطفل رضيع ، وينسكب في حلقه مذاقاً لذيذاً ..
    ــــ كل ثلاثاء يأتي أبي من هناك إلى السوق ، أليس كذلك يا أمّي ..؟
    ــــ بلى يا ولدي أحمد ..
    ـــ مرت أيام طوال ، ولم يُرسل لنا شيئـاً كعادته ،غداً سأذهب إلى السوق بعد الفترة الصباحية للمدرسة ..
    تكوّمت على الحصير من جديد . والوحدة تعتصر قـلبها .. لم تعقب على كلام ولدها لأنها متيقـنة أن الرد سيكون مغتصباً .. أيقظ عدة تساؤلات في ذهنها، كانت تخفيها عنه، منذ أن غادر زوجها القرية للبحث عن العمل ..
    سرحت الأم حميدة بفكرها مدة من الزمن ، تثقـب السقف بنظراتها، ضوء قمر رقراق يتسلل عبر شقوق النافـذة .. فتنسكب خيوطه على جنبات البيت .. اهتزّ جسدها، بردت أطرافها ، تحولت روحها إلى أشلاء مُبعثرة ، فعجزت عن البكاء ..
    أفكار سوداء تستفزها .. تصوّرات غامضة عكرت عليها صفو نومها، تحدث نفسها في هسهسة ميتة : " ترى أين أنت ياولد البهلولي ..؟ وماذا حل بك..؟ كيف تغـيب عنا هذه المدة ..؟ هل تزوجت هناك بامرأة أخرى..؟ لا..لا.. ولد البهلولي لا يعملها .. من يدري ..؟ فقد يجمع مالا كثيراً وتزيغ عيناه .. بنات المدينة أفاعي يخطفن الرجال من زوجاتهم بسهولة .. لا زلت أتذكر جيداً حين قال لي مرة :
    ـــ صاحب المزرعة يثـق فيه ، لأنه خبير بأمور الفلاحة ، فزاد في أجرته..؟ لما جاء في المرة الأخيرة، أحسـست أنه تغير في سلوكه، بدأ ينتقي لغته ويهتم بهندامه .. يحلق وجهه كل صباح ، ويلطم خديه بعطر يدسه في جيبه .. وساوس مدمرة تنهشها بقوة كلما تذكرت كلامه ..
    طردت كل الأفكار السيئة من دماغها . استجمعت شتات أفكارها ، وساد صمت قاتل مدّة من الزمن ، تململت في فراشها ، واستدارت نحو ولدها محاولة تمديد الحديث ، قالت :
    ـــ والحصة المسائية من المدرسة ..؟ ماذا تقول للمعلم ..؟
    ـــ أقول له أي شيء..؟ كنت مريضاً..؟ كنت أتعهد أختي الصغيرة لأنها مريضة ..
    فجأة رمى بالغطاء وانتصب قائماً ، بدأ يفكر ملياً ويحك رأسه ، سأقول له : إني ذهبت إلي السوق للقاء أبي .. إننا نحتاج إلى.. وإلى ...
    ـــ نـمْ الآن ، واقرأ الفاتحة قبل أن تغمض جفنيك ..
    داخل الفصل ، كان المعلم يلقي درسه بحرارة ، والأطفال ينغرسون في الطاولات . لم يشارك أحمد في الدرس كعادته .. في بعض الأحيان يختـلس المعلم نظراته الثاقبة إليه فتنكسر عيناه على الطاولة .. فتخيل أن المعلم يقرأ أسراره من الداخل ، ويغوص في أعماقه .. ظن أن الزمن قد توقـف .. والحصة الصباحية للمدرسة قد امتدت أكثر من اللازم ، فصعب عليه أن يساير المعلم في شرحه للدرس .. فـتمنى من أعماق نفسه لو انكمشت عباءة الزمن بسرعة..
    ودقت الساعة العاشرة .. عاد احمد مسرعاً إلى البيت ، من خلف الباب يصرخ بصوت عال :
    ـــ أسرعي يا أمّـاه .. ناوليني القفة ..
    انطلق أحمد يسابق الريح نحو سوق القرية رغم أنه لم يتجاوز عشر سنوات .. وأشعة الشمس تصفع وجهه ، غبار متآكل ينفرج بصعوبة ، فتنكسر فتحة عينه .. تعثر في كومة تراب ، فغزا داخله شعور بهزيمة ما .. كلاب تتجاوب في نباحها .. صوتها يزيد من دقات قلبه .. مشى وضاعف المشي في توجس .. صدمه ضجيج خانق من بعيد .. سوق مملوء بالناس ، أبواق تصدح بكل قواها ، أغان شعبية مبتذلة تأتي إلى أذنيه بدون نظام ، اختلط عليه الإيقاع .. رياح غربية تُـغـيّب الأنغام الضعيفة ، نغم واحد شعبي يسيطر على الفضاء كله :"كــولو لمّي .. كـــولو لبُويا ..؟"
