"عنـــدليب الـــربيع"
"1"
وجدته صاحبا لي في الليالي الباردة، الممطرة، كان بجواري يبتسم لي في حنان، كلما أطلقت لدموعي العنان، أجده يضحك ملء شدقيه وكأن بكائي يسعده، وعندما ينجلي الشتاء أبحث عنه، تتوه عيني في ممرات طويلة ودهاليز معتمة، أحاول وأحاول ولا أجد لمحاولاتي صدى سوى أنها مجرد محاولات فاشلة، عقيمة، تولدت منذ اللحظة الأولى التي ولدت فيها هذه المشاعر المكبوتة.
اعتدتُ دائما الجلوس وحدي، لا أعرف من الحياة أشياء كثيرة، كنت أستمع وأستمع، دون أن يتفوّه لساني بأية كلمة، وعندما يأتي الليل، تمتد يداي الصغيرتان، تتحسسان الظلام الذي اتخذت منه ممرا لا أعرف إلى أين يقودني؟
أنتظر الشتاء بفارغ الصبر، أجدني غارقة في أغوار كهف سحيق، أريد الخروج منه فلا أستطيع. وعندما يأتي الربيع، أقترب من شذرات زهوره، أنام بقربها، أشعر به يغوص في أعماقي، فأنطلق بالضحك حتى يحمرّ خدي. يخبرني بحكايات كثيرة، يريني صورا جميلة، من بينها صورتي، أغمض عيني بسعادة، وهو يمسد بيديه على رأسي، يخبرني بأنه يعشق ألوان الغروب. أرى في عينيه نظرات حزن مفجوعة، فتنقلب السعادة في وجهي، وأغيب مع ذبول الليل وسواده.
"2"
يأتيني صوته ناعسا، ناعما، كهسيس الماء. يبوح لي بأنه لم يأت إلى هنا إلا من أجلي، فأطير فرحة، ضاحكة، وأنا أغمس أصابعي في الليالي الهائمة، وأبقي نوافذي طيلة الشتاء مشرعة، لعله يدخل إليّ، يتدفأ من ضوئي الحنون.
"3"
مَن يراني وأنا جالسة، أحملق في البنايات العالية، وجسدي يرتعش ببرودة قارصة، لا تمل أن تعمل فأسها في عظامي دون رحمة، يظنني عاشقة لهسهسات الريح، ونسماتها الباردة. ولكنني في هذه اللحظة كنت غائبة عن الوجود، وقد اشتعلت في عقلي حرارة وداعه، همهماته، ورفرفات جناحيه، وهي تمسح عبراتي الساخنة.
يخيّم على غرفتي وجوم لم أعهده من قبل، كلا لقد عهدته دائما حينما يرحل، يخبرني أن عالمه لن يعيش طويلا، إذا ابتعد بغنائه عنه، فأتشبث به، وأشهق، ثم تروح عيناي في بكاء لا ينقطع، فلا يفتأ فجره يعانقني وبحنان.
"4"
كل ليلة ينكسر شيء ما في داخلي، الليل يأتي، ينجلي، والفجر ينثر ضوءه، وينعم الكل بالنهار، ثم هكذا، وأنا قابعة هناك في غرفتي، أحتمل متاهاتهم، فأستفرغ أسئلة لا حصر لها. يأتي الشتاء، أتراقص فرحة متناسية حصار الربيع رغم دفئه، أنتظره، لأنه وعدني بأنه سيعود من أجلي.
تعود أصوات المطر المنهمرة على أسطح المنازل، توقظني من لحظة سكون غرقت فيها، أرهف سمعي، وينسال حزني بغتة على الأوراق التي تغطي خزانة قلبي. يطاردني صوته، صورته، ضحكته المنطلقة كنسمة الربيع الدافئة، أشعر بأنني سأغدو أسيرة الصمت الثقيل، المتوجس، أخشى أن يطول هذا الصمت، ويحشر جسدي بين ضلفتيه. سيأتي، أليس كذلك؟ لقد أخبرني بأنه سيضمني إلى حديقة أزهاره، سوف أصبح أجمل زهرة في بستانه، سيغرد بألحانه الآسرة للقلوب.
"5"
نظراتهم تحيط بي إشفاقا، وجوههم الغائمة تنساب بين شتاء يكاد يرحل حاملا بقايا من أمتعته التي تناثرت في أماكن عديدة من مدينتنا الكئيبة. الحياة أصبحت خاوية، جفت غدرانها، يبست أوراقها، وغدت بيوتها مهجورة، حتى البشر يموتون ليس جوعا وحسرة، إنما حزنا وغما. لا تزال نظراتهم إلي، إنها توجعني، تجعلني أريد الرحيل معه، لقد مرت سنوات وأنا أنتظره، لا أدري كم عددها؟ ولكن كل يوم من هذه الأعوام، كنت أدونه هنا، على ملامحي، رفيقاتي يحملقن بي بسخرية، وأسرتي ترمقني بنيران الإشفاق، فأحترق فيها، حتى يضحى جسدي متفحما، فأعود أتشبث بحلم قديم، يوم أن حضن يدي ذات مساء دافئ، عندها رأيت في عينيه، كل الشطآن والجداول، الأزهار والطيور، العصافير والأشجار، ورأيت فراشة، نعم فراشة جميلة، ملامحها ليست غريبة عني، كملامحي، كعيني، وتقاطيع وجهي.
"6"
النعاس يشدني إليه هذه الليلة، لا أريد النوم، فكم من مساءات كثيرة توسلت فيها للنوم أن يأتيني، فرفض، وتركني غارقة، أسترق النظر إلى القمر في لهفة. ماذا أرى كلا، إنني أحلم، تتراءى إليّ كوكبة من النور، تغمرني، أضمّ بعضا من دهشتي إلى صدري، وعقلي يجر سؤالا وراء سؤال. ثم رأيته، نعم، إنه هو، لقد وفى بوعده وأتى، شعرت بأنفاسه العطرة قربي، فضحكت كما اعتدت أن أفعل دائما. هذه المرة لن يحلق وحده، سألحقه وسنغني معا.