أصوات
إني أسمع أصواتًا تُفزع جوفي، إنهم هنا فوق سطوحنا، لقد انتقلوا كالجراثيم في الهواء.
أخشى أن يصلوا إليك، فيعبثوا بأسلاك جسدك المنهوك اغترابًا، ويخترقوا قلبك الموهن.
_عن أيَّة أصوات تتكلم؟!
_إنها أصوات مَن ارتفعت أصواتهم حين وهن صوتك! كلماتهم تتردد في عقلك المتخم فراغًا.
لم يبالِ بما سمع من كلمات؛ فقد تعوَّد تجرُّعها مع آهاته المعدومة في كأس اغترابه، فجلس أمام المائدة يقضم لقيمات خبز معجون برائحة موت تسربت إليه خُفية، من أشعة أسلحة مميتة لمن ضاع وراء شاشة، زعمت أن الكون بخير رغم تقلب الأجواء، وتغيُّر الفصول في اليوم الواحد، وكثرة الأصوات المنبعثة من براكين مرقدة بسكون حراس حدودها الوهّاجة، فزرعت في قلبه المتصحر شجرة قزميَّة، ترفض الخضوع لرغبات ارتوت من ماء لوَّثتْه الذئاب، ونفثت به الأفاعي سمومًا مختلفة.
غرس طرفًا من خبزٍ بمرق دُسَّ بدمِ مَن يصرخ داخل أعماقه: بأن الروح ما زالت تسكنه؛ وما زال يرجو رأفةً تحلق على مسافات المنايا، لكن علبة الدواء -التي ينتظر- لم تعبر الحدود من أجل جرحه النازف مع شروق شمس، فقد حُجبت بسحابة سوداء، ويأمُل الصامتون أنها ستتحول إلى غيمة تمطر فتحًا لا يرد بعده!
ونُكِّه المرق ببهاراتِ وعودٍ ربيعية، ورائحة خريفية، تساقطت أوراقها الصفراء، ذات زوبعة هوجاء، تشكلت بعد تراكم سحب رمداء، انقشعت جنوبًا، وعَبَرت الغروب لتستقر شرقًا! نفث دخانه الملوث المتسلل عبر شباك سنوات القهر، وهو يتأمل مساحات شاسعة من خيباته، ويَسْتنظر ما سيحل بسنابله الخضراء المتبقية من عمرٍ أعجف! زعق مع الدخان قائلاً:
_لا أرى ولا أسمع، فأي شيخوخة لعينة تراود ربيع عمري الباقي؟
تطلع إليه الظل القابع على سجادة بالية، تفوح منها سنوات ضياع عمرها، في انتظار من يوجهها قائلاً:
_ألم ترَ يا رجل أنهم معنا؟
_يا لكَ من كاذب، تحاول دائمًا العبث بما تبقى من أيامي
_بيننا جدار صمتٍ، وصوت رصاصٍ تحجمه طبلة أذنك المعفنة بالأوساخ، وتقول: إنني أعبث بأيامك؟!
_ما من أوساخ أكثر من ذهنك المعبَّأ بالأفكار المركونة تحت الأقدام.
_إنهم يَعْبُرون مسارات الهواء على شِرَاع سيطرة وسخة.
***
تحرَّك بجسدٍ أنهكه دهرٌ قابع بين ضفتين، محشو خرفًا، وممدد أعوامًا عجافًا، أطلَّ من شُرْفَة تتشعَّب منها خرافات محظورة، وقد أباح سترَها الشحيحون، وتفوح منها روائح عتيقة.
الشوارع كما تركها بالأمس، قبل أن تغفو له عين النخوة! قرابين من دماء تتسكَّع بين دروب معتمة، ودخان رمادِ الموت المتبقي من شعيرات أُحرِقت خلسة أمام عيون ترى الشمس هلالاً يعود كل عام؛ ليخبرهم أنه باقٍ رغم أنفاس الموت الساكنة أجسادًا تسلك دروبًا قحطية، وأصوات شريط ينبعث من عربات أقدامها تنبح سرًّا!