    ـــ ماذا أقول لأمّي إذا لم أجد أبي ..؟ وماذا أقول لأبي إذا وجدته ..؟ لا أعرف ..؟ ولا أدري ما يخبئه الزمان لي ..؟ يحدث نفسه وهو يخطو ويخطو .. سأقول له : إني أحتاج إلى حذاء أفضل من هذا ، مر عام عليه بعدما كان صغيراً ولامعاً، الآن يكسوه الغبار مع شق كبير في جانبه، يحتاج إلى غرز عديدة ، لم يستطع إسكافي الدوار بن حمو إصلاحه ، يدق المسمار فيعوج ، ثم ينتزعه بكماشته ، يتحسس الجلد بـإبهامه .. وأخيراً يفقد الأمل ، فينظر إليّ نظرة إشفاق ، ويرمى بالحذاء المنكوب في وجهي .. سوف أقول له ...؟ وأقول ..؟
    برهة ، وجد نفسه أمام باب كبير.. فتوهم أن حارس الباب سوف يوقـفه، كأن السوق حكر على الكبار، وعلى الأطفال أن يكونوا مصحوبين بآبائهم .. قال في نفسه : ويلك .. كن رجلا .. أين شجاعتك ..؟
    اندسّ مع جماعة إلى السوق في حيطة وحذر، سرح ببصره إلى الأفـق الممتد .. سلط سهام عينيه على رؤوس بشرية وهي تنغـل كالنمل .. لم يدر كيف تجمّعت هذه الخلائق ، ومتى جاءت إلى هنا ..؟ فضاء يئن تحت وطأة الأقدام المكـتظة .. خيام مصفوفة تـلفحها الرياح من كل جانب ، غـبار يتصاعد ميتاً بين الأجسام . يلامس الوجوه دون هسهسة .. سرعان ما يتشتت فوق الرؤوس كلما وجد انفراجاً .. أجراس السقائـين تتناوب في إيقاعاتها ونغماتها . نداءات الباعة تـلعـلع في الأبواق، تصدح بكل قواها معـلنة عن سلعهم المعروضة ، جلبة لا تنقطع تـثـقـب طبلة الأذن ..
    وقـف أحمد مشدوهاً إلى طاولة حلوى، شم رائحتها من بعيد ، تلمظ كأنه تذوق شيئاً .. مرّر لسانه على شفـتيه بعنف ، وجد فمه فارغاً من اللعاب ، تمتم وقال:
    ـــ ما جئت هنا للفـرجة ، جئت للقاء أبي ..؟
    يسأل ويسأل ، يتيه السؤال بين الألسنة .. يموت بين كل الوجوه التي يعرفها .. كل الوجوه بدت تـتـشابه في مخيلته ، وجه أبيه لم يغب عن ذاكرته ، لا يعرف أين يتجه..؟ دروب السوق مغـلقة نهائياً بالأجسام البشرية ، يحدق في كل وجـه يصطدم بـه .. يصنف العمائم والجلابيب حسب ألوانها ، جلباب أبيه لا يخفى عليه ، يدقق في القسمات ، يهم أن يشد بجلباب أحد الرجال ، فما يكاد أن يستديــر الرجل بوجهه حتى يمسك يده ..
    في كل مرة يحاول أن يندسّ بين الجموع ، صغر سنه يسمح له بتتبع الفجوات الفارغة ، لكنه يجد صعوبة في التطلع إلي الوجوه لقصر قامته ، سار في كل الاتجـاهات حتى وجد نفسه في جانب السوق شرقـاً حيث قـل الازدحام وتقـلـصت البضائع .. خطرت له فكرة غريـبة وهي أن يتسلق شجرة طويلة عسى أن يمتلك الفضاء كله ، لكنه أبعد هذه الفكرة من رأسه .. فبقي تائهاً بين خواطره ، فـتأكد أن الزمن اغتال لحظة اللقاء بأبيه ..
    خفق قلبه خفوق الخيام الشاحبة .. لحظات تقـلصت من زمنه الهارب .. بسرعة طوى قـفته الفارغة بعنف .. واتجه نحو الباب الذي دخل منه كأن مارداً ألقى به خارج السوق لا يلوي على شيء .. عاد وهو يكرر خلسة في نفسه : ما قلت لأبي شيئاً ، فماذا أقول لأمي .. ؟

