المنديل ذو الرائحة الزكية
انحدرت في الصباح الباكر على الطريق من منزلي، قاصدا محطة الحافلات ، كي استقل واحدة منها إلى القرية النائية.
فالبرد شديد ، والضباب كثيف. لعلها تنذر بمطر وشيك ، تقول الأرصاد أنه سيكون شديدا.
سيكون شديدا إذن.. مرحى مرحى .. وستكون عودتي لبيتي شبه مستحيلة ، إذ سيكون من المستحيل علي أن أجتاز مستنقعات الماء و الوحل والطين ، ومن المؤكد أنني سأسقط في واحد منها. شيء اعتدت عليه كتيرا، منذ أن قضيت شتاءات ثلاث ،كمعلم في مدرسة ابتدائية في تلك القرية .. ال .... النائية.
انتظرت قدوم الحافلة، وأخذت دوري فوق رصيف الشارع.
مر بى طفلتان متطابقتان شكلا ووسما وجمالا ،ورديتا الخدود، بصفائر سوداء، تنتهي بشرائط زرقاء حريرية، ملتحفات بمعاطف مدرسية فاخرة، على كتفيهما حقيبتان، (يحملن أثقالا .. ربما لا يعلمن شيئا عن محتوى أي كتاب فيها) ،طردت هواجسي.
أي شيء يجبرنا على الدفع بفتاتين صغيرتين إلى برد الشارع ،ورياح الطريق في هذا الصباح الشتوي القارس؟
(كي يتعلمن)!!!
أي شيء تتعلمه تلك المخلوقات ؟ شياطين صغيرة، تفتقر إلى الأدب. وقد أرسلوا من قبل آباء كسالى لا يجيدون تربية أبنائهم ولا رعايتهم ، ويلقون بهم إلينا في مدارس متهالكة، وفصول كئيبة
كي نعاني، ونشرب المر من سوء أخلاقهم، ونحن لا نكف عن الصراخ ؛ في مقابل الراتب الشحيح ، وقلة التقدير.
وقفتا إلى جواري باعتداد وقد ارتسمت علامات الجدية فوق الوجوه المضيئة.
(.. ما زلن صغارا ؛وحين يكبرن ، ويدركن الحقيقة .. سيضحكن قليلا ويبكين كثيرا)
وضعت حقيبتي على رصيف الشارع ، وفركت كفيي بشدة، وانتابتني هزات متتابعة من العطس الشديد. كان أنفي ينفجر بما تيسر من ماء مخاطي غزير . شعرت بشيء من دوار، وارتبكت وأنا أبحث في جيوبي عن منديلي، أو أي شيء أخبيء فيه فضيحتي... دون جدوى.
ابتسمت إحداهن، وتقدمت ببراءة ، مادة يدها لي بمنديل ورقي نظيف, ذي رائحة زكية.