صوت يُجَلْجِل بالتكبيرات، ومرتّل يبكي بصوته الشجي مع آيات الله، وصوت آخر يردِّد عذابات العاشقين، وينوح بحباله الصوتية، فتتراقص على تلك الحبال هفوات المترنِّحين لزمن أمسك عنهم طقوسًا، سكنت عفريتًا خاض حربًا ضروسًا ضدهم؛ كي يسلكوا دربه!
وشريط آخر بصوت أناشيد الحرية، المختلط بصوت رصاص وشهادة ميلاد موت جديد! يخالج مَن يتجرَّع الإذلال على جوانب أحلامه، فيمسح عنه عُفُونة الظروف الغشيمة العالقة بجلده، المنخور موتًا من قبل أن يرى نوعية أرصفة مدينته! يُمسك أوراقًا تحوَّل لونها لثرًى ملوَّث بروائح نفايات قاتمة، وقد شتت بين ما قبل ميلادها، حيث الطفولة تركض لمعانقة الأحلام الوردية، بكرسيٍّ يدور به من مكتبه إلى مكتب مدير يحكمه بأصابع قدميه! وعلى جنبات المكتب نافذة يطل بها على بيت محبوبة، تسحر ظلال المدينة بعيونها، فيركض إليها كل ما بدأ حلم يقظته بالنشوب! وسرعان ما يستفيق منه على صفعة معطل يترنح بين الأرصفة وخبز أمه اليابس المختلط بشعيرات من رأسها الأشيب، ورائحة عرقه المتعفِّن تشتمها منه على بعد أميال، فيختفي أكسجين التحرر الذي يتنفس مع قيود الغبن المنقوشة على جبهات الكادحين!
***
_ألا ترى الآن كيف انبعث الموت من مرقده، وتركك قائمًا تقاتل رغيفًا متعفنًا ؟!
_لا أرى ما ترى، فما حل بناظري يا ترى؟!
_أيها الأعمى الأصم، المتكلم ببراكين ألفاظٍ انتهت صلاحيةُ حياتها، ودُفِن ما تبقى من جراثيمها!
ألا تذكر -يا صاحبي- حين اشتريتَ بندقية لابنِك، يوم ميلاد عمرك الجديد من عتمة الصديد! وأطلقت منها رصاصة ميتة في وجه ذاك التحتاني، فانكسرت مرايا عمرك في الصمت الجارف لسحق سوطه! وكدت تغيب كما غاب عمرك الأول من قبل ميلاد خضوعك!
_لا أذكر
_آهٍ مِن ذاكرةِ مَن يتنفس شوقًا لانكسار عمره الثاني! في ذاك اليوم وقفتَ أمام البائع تقول له بصوت بطوليٍّ خشن -وقد انفتح صدرك كأسد على وشك الْتهام فريسة اصطادتها لَبُؤَتُه!
_كم ثمن البندقية؟
_طأطأ البائع رأسه، وزفر مع كلمته:
_لا أبيع البنادق
_وما هذه التي تصطفُّ فوق مسافات أحزانك، تترقَّب بفمٍ فارهٍ، وتختلس النظر إلى جيوب المارِّين أمامك! تنتظر مَن يدفع ثمنًا أكبر من الثمن الذي يدفع للقابعين فوق بِركة نار متَّقدة
_آهٍ، أتقصد هذه البندقية؟ إنها لعبة للصغار لا أكثر
_ما الفرق إن كانت ستطلق رصاصة؟
_ما من رصاص فيها؛ فهي لعبة من البلاستيك، ورصاصها ألعاب نارية
_أتمزح يا رجل؟! إن الألعاب النارية تعلمنا كيف نصبح أبطالاً وقتلى وأشلاء! فمُدني بها لأهديَها لابني؛ فذات يوم سيطلق منها رصاصة
_ولكن في وجه مَن يا ترى؟!أفي وجه الأصوات الساكنة أعماقك أم أعماقه؟!
_لا أدري! ألم تقل: إنها مجرد لعبة؟ فأي رصاص ذاك الذي سينطق؟ وأية أعماق؟! يا لكَ من أبله، امتزج فكره بعبثية الغِرْبان!
_الأصوات تحتلك وتحتلني -لكننا لا نراها- ونسمع همسها خلسة من الغِرْبان!
غمغمت كثيرًا، ثم تركت صاحب البندقية، لكنك لم تترك البندقية؛ فقد اشتريتها لابنك.