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,063
    المواضيع : 312
    الردود : 21063
    المعدل اليومي : 4.96

    افتراضي

    الأخ الفاضل/ الفرحان بو عزة
    ككل كتاباتك ـ قصة جميلة .. تمسك القلم باقتدار وتطوع اللغة فتطيعك
    وتسوق النص بمهارة وحرفية في لغة انسيابية وأسلوب جميل متمكن
    وسرد هادىء ومشوق فيطيعك القلم وترضخ لك الحروف .. ونهاية
    مفتوحة يقف فيها بطلنا حائرا , ويجعلنا معه في حيرة..
    أفضل كتاباتك عندما تكون واضحة بعيدة عن الرمزية التي ترهق تفكيري.
    تحية لك بحجم روعة قلمك.

  3. #3
    الصورة الرمزية كريمة سعيد أديبة
    تاريخ التسجيل : Nov 2009
    المشاركات : 1,435
    المواضيع : 34
    الردود : 1435
    المعدل اليومي : 0.27

    افتراضي

    قصة رائعة جمعت بين الإمتاع بسردها العالي ولغتها الجميلة وبين استخلاص العبر من خلال رسالتها الإنسانية الراقية.....
    راقني هذا الوصف الدقيق لعالم السوق والانزياحات التي يمكن يحدثها، وكذا التماثلات التي يتركها لدى المتلقي وكأن "الداخل فيه مفقود، والخارج منه مولود"
    ولعل هذا الغر قد استفاد درسا جعله يتطور ويستوعب الحياة من خلال إعادة صياغة الأسئلة...
    إن التفكيير التوقعي ليس صائبا في كل الحالات، فلكل مجال تدبيره، إذ قد نحتاج في مجالات الارتكاز على توقع الأمور
    واستباق برمجة الحلول لها حسب المعطيات المتوفرة لدينا، ولكن في مجالات معينة نركز اهتمامنا على ما هو أولى
    ونترك التخمين في بعض المسائل التي لا نمتلك حقائقها إلى حين حدوثها......

    الأديب المتميز الفرحان بوعزة
    شكرا على هذه القصة الماتعة
    محبتي وتقديري
    {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}

  4. #4
    الصورة الرمزية حارس كامل أديب
    تاريخ التسجيل : Jan 2013
    الدولة : مصر
    المشاركات : 571
    المواضيع : 66
    الردود : 571
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    اخي الفاضل:الفرحان
    كنت هنا لأسجل إعجابي..
    جمل صغيرة تخطف الأنفاس..الحبكة والسرد بضفيان مذاقا أخر..
    لاأضيف سوي أنه نص رائع..
    لي ملاحظة واحدة بخصوص الأستهلال
    "وسبحت القرية في ظلام دامس، ليل حالك يذرع الغرفة بخطى ثـقيلة، خوف نادر ينهش صدره .. عيناه تلتقطان دبيب القلق، وهو يراقب خوفاً مدمراً يتسلل كلص عبر شقوق الباب الخشبي "
    أري بوجهة نظر المتواضعة لدواعي التكثيف أن تراجعها..
    تقبل تحيتي
    أخي المبدع الفرحان
    لاتأسفن علي غدر الزمان لطالما
    رقصت علي جثث الأسد كلاب

  5. #5
    الصورة الرمزية فاتن دراوشة مشرفة عامة
    شاعرة

    تاريخ التسجيل : Jul 2009
    الدولة : palestine
    المشاركات : 8,906
    المواضيع : 92
    الردود : 8906
    المعدل اليومي : 1.66

    افتراضي

    ذلك السّوق كم يشبه دنيانا التي نعيش بها

    ذلك الاكتظاظ الذي يفقد المرء توازنه ويشعره بالغربة حتى عن نفسه

    للقصّة أبعاد رائعة صقلت من ملامح الواقع لوحة مؤلمة

    وسلّطت الضّوء على مدى البعثرة التي يعيشها المرء حين يشعر بكونه نقطة في بحر لا يعي أبعاده

    سعيدة بمصافحة ثمار إبداعك أستاذنا

    مودّتي

  6. #6
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.86

    افتراضي

    وصف رائع لحالة الضّياع الدّاخلي والخارجي اللذين عاشهما البطل
    قصّة اجتماعيّة تربويّة نسجتها يد قاصّ ماهر في السّرد والحبك
    أحييك أخي الأستاذ الفرحان بو عزة
    تقديري وتحيّتي
    ( أفاعٍٍ )

  7. #7
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,009
    المواضيع : 130
    الردود : 7009
    المعدل اليومي : 1.49

    افتراضي

    أخي الفرحان بو عزة
    هي مشاهد من معاناة وقلق تسبق اليأس من عودة المحبوب ..
    والنصّ يحمل في ثناياه قضيّة اجتماعية هي هجرة رب الأسرة في طلب الرزق ..ثم تصبح تلك الأسرة في طلبه..
    وصف دقيق للأحداث شدّنا إلى النهاية
    تحياتي
    وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن

  8. #8
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,366
    المواضيع : 199
    الردود : 2366
    المعدل اليومي : 0.56

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نادية محمد الجابى مشاهدة المشاركة
    الأخ الفاضل/ الفرحان بو عزة
    ككل كتاباتك ـ قصة جميلة .. تمسك القلم باقتدار وتطوع اللغة فتطيعك
    وتسوق النص بمهارة وحرفية في لغة انسيابية وأسلوب جميل متمكن
    وسرد هادىء ومشوق فيطيعك القلم وترضخ لك الحروف .. ونهاية
    مفتوحة يقف فيها بطلنا حائرا , ويجعلنا معه في حيرة..
    أفضل كتاباتك عندما تكون واضحة بعيدة عن الرمزية التي ترهق تفكيري.
    تحية لك بحجم روعة قلمك.
    شكراً لك أختي الفاضلة والمبدعة المتألقة .. نادية .. على قراءتك القيمة ..
    فعلا أختي ،يعجبني هذا النوع من القصص الذي يجمع بين الشكل الفطري للحكاية العربية ، والشكل التقليدي المتجدد
    من أجل استقصاء الظواهر الاجتماعية ، وتصوير الحياة بتعاستها وقيحها وجمالها وسعادتها . ومعالجتها دون فرض طريقة العلاج ..
    شكراً على اهتمامك النبيل وكلمتك الطيبة ..
    تقديري واحترامي ..
    الفرحان بوعزة ..

  9. #9
    الصورة الرمزية محمد الشرادي أديب
    تاريخ التسجيل : Nov 2012
    الدولة : المغرب
    المشاركات : 721
    المواضيع : 35
    الردود : 721
    المعدل اليومي : 0.17