قل لِمَ اشتريت البندقية؟! فها هو ابنك يلعب بها مع أقرانه في الحي، ألا تسمع صوت الرصاص؟ ألا تخشى صوتها؟!
_لا أسمع غير سمفونية أنين تعوَّدت سماعها، ورصاص ينطلق مع ساعة الأخبار
***
ترك الشرفة وعاد إلى مكان جلوسه، ارتمى على الكنبة، تمنى لو يغفو على صوت يخترق أذنيه بظِفر يبعث من تحت الأنقاض.
_أتَنوِي النوم وقد رأيت وسمعت ما طمسوه من ذاكرتك المنهكة أصواتًا؟
_قلت لك: إني لا أرى الأصوات؛ فلمَ لا تصدقني؟!
_ولكن الأصوات لا ترى؛ بل تُسمع، أخبرني -يا رفيقي- أتذكر حين أمسك جدك البندقية؟
_لا أذكر، لكن أهناك بندقية في العائلة غير التي يمسكها ابني؟!
_ألا تذكر من ماضيك شيئًا؟! حتى بندقية الحقيقة ضاعت من ذاكرة عمرك!
فقد حدَّثك جدك عن قصص البطولة كثيرًا، كان يمسك بالبندقية في يده، أما الرصاص، فقد كان ينطلق من فوهات قلبه الأسدي! فتبددت غيوم الهزيمة عن الجنود، وركعت الجيوش أمام قبضة يدٍ تهفو لبطولة شهيد مات منتصبًا، وأسفل قدميه المحتل أسيرًا يرجف!
_كيف يخبرني بتلك القصص وقد مات منتصبًا؟!
_ومن قال مات؟! منذ متى تموت بطولات الأحرار؟! لم تدفن يومًا أسرار حكايات شموخه الثوريِّ، وسيف كلمة قطعت غربانًا، ذاك جدك قال: "أمسكت البندقية - يا بُنَيَّ - لأقاوم محتلاًّ كاد يُغرِق القبيلة بجحاف خيوله المتسكعة عفونة، أراد تلويث ثُراي المِسكي. فأطلقت الرصاص تلو الرصاص، وفي تلك اللحظة الفارقة بين الموت منتصبًا، أو الحياة محلقًا فوق ركاب خيولهم، لم أدرِ من أين ينطلق الرصاص، أمِن البندقية أم من فؤادٍ يخفق كبركانٍ ناريٍّ مشتعل ثورات؟! فكان وقع الطلقات على العدو كسحرٍ أطاحهم فوق التراب، جاثمين برؤوسهم النكسة، فرفَّت رايات بيضاء من أياديهم المرتجفة المتراقصة تراقص المكسورين، وترعَّدت خيولهم، فغابت عن الأنظار في مدافن حافلة بالوحل، وهب الجنود فرحا بالنصر، فسمقت الراية واحتفت بسموها إلى أن انقشرت ينابيعك، وتمسح فضاؤك برغاب الغِرْبان، فانخفضت من جديد ومُزجت برغام الكلاب!
ذاك جدك دفن في تربة صباحة، أزهرت بطولات تشهد أن موته كان خرافة! فأشواك الزهور ما زالت تُسقط العابرين لفتك أسباطه الراضخين للعبة أبدية، من أجل رغيف ملوث بالذل!
_كفَّ عن قص حكايات الأمواتِ، وتقاليد رصاصٍ لم يعد لها وجود، وإن كان لها وجود فامتزجت بما تبقى من رصاص، ولم أعد أميِّزها بين الأصوات.
_يبدو أنك تمرغت في مقبع الأصوات الجاثمة فوق الرقاب، فدفن حسك بالسمع في قَبْوها! وعلقت بك أوساخ الزمن الغابر؛ لتعبث بخبايا عمرك الباقي، وتنسف ذاكرتك المفقودة التي رسخت فيها ملايين التعساء الفارِّين من بؤس الناقمين الأقل منك نقمًا! فلم يَعد لصوتك جبروت كي يواجه تلك الأصوات المستهترة الساكنة سكون الأموات داخلك.
تعب من صوت الظل فقام إليه، أمسكه بقبضة يده، ودفنه في غيابات الصمت.