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الفرحان بوعزة مشاهدة المشاركة
    احتوى الليل بعباءته كل شيء ..؟ وسبحت القرية في ظلام دامس، ليل حالك يذرع الغرفة بخطى ثـقيلة، خوف نادر ينهش صدره .. عيناه تلتقطان دبيب القلق، وهو يراقب خوفاً مدمراً يتسلل كلص عبر شقوق الباب الخشبي ..
    دفـس أحمد وجهه في صدر أمه ، اجتاحته سعادة عارمة ، فتخيل أن لبنها سوف يتقطر في فمه كطفل رضيع ، وينسكب في حلقه مذاقاً لذيذاً ..
    ــــ كل ثلاثاء يأتي أبي من هناك إلى السوق ، أليس كذلك يا أمّي ..؟
    ــــ بلى يا ولدي أحمد ..
    ـــ مرت أيام طوال ، ولم يُرسل لنا شيئـاً كعادته ،غداً سأذهب إلى السوق بعد الفترة الصباحية للمدرسة ..
    تكوّمت على الحصير من جديد . والوحدة تعتصر قـلبها .. لم تعقب على كلام ولدها لأنها متيقـنة أن الرد سيكون مغتصباً .. أيقظ عدة تساؤلات في ذهنها، كانت تخفيها عنه، منذ أن غادر زوجها القرية للبحث عن العمل ..
    سرحت الأم حميدة بفكرها مدة من الزمن ، تثقـب السقف بنظراتها، ضوء قمر رقراق يتسلل عبر شقوق النافـذة .. فتنسكب خيوطه على جنبات البيت .. اهتزّ جسدها، بردت أطرافها ، تحولت روحها إلى أشلاء مُبعثرة ، فعجزت عن البكاء ..
    أفكار سوداء تستفزها .. تصوّرات غامضة عكرت عليها صفو نومها، تحدث نفسها في هسهسة ميتة : " ترى أين أنت ياولد البهلولي ..؟ وماذا حل بك..؟ كيف تغـيب عنا هذه المدة ..؟ هل تزوجت هناك بامرأة أخرى..؟ لا..لا.. ولد البهلولي لا يعملها .. من يدري ..؟ فقد يجمع مالا كثيراً وتزيغ عيناه .. بنات المدينة أفاعي يخطفن الرجال من زوجاتهم بسهولة .. لا زلت أتذكر جيداً حين قال لي مرة :
    ـــ صاحب المزرعة يثـق فيه ، لأنه خبير بأمور الفلاحة ، فزاد في أجرته..؟ لما جاء في المرة الأخيرة، أحسـست أنه تغير في سلوكه، بدأ ينتقي لغته ويهتم بهندامه .. يحلق وجهه كل صباح ، ويلطم خديه بعطر يدسه في جيبه .. وساوس مدمرة تنهشها بقوة كلما تذكرت كلامه ..
    طردت كل الأفكار السيئة من دماغها . استجمعت شتات أفكارها ، وساد صمت قاتل مدّة من الزمن ، تململت في فراشها ، واستدارت نحو ولدها محاولة تمديد الحديث ، قالت :
    ـــ والحصة المسائية من المدرسة ..؟ ماذا تقول للمعلم ..؟
    ـــ أقول له أي شيء..؟ كنت مريضاً..؟ كنت أتعهد أختي الصغيرة لأنها مريضة ..
    فجأة رمى بالغطاء وانتصب قائماً ، بدأ يفكر ملياً ويحك رأسه ، سأقول له : إني ذهبت إلي السوق للقاء أبي .. إننا نحتاج إلى.. وإلى ...
    ـــ نـمْ الآن ، واقرأ الفاتحة قبل أن تغمض جفنيك ..
    داخل الفصل ، كان المعلم يلقي درسه بحرارة ، والأطفال ينغرسون في الطاولات . لم يشارك أحمد في الدرس كعادته .. في بعض الأحيان يختـلس المعلم نظراته الثاقبة إليه فتنكسر عيناه على الطاولة .. فتخيل أن المعلم يقرأ أسراره من الداخل ، ويغوص في أعماقه .. ظن أن الزمن قد توقـف .. والحصة الصباحية للمدرسة قد امتدت أكثر من اللازم ، فصعب عليه أن يساير المعلم في شرحه للدرس .. فـتمنى من أعماق نفسه لو انكمشت عباءة الزمن بسرعة..
    ودقت الساعة العاشرة .. عاد احمد مسرعاً إلى البيت ، من خلف الباب يصرخ بصوت عال :
    ـــ أسرعي يا أمّـاه .. ناوليني القفة ..
    انطلق أحمد يسابق الريح نحو سوق القرية رغم أنه لم يتجاوز عشر سنوات .. وأشعة الشمس تصفع وجهه ، غبار متآكل ينفرج بصعوبة ، فتنكسر فتحة عينه .. تعثر في كومة تراب ، فغزا داخله شعور بهزيمة ما .. كلاب تتجاوب في نباحها .. صوتها يزيد من دقات قلبه .. مشى وضاعف المشي في توجس .. صدمه ضجيج خانق من بعيد .. سوق مملوء بالناس ، أبواق تصدح بكل قواها ، أغان شعبية مبتذلة تأتي إلى أذنيه بدون نظام ، اختلط عليه الإيقاع .. رياح غربية تُـغـيّب الأنغام الضعيفة ، نغم واحد شعبي يسيطر على الفضاء كله :"كــولو لمّي .. كـــولو لبُويا ..؟"
    ـــ ماذا أقول لأمّي إذا لم أجد أبي ..؟ وماذا أقول لأبي إذا وجدته ..؟ لا أعرف ..؟ ولا أدري ما يخبئه الزمان لي ..؟ يحدث نفسه وهو يخطو ويخطو .. سأقول له : إني أحتاج إلى حذاء أفضل من هذا ، مر عام عليه بعدما كان صغيراً ولامعاً، الآن يكسوه الغبار مع شق كبير في جانبه، يحتاج إلى غرز عديدة ، لم يستطع إسكافي الدوار بن حمو إصلاحه ، يدق المسمار فيعوج ، ثم ينتزعه بكماشته ، يتحسس الجلد بـإبهامه .. وأخيراً يفقد الأمل ، فينظر إليّ نظرة إشفاق ، ويرمى بالحذاء المنكوب في وجهي .. سوف أقول له ...؟ وأقول ..؟
    برهة ، وجد نفسه أمام باب كبير.. فتوهم أن حارس الباب سوف يوقـفه، كأن السوق حكر على الكبار، وعلى الأطفال أن يكونوا مصحوبين بآبائهم .. قال في نفسه : ويلك .. كن رجلا .. أين شجاعتك ..؟
    اندسّ مع جماعة إلى السوق في حيطة وحذر، سرح ببصره إلى الأفـق الممتد .. سلط سهام عينيه على رؤوس بشرية وهي تنغـل كالنمل .. لم يدر كيف تجمّعت هذه الخلائق ، ومتى جاءت إلى هنا ..؟ فضاء يئن تحت وطأة الأقدام المكـتظة .. خيام مصفوفة تـلفحها الرياح من كل جانب ، غـبار يتصاعد ميتاً بين الأجسام . يلامس الوجوه دون هسهسة .. سرعان ما يتشتت فوق الرؤوس كلما وجد انفراجاً .. أجراس السقائـين تتناوب في إيقاعاتها ونغماتها . نداءات الباعة تـلعـلع في الأبواق، تصدح بكل قواها معـلنة عن سلعهم المعروضة ، جلبة لا تنقطع تـثـقـب طبلة الأذن ..
    وقـف أحمد مشدوهاً إلى طاولة حلوى، شم رائحتها من بعيد ، تلمظ كأنه تذوق شيئاً .. مرّر لسانه على شفـتيه بعنف ، وجد فمه فارغاً من اللعاب ، تمتم وقال:
    ـــ ما جئت هنا للفـرجة ، جئت للقاء أبي ..؟
    يسأل ويسأل ، يتيه السؤال بين الألسنة .. يموت بين كل الوجوه التي يعرفها .. كل الوجوه بدت تـتـشابه في مخيلته ، وجه أبيه لم يغب عن ذاكرته ، لا يعرف أين يتجه..؟ دروب السوق مغـلقة نهائياً بالأجسام البشرية ، يحدق في كل وجـه يصطدم بـه .. يصنف العمائم والجلابيب حسب ألوانها ، جلباب أبيه لا يخفى عليه ، يدقق في القسمات ، يهم أن يشد بجلباب أحد الرجال ، فما يكاد أن يستديــر الرجل بوجهه حتى يمسك يده ..
    في كل مرة يحاول أن يندسّ بين الجموع ، صغر سنه يسمح له بتتبع الفجوات الفارغة ، لكنه يجد صعوبة في التطلع إلي الوجوه لقصر قامته ، سار في كل الاتجـاهات حتى وجد نفسه في جانب السوق شرقـاً حيث قـل الازدحام وتقـلـصت البضائع .. خطرت له فكرة غريـبة وهي أن يتسلق شجرة طويلة عسى أن يمتلك الفضاء كله ، لكنه أبعد هذه الفكرة من رأسه .. فبقي تائهاً بين خواطره ، فـتأكد أن الزمن اغتال لحظة اللقاء بأبيه ..
    خفق قلبه خفوق الخيام الشاحبة .. لحظات تقـلصت من زمنه الهارب .. بسرعة طوى قـفته الفارغة بعنف .. واتجه نحو الباب الذي دخل منه كأن مارداً ألقى به خارج السوق لا يلوي على شيء .. عاد وهو يكرر خلسة في نفسه : ما قلت لأبي شيئاً ، فماذا أقول لأمي .. ؟

    أهلا أخي بوعزة

    أنا متيقن أنك لم تكتب هذا النص المائز بقلم، بل كتبته بكاميرا رصدت كل شيء و لم تغفل عن أي شيء. رصدت الشخصيات في مظهرها و سبرت أغوارها و حالتها النفسية و هي تتفاعل في فناء النص...رصدت المكان بكل تفاصيله و تأثيره على مشاهد النص...رصدت تطلعات امرأة تتنظر كودو...و أحلام طفل تبددت على أطراف السؤال...عاد إلى البيت بخفي حنين يجتر خيبته ة يتجرع مرارته.
    دام الألق ليراعك أخي.

  10. #10
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,366
    المواضيع : 199
    الردود : 2366
    المعدل اليومي : 0.56

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كريمة سعيد مشاهدة المشاركة
    قصة رائعة جمعت بين الإمتاع بسردها العالي ولغتها الجميلة وبين استخلاص العبر من خلال رسالتها الإنسانية الراقية.....
    راقني هذا الوصف الدقيق لعالم السوق والانزياحات التي يمكن يحدثها، وكذا التماثلات التي يتركها لدى المتلقي وكأن "الداخل فيه مفقود، والخارج منه مولود"
    ولعل هذا الغر قد استفاد درسا جعله يتطور ويستوعب الحياة من خلال إعادة صياغة الأسئلة...
    إن التفكيير التوقعي ليس صائبا في كل الحالات، فلكل مجال تدبيره، إذ قد نحتاج في مجالات الارتكاز على توقع الأمور
    واستباق برمجة الحلول لها حسب المعطيات المتوفرة لدينا، ولكن في مجالات معينة نركز اهتمامنا على ما هو أولى
    ونترك التخمين في بعض المسائل التي لا نمتلك حقائقها إلى حين حدوثها......
    الأديب المتميز الفرحان بوعزة
    شكرا على هذه القصة الماتعة
    محبتي وتقديري
    أعتز بقراءتك القيمة ، أختي المبدعة المتألقة . كريمة سعيد .. شكراًعلى اهتمامك وكلمتك الطيبة ..
    تقديري واحترامي ..
    الفرحان بوعزة ..

صفحة 1 من 4 1234 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. قراءة فى قصة " لم أقل شيئاً لأبى " للأديب الفرحان بو عزة
    بواسطة هشام النجار في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 20-11-2014, 05:37 PM
  2. صباح الخير (110) قل لي كيف تعش؟أقل لك من انت.
    بواسطة ريمة الخاني في المنتدى النَادِى التَّرْبَوِي الاجْتِمَاعِي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 06-02-2008, 10:06 AM
  3. ما هو أقل عدد لأبيات القصيدة
    بواسطة محمد أبو الفتوح في المنتدى قَضَايَا أَدَبِيَّةٌ وَثَقَافِيَّةٌ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 22-02-2007, 09:44 PM
  4. لِمَ لَْمْ يأتِ الحب ؟
    بواسطة مؤمن مجدي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 15-02-2007, 04:25 